القــراءات والأحرف السبعـة

اشراقــات صوفيــة

 

القـراءات والأحرف السبعـة

يقترن اسم القراءات بالأحرف السبعة، ويتبادر إلى الأذهان أن القراءات هي الأحرف، وبخاصة بعد أن اشتهرت القراءات السبع في الأمصار وأصبح الناس يتحدثون عن قراءات سبع وأحرف سبعة.والأحرف السبعة هي التي جاء الحديث الصحيح بالإشارة إليها في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر) وقد روي هذا الحديث عن جمع كبير من الصحابة، فقد روى الحافظ أبو يعلى أن عثمان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر أذكر الله رجلاً سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كاف. لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم وتوافق هذه الجموع التي لم تحص عدداً على هذا الموضوع حمل بعض الأئمة على القول بتواتر الحديث، وفي طليعة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلام، وإذا لم يتوافر التواتر في الطبقات المتأخرة، فحسبنا صحة الأحاديث التي ذكرناها مؤكَّداً لهذه الحقيقة الدينية التي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة واختار القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني هذا الرأي وقال: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف وأخبروا بصحتها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواتراً وعبارة الأحرف وهي جمع حرف ـ الوارد في الحديث تقع على معانٍ مختلفة، فقد تكون بمعنى القراءة كقول ابن الجزري: كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر وقد تفيد المعنى والجهة كما يقول أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي وحكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي شيخ العربية أن القراءات هي الأحرف، ولن تجد كتاباً تعرض لهذه المسألة إلا أشار لهذا القول بالتوهين والتضعيف.وأحب هنا أن أوضح رأي العلامة الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي، فهو بلا ريـب إمـام العـربيـة وحجـة النحـاة، ولاشـك أن انفـراده بالـرأي هنـا لـم ينتـج من قلة إحاطة أو تدبر، ومثله لا يقول الرأي بلا استبصار، وانفراد مثله برأي لا يلزم منه وصف الرأي بالشذوذ أو الوهن! وغير غائب عن البال أن الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي توفي عام 170 هـ لم يدرك عصر تسبيع القراءات، حيث لم تشتهر عبارة القراءات السبع إلا أيام ابن مجاهد، وهو الذي توفي عام 324 هـ . ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءاً من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لم يتيسر من يجمعها بعد ـ أي في زمن الخليل ـ وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف.وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زماناً ومكاناً، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل وهو أمر لا يجهله أحد.وكذلك أشير هنا إلى رأي شيخ المفسرين الإمام الطبري زمناً ثم الذي كان يرى أن الأحرف السبعة منهج في الإقراء أذن به النبي - صلى الله عليه وسلم - نسخه قبل أن يلقاه الأجل، وهكذا فقد مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بين الناس إلا حرف واحد، وأن هذه القراءات المتواترة اليوم مهما بلغت كثرة إنما تدور ضمن هذا الحرف الواحد الذي أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإقراء والرواية به ومن أدلته على نسخ الأحرف السبعة أنها لو كانت قرآناً باقياً لم تكن لتخفى عن الأمة بعد أن تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه العظيم في قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وكذلك حصول الاختلاف في فهمها، وتحديد المراد بها، وقد قال الله سبحانه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}. ومن أدلته على ذلك أن المروي عن السلف في الأحرف السبعة لا يتفق والرسم القرآني، فلم يكن ثمة مندوحة من القول بنسخ ذلك، وقد نقل مكي بن طالب القيسي في الإبانة رأي الطبري فقال: يذهب الطبري إلى أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن إنما هي تبديل كلمة في موضع كلمة، يختلف الخط بهما، ونقص كلمة، وزيادة أخرى، فمنع خط المصحف المجمع عليه مـما زاد على حرف واحد لأن الاختلاف عنده لا يقع إلا بتغيير الخط في رأي العين. فالقراءات التي في أيدي الناس اليوم كلها عنده حرف واحد من الأحرف السبعة التي نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والستة الأحرف الباقية قد سقطت، وبطل العمل بها بالإجماع على خط المصحف المكتوب على حرف واحدوقد لخص الطبري مذهبه بقوله: فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية

والخلاصة أن اختيار الطبري متجه إلى أن الأحرف السبعة رفعت من القرآن الكريم، وأنها كانت إذناً من الله عز وجل يتضمن التخفيف عن الأمة حتى إذا هدمت حواجز كثيرة كانت تحول بين قبائل العرب، ردهم الله عز وجل إلى حرف واحد، ولكنه أذن أن يقرأ هذا الحرف بلهجات مختلفة هي القراءات التي ثبتت إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم - تواتراً وأداءً.وقد نص الطبري على هذا التعليل بعينه حين قال: فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركه، طـاعة منهـا لـه، ونظــراً منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين إلى رفض القراءة بها من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، ولكن نظراً منها لأنفسها ولسائر أهل دينها وبعد تفصيل رأي الفراهيدي واختيار الطبري أضع بين يديك اختيار الجمهور فقد رأى جمهور المفسرين أن الأحرف السبعة باقية في التنزيل وقد استوعبتها المصاحف العثمانية، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما أذن به النبي - صلى الله عليه وسلم -.وقد اعتبر الإمام أبو الفضل الرازي ممثلاً لرأي الجمهور، وقد نهج من جاء بعده على منواله في اختياره، وننقل لك هنا اختياره كالتالي:

الكلام لا يخرج عن سبعة أحرفٍ في الاختلاف:الأول: اختلاف الأسماء من إفرادٍ، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث، مثاله قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. قرىء هكذا: {لأماناتهم} جمعاً وقرىء {لأمانتهم} بالإفراد.الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارعٍ وأمر. مثاله: قوله تعالى: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} قرىء هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى وبلفظ باعِد فعل أمر، وقرىء هكذا {ربُّنا بعَّد} برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعد فعلاً ماضياً مضعَّف العين جملته خبر.الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، مثاله: قوله تعالى: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} قريء بفتح الراء وضَمِّها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أنَّ لا نافية، فالفعل مرفوع بعده.الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة: مثال: قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} قريء بهذا اللفظ وقريءَ أيضاً والذكر والأنثى بنقص كلمة ما خلق.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير: مثاله: قوله تعالى:{وجاءت سكرة الموت} وقريء وجاءت سكرة الحق بالموت. السادس: الاختلاف بالإبدال: مثاله: قوله تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} بالزاي وقريء ننشرها بالرَّاء.السابع: اختلاف اللغات اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك، مثاله قوله تعالى: {بلى قادرين} قريءَ بالفتح والإمالة في لفظ بلى.وعلى اختيار الرازي هذا جاءت آراء جماهير علماء القرآن، وأشهر من حرر هذه المسـألة ابن قتيبة في المشكـل، والطيب الباقلاني في الإعجاز، وابن الجزري، وإن يكن لكل واحد منهم وجه انفراد، غير أنهم التزموا منهج الوجوه السبعة المذكورة مع تغيير طفيف. ونطوي القول في مسألة القراءات والأحرف عند هذا الحد، مع أننا لم نحسم الجدل المستمر في تحقيق ضوابط ما بين القراءة والحرف، إذ ليس ذلك من شرط هذه الدراسة، ولكن الاطلاع على الأقوال المختارة في الباب يكشف لنا عن سبيل الإحاطة بهذه المعارف، وبحسبي أن أجزم هنا أن الأحرف السبعة الواردة في السنن الصحاح هي معنى آخر في التنزيل، متصل بالأداء، مختلف عن معنى القراءات ودلالته، مع.

من دراسات د.محمد الحبش

 اشراقــات صوفيــة

الـمـراقـبــــة -3

لقد قال الإمام القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} النساء ما نصه:... وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - الذي رأى الأذان-: يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية. وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي مكانه.وحكاه القشيري فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئاً بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي، فعمي مكانه.وحكى الثعلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له: (يا ثوبان ما غير لونك) فقال: يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي.وأسند عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا؛ فأنزل الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين}... وهي المعية الدائمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حين.

شوق الصحابة إليه صلوات الله وسلامه عليه

وفى الحديث: كان رجل عند النبى صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطرف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بالك قال: بأبى أنت وأمى: أتمتع بالنظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله فأنزل الله الأية) الشفا: للقاضي عياض. وأمثال وأشباه هذا كثير في تفاسير القرآن وأقوال العلماء وما كان ليحرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحرص على رؤيته صلى الله عليه وسلم حتى تنحل أجسادهم ويتمنى بعضهم ألا يرى بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيء إلا لحقيقة أنه برؤيته صلى الله عليه وسلم بأعينهم أو مناماً أو تخيلاً تتم الصالحات. فقد كانوا مراقبين له صلى الله عليه وسلم وحفظ الله قلوبهم من الخواطر بفضل رؤيته صلى الله عليه وسلم وسموا صحابة رسول الله وأصل التسمية أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم جسداً لجسد في حال حياته واقتدوا به وهذه أعلى رتبة قد يوضع فيها مسلم وهو أن يكون صحابياً ولا ينالها إلا من تفضل عليه الله تعالى برؤيته صلى الله عليه وسلم حال حياته فانظر وتفكر.

يظهر مما سبق أن المراقبة كانت تحصل للصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين من شدة محبتهم وكمال اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك كان حصوله للتابعين وأتباعهم من صحبة الخلفاء الراشدين والأئمة المرشدين ومع تمادي الزمان وتكدر قلوب الأنام بالأشغال الدنيوية وفتور عزائمهم في المحبة بالإخلاص التام احتاجوا إلى التنبيه عليها والتصريح بها فأمر الخلفاء المرشدين شيوخ العلم والتربية السالكين بالتكليف بها لجمع قلوبهم وتلقيح أرواحهم بأرواحهم وتأليفها لأجل الاستفادة منهم ثم عبّروا عن هذه المحبة الروحانية الدينية بالمراقبة.

أحمد عبد المالك