عبير التاريخ

محـنـة الـعلمــاء

رأى الإمام الشافعي رضَي اللّه عنه وهو في مصر النبي صلى اللّه عليه وسلم في المنام فأخبره (أنَّ المحنة ستكون، وأن الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتاباً وختمه، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه له ولا تقرأ، فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه. فلمَّا جاء عند موضع فيه. بكى، قلت له: ما يبكيك يا أبا عبد اللّه؟ قال لي: الشافعي يذكر لي أنَّ الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشره أن سأمتحن!! وأنا أسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يحقق ذلك قريب.قال الربيع: فقلت للإمام: هذه بشرى فأين جائزتي؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه الذي يلي جلده وأعطاه لي. فلمَّا رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد.كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات، ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن إسحاق بن حنبل فقال:رأيت في المنام صديقاً اسمه علي بن عاصم'' واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشاراً كبيراً وقال: إنَّ عليا تفيد علو المنزلة، وعاصماً تفيد العصمة في الفتنة. ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسياً وعقلياً للنزال والنضال. بدأت المحنة سنة 812هـ بورود كتاب المأمون، على عامله في بغداد، أن يجمع العلماء من قضاء وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل أنه مخلوق عزله، وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء، فأقروا جميعاً إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه. وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح على الطريق فبقي أحمد رضي اللّه عنه وحده، وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة، وانصبت الأضواء كلها عليه، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة.وولي المعتصم وكان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحداً، ولبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضراً مع اللّه. وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب اللّه أو من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وحمل إلى حضرة المعتصم. وجرت المناقشة إمامه، فكان يصرَّ على هذا الرد ويقول: ''أعطوني شيئاً من كتاب اللّه أو من سنة رسوله''. وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد. فلم يؤثر ذلك فيه أثر.وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: ''إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون''. وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن يخاف الضرب، يخشى ألاّ يحتمل فتهزم فكرته. فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن. ''أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل اللّه، إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس شيئاً'' فهوَّن ذلك عليه.ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ضهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديث.فقال المعتصم للجلاد: شد قطع اللّه يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه.

وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك مَن مِن أصحابك فعل هذا؟.وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل اللّه تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} قال أحمد رضي اللّه عنه: يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا اللّه معهم الدفاتر والأقلام. قال: أي شيء تعلمون؟ قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع. قال: يا مروزي أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟

أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!.

محمد صفوت جعفر


المركز الثقافي الإسلامي – بروكسل


أحد مساجد سنغافورة


أحد مساجد بروناي


أحد مساجد المغرب