من تفاسير القرآن الكريم

جبر الخواطر

 

من تفاسير القرآن الكريم

قال تعالى في سورة الكهف: ﴿فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه إئتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخــذ سبيله في البحــر عجبـا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علماً .

قوله تعالى: ﴿فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا، الضمير في قوله (بينهما) للبحرين، قال مجاهد: والسرب المسلك، قاله مجاهد، وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب،وجمهور المفسرين: أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر. وقوله: ﴿نسيا حوتهما وإنما كان النسيان من الفتى وحده، فقيل المعنى: نسي أن يعلم موسى بما رأى في حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة كقوله تعالى: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان سورة الرحمن (22) وإنما يخرج من الملح وقوله: ﴿يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فذلك قوله عزّ وجل: ﴿وإذ قال موسى لفتاه. يوشع بن نون - ليست عن سعيد قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم - فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر، قال لي عمرو: هكذا كان أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما، وفي رواية وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: ﴿آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال لفتاه: ﴿أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى: (نسيا)، فنسب النسيان إليهما، وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا: ﴿فلما جاوزا، يعني الحوت هناك منسيا - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكاً في النسيان، لأن النسيان التأخير، من ذلك قولهم في الدعاء ﴿أنسأ الله في أجلك، فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما، فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت، وقوله تعالى: ﴿آتنا غداءنا فيه مسألة واحدة وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد، وفي صحيح البخاري: أن أناساً من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا سألوا الناسب، فأنزل الله تعالى: (وتزودوا)، وقد مضى هذا في (البقرة) واختلف في زاد موسى ما كان، فقال ابن عباس: كان حوتاً مملوحاً في زنبيل وكان الحوت جرى البحر فتحرك الحوت في المكتل، فقلب المكتل وانسرب الحوت ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل إنما كان الحوت دليلاً على موضع الخضر لقوله في الحديث: أحمل معك حوتاً في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثَم، وعلى هذا فيكون تزود شيئاً آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا أبو العباس واختاره وقال ابن عطية: قال أبي رضي الله عنه سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم وقوله: (نصبا) - أي تعباً - والنصب التعب والمشقة، وقيل عنى به الجوع، وهذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وإن ذلك لا يقدح في الرضا ولا في التسليم للقضاء ولكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر أو سخط وفي قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)، أن مع الفعل بتأويل المصدر وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في (أنسانيه)، وهو بدل الظاهر في المضمر أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وفي مصحف عبد الله ﴿وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فقال: ما كلفت كثيراً فاعتذر بذلك القول. قوله تعالى: ﴿واتخذ سبيله في البحر عجبا، يحتمل أن يكون من قول يوسع لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس ويحتمل أن يكون قوله: ﴿واتخذ سبيله في البحر، تمام الخبر ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه (عجبا) لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته -أتيت به- فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء، قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة تحتها شوكة. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿واتخذ سبيله إخباراً من الله تعالى وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه. وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مست قط شيئاً إلا حيي وفي التفسير: إن العلاقة كانت أن يحيا الحوت فقيل لما نزل موسى بعدما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ولا يصيب ماؤها شيئاً إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش وذكر صاحب كتاب (العروس) أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي والله أعلم.

قوله تعالى: ﴿ذلك ما كنا نبغي، أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب فإن الرجل الذي جئنا ثَمَّ فرجعا يقصان آثارهما لئلا يخطئا طريقهما وفي البخاري: فوجدا خضراً على طنفسه خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام ؟ من أنت ؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم، قال: فما شأنك ؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشد. الحديث وقال الثعلبي في كتاب (العرائس) إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه فقال: وأنى بأرضنا السلام ؟ ثم رفع رأسه واستوى جالساً وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك إني نبي بني إسرائيل ؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي، ثم قال: يا موسى لقد كان ذلك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ثم جلسا يتحدثان فجاءت خُطَّافة وحملت بمنقارها من الماء وذكر الحديث على ما يأتي. قوله تعالى: ﴿فوجدا عبداً من عبادنا، العبد هو الخضر عليه السلام من قول الجمهور وبمقتضى الأحاديث الثابتة، وخالف من لا يعتد بقوله فقال: ليس صاحب موسى بالخضر، بل هو عالم آخر، وحكى أيضاً هذا القول القشيري فقال: وقال قوم هو عبدٌ صالح والصحيح أنه كان الخضر بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى أخضر ما حوله، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الأرض قاله الخطابي وغيره والخضر نبي عند الجمهور وقيل: هو عبد صالح غير نبي والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي، وأيضاً فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي وقيل: كان ملكاً أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن، والأول الصحيح والله أعلم.

قوله تعالى ﴿آتيناه رحمة من عندنا الرحمة في هذه الآية النبوة. وقيل النعمة. ﴿وعلمناه من لدنا علما أي علم الغيب - ابن عطية - كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطى ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.

الأمين إبراهيم العقلي

بالحقائق ناطقين

جبر الخواطر

الإنسان في كيانه الداخلي ما هو إلا التقاء عدة أحاسيس ومشاعر وخواطر حسية مختلفة منها ما هو عميق وحميد ومنها ما هو غير ذلك من المشاعر المتضادة وهذه هي الطبيعة الفطرية الإنسانية التي لا تخضع لمقاييس ثابتة في كيفية التعبير عنها ففي بعض الأحيان نجد أن الفرد منا يميل إلى إبراز قوته دون دواعي واضحة لذلك سوى مظاهر ضعف أو خطأ برزت لدى الطرف الآخر ويميل إلى حب السيطرة وأحياناً أخرى إلى إسداء العطف نحو الآخر ولكن بين الحين والآخر دائماً ما يميل إلى استشعار مشاعر العطف والمحنة والأحاسيس الطيبة لدى الآخرين منها ما يمثل خطوط عريضة بعيدة المدى بارزة المعنى ذات مدلول قوي وثابت ومظهر بسيط وفحوى عميق كدلالة لمعالم الإنسانية السامية وهي جبر الخواطر وأضحت في مجتمعنا المعاصر كلمة على هامش الحياة حتى يأتي يوم تنثر فيه رويداً رويد.

ومن خلال هذه النافذة نسلط الضوء على أهمية هذه الكلمة واحتياجنا إليها في ظل هذا المجتمع الذي لا يرحم وهذه الحياة ذات الطابع الجاف الرتيب والروتين القاتل وبالتالي إعادة إعمار العلاقات الإنسانية بين الناس من خلال جبر الخواطر بأي صورة كانت وبأي شكل من الأشكال سواء كان من خلال العفو والصفح أو التسامح وتبادل الهدايا في أقل معناها ولو كلمة طيبة وتقبل كل هذه الأوجه برحابة صدر وطيب خاطر، لأن المعنى واحد هو جبر الخواطر. قال صلى الله عليه وسلم: (ما عُبِدَ الله بشيء أحب إليه من جبر الخواطر). هنا اقترنت كلمة جبر الخواطر بالعبادة لما لها من أثر طيب وفاعل في نفوس البشرية.

ومن أرفع وأعمق معاني جبر الخواطر العفو عن المخطئين والصفح عن المسيئين واحتوائهم من قسوة ما كانوا عليه، وما أحوجنا إليه في يومنا هذا، وكلنا ظمأى له كيف لا وهذا ديدن الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله عنه وآل بيته الكرام والذي قال:

إذا بسطتم كف صفحٍ فامسحــوا        دمـع المسيء ودونـما إيــلام

فهل يوجد أسمى وأقوم من هذا المعنى العميق الصادق لكلمة جبر الخواطر ؟

هادية الشلالي