التحفة
البهية
والدرة
السنية في
فانوس السادة الصوفية
إعتاد
المتصوفة على
وضع فانوس
مصنوع من سبع
خوصات من
الحديد وبه
إضاءة ومغطى
بزى من القماش
يحمل شارتهم
وبأعلاه حلقة
يحمل منها وهو
من باب المثال..
ولكن لفهم هذا المثال والحكمة من وضعه فـي وسط حلقة الذكر وجب علينا عرض تفسير
الآية الكريمة التى أُخذ هذا الفانوس ليذكر الذاكرين بأن يتمسكوا بمعناها وهى: قوله
تعالى:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاح فـي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّى يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ
نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىء عَلِيمٌ﴾
سورة
النور:
35
تفسير
القرطبى:النور
فـي كلام
العرب: الأضواء
المدركة
بالبصر. واستعمل
مجازا فيما صح
من المعانى
ولاح فيقال
منه: كلام له
نور. ومنه: الكتاب
المنير، ومنه
قول الشاعر:
نسب كأن
عليه من شمس
الضحا�� نورا
ومن فلق
الصباح عمــودا
والناس
يقولون: فلان
نور البلد،
وشمس العصر
وقمرالزمان���������
وقال:��� فإنك
شمس والملوك
كواكب
وقال
آخر:
هلا
خصصت من
البلاد
بمقصد�� قمر
القبائل خالد
بـن يـزيـد
وقال
آخر:
إذا سار
عبد الله من
مرو ليلة�� فقد سار
منها نورها
وجمالها
فيجوز
أن يقال: لله
تعالى نور من
جهة المدح
لأنه أوجد
الأشياء ونور
جميع الأشياء
منه ابتداؤها
وعنه صدورها
وهو سبحانه
ليس من
الأضواء
المدركة جل
وتعالى عما
يقول
الظالمون
علوا كبير. وقد
قال هشام
الجوالقى
وطائفة من
المجسمة: هو
نور لا
كالأنوار،
وجسم لا
كالأجسام. وهذا
كله محال على
الله تعالى
عقلا ونقلا
على ما يعرف
فـي موضعه من
علم الكلام. ثم
إن قولهم
متناقض، فإن
قولهم جسم أو
نور حكم عليه
بحقيقة ذلك، وقولهم
لا كالأنوار
ولا كالأجسام
نفى لما أثبتوه
من الجسمية
والنور، وذلك
متناقض، وتحقيقه
فـي علم
الكلام. والذى
أوقعهم فـي
ذلك ظواهر
اتبعوها منها
هذه الآية،
وقول عليه
السلام إذا
قام من الليل
يتهجد (اللهم
لك الحمد أنت
نور السموات
والأرض). وقال
عليه السلام
وقد سئل: هل
رأيت ربك؟
فقال: (رأيت
نورا). إلى غير ذلك من الأحاديث.
واختلف
العلماء فـي
تأويل هذه
الآية، فقيل: المعنى
أى به وبقدرته
أنارت
أضواؤها،
واستقامت
أمورها،
وقامت
مصنوعاته. فالكلام
على التقريب
للذهن، كما
يقال: الملك
نور أهل
البلد، أى به
قوام أمرها
وصلاح جملتها،
لجريان أموره
على سنن
السداد. فهو
فـي الملك
مجاز، وهو فـي
صفة الله
حقيقة محضة،
إذ هو الذى
أبدع
الموجودات
وخلق العقل نورا
هاديا، لأن
ظهور الموجود
به حصل كما
حصل بالضوء ع
ظهور
المبصرات،
تبارك وتعالى
لا رب غيره. قال
معناه مجاهد
والزهرى
وغيرهم. قال
ابن عرفة: أى
منور السموات
والأرض. وكذا
قال الضحاك
والقرظى. كما
يقولون: فلان
غياثنا، أى
مغيثن. وفلان
زادي، أى
مزودى. قال
جرير:
وأنت
لنا نور وغيث
وعصمة�� ونبت
لمن يرجو نداك
وريـق
أى ذو
ورق. وقال
مجاهد: مدبر
الأمور فـي
السموات
والأرض. أبى
بن كعب والحسن
وأبو العالية:
مزين السموات
بالشمس
والقمر
والنجوم،
ومزين الأرض
بالأنبياء
والعلماء
والمؤمنين. وقال
ابن عباس وأنس:
المعنى الله
هادى أهل
السموات
والأرض. والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل.
قوله
تعالى:
﴿مثل
نوره﴾ أى صفة
دلائله التى
يقذفها فـي
قلب المؤمن،
والدلائل تسمى
نور. وقد سمى
الله تعالى
كتابه نورا
فقال:
﴿وأنزلنا
إليكم نورا
مبينا﴾ النساء174
وسمى نبيه
نورا فقال:
﴿قد
جاءكم من الله
نور وكتاب
مبين﴾ المائدة15.
وهذا لأن
الكتاب يهدى
ويبين، وكذلك
الرسول. ووجه
الإضافة إلى
الله تعالى
أنه مثبت
الدلالة
ومبينها
وواضعه. وتحتمل
الآية معنى
آخر ليس فيه
مقابلة جزء من
المثال بجزء
من الممثل به،
بل وقع
التشبيه فيه
جملة بجملة،
وذلك أن يريد
مثل نور الله
الذى هو هداه
وإتقانه صنعة
كل مخلوق
وبراهينه الساطعة
على الجملة،
كهذه الجملة
من النور الذى
تتخذونه أنتم
على هذه
الصفة، التى
هى أبلغ صفات
النور الذى
بين أيدى
الناس، فمثل
نور الله فـي
الوضوح كهذا
الذى هو
منتهاكم أيها
البشر. والمشكاة:
الكوة فـي
الحائط غير
النافذة، قال
ابن جبير وجمهور
المفسرين،
وهى أجمع
للضوء،
والمصباح
فيها أكثر
إنارة منه فـي
غيرها،
وأصلها
الوعاء يجعل
فيه الشىء. والمشكاة
وعاء من أدم
كالدلو يبرد
فيها الماء،
وهو على وزن
مفعلة
كالمقراة
والمصفاة. قال
الشاعر:
كأن
عينيه
مشكاتان فـي
حجر�� قيضا
اقتياضا
بأطراف
المناقير
وقيل: المشكاة
عمود القنديل
الذى فيه
الفتيلة. وقال
مجاهد: هى
القنديل. وقال
(فى زجاجة) لأنه
جسم شفاف،
والمصباح فيه
أنور منه فـي
غير الزجاج. والمصباح:
الفتيل بناره
﴿كأنها
كوكب دري﴾ أى
فـي الإنارة
والضوء. وذلك
يحتمل معنيين:
إما أن يريد
أنها
بالمصباح
كذلك، وإما أن
يريد أنها فـي
نفسها
لصفائها
وجودة جوهرها
كذلك. وهذا
التأويل أبلغ
فـي التعاون
على النور. قال الضحاك: الكوكب
الدرى هو الزهرة.
قوله
تعالى:
﴿يوقد
من شجرة
مباركة﴾ أى من
زيت شجرة،
فحذف المضاف. والمبارة
المنماة،
والزيتون من
أعظم الثمار
نماء،
والرمان كذلك.
والمعنى
يقتضى ذلك. وقول
أبى طالب يرثى
مسافر بن أبى
عمرو بن أمية
بن عبد شمس:
ليت
شعرى مسافر بن
أبى عمــ��
رو وليت
يقولها
المحــــزون
بورك
الميت الغريب
كما بـــو�� رك نبع
الرمان
والزيتــــون
وقيل: من
بركتهما أن
أغصانهما
تورق من
أسفلها إلى أعلاه.
وقال ابن عباس:
فـي الزيتونة
منافع، يسرج
بالزيت، وهو
إدام ودهان
ودباغ، ووقود
يوقد بحطبه
وتفله، وليس
فيه شىء إلا
وفيه منفعة،
حتى الرماد يغسل
به الإبريسم. وهى
أول شجرة نبتت
فـي الدنيا،
وأول شجرة نبتت
بعد الطوفان،
وتنبت فـي
منازل
الأنبياء والأرض
المقدسة،
ودعا لها
سبعون نبيا
بالبركة،
منهم
إبراهيم،
ومنهم محمد
صلى الله عليه
وسلم فإنه قال:
(اللهم بارك فـي
الزيت
والزيتون). قاله مرتين.
قوله
تعالى:
﴿لا
شرقية ولا
غربية﴾ اختلف
العلماء فـي
قوله تعالى:
﴿لا
شرقية ولا
غربية﴾ فقال
ابن عباس
وعكرمة
وقتادة
وغيرهم: الشرقية
التى تصيبها
الشمس إذا
شرقت ولا تصيبها
إذا غربت لأن
لها ستر. والغربية
عكسها، أى
أنها شجرة فـي
صحراء ومنكشف
من الأرض لا
يواريها عن
الشمس شىء وهو
أجود لزيتها،
فليست خالصة
للشرق فتسمى شرقية
ولا للغرب
فتسمى غربية،
بل هى شرقية
غربية. وقال
الطبرى عن ابن
عباس: إنها
شجرة فـي دوحة
قد أحاطت بها،
فهى غير منكشفة
من جهة الشرق
ولا من جهة
الغرب. قال
ابن عطية: وهذا
قول لا يصح عن
ابن عباس لأن
الثمرة التى
بهذه الصفة
يفسد جناها
وذلك مشاهد
فـي الوجود. وقال
الحسن: ليست
هذه الشجرة من
شجر الدنيا،
وإنما هو مثل ضربه
الله تعالى
لنوره، ولو
كانت فـي
الدنيا لكانت
إما شرقية
وإما غربية. الثعلبى:
وقد أفصح
القرآن بأنها
من شجر الدنيا،
لأنها بدل من
الشجرة، فقال (زيتونة).
وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقى ولا غربى، وشجر الشأم هو
أفضل الشجر، وهى الأرض المباركة، و(شرقية) نعت لزيتونة، و(لا) ليست تحول بين النعت
والمنعوت، (ولا غربية) عطف عليه.
قوله
تعالى:
﴿يكاد
زيتها يضىء
ولو لم تمسسه
نار﴾ مبالغة
فـي حسنه
وصفائه
وجودته.
﴿نور
على نور﴾ أى
اجتمع فـي
المشكاة ضوء
المصباح إلى
ضوء الزجاجة
وإلى ضوء
الزيت فصار
لذلك نور على
نور. واعتقلت
هذه الأنوار
فـي المشكاة
فصارت كأنور
ما يكون فكذلك
براهين الله
تعالى واضحة
وهى برهان بعد
برهان، وتنبيه
بعد تنبيه،
كإرساله
الرسل
وإنزاله الكتب،
ومواعظ تتكرر
فيها لمن له
عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه
لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله لعباد فـي ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة
والنظر المؤدى إلى الإيمان.
وقرأ
عبدالله بن
عياش بن أبى
ربيعة وأبو
عبدالرحمن السلمى
﴿الله نور﴾ بفتح
النون والواو
المشددة. واختلف
المتأولون
فـي عود
الضمير فـي (نوره)
على من يعود،
فقال كعب
الأحبار وابن
جبير: هو عائد
على محمد صلى
الله عليه
وسلم، أى مثل نور
محمد صلى الله
عليه وسلم. قال
ابن الأنبارى:
﴿الله نور
السموات
والأرض﴾ وقف
حسن، ثم تبتدئ
﴿مثل نوره
كمشكاة فيها
مصباح﴾ على
معنى نور محمد
صلى. وقال أبى
بن كعب وابن
جبير أيضا
والضحاك: هو
عائد على
المؤمنين. وفى
قراءة أبى (مثل
نور المؤمنين).
وروى أن فـي
قراءته (مثل
نور المؤمن). وروى أن فيها
(مثل نور من آمن به).
وقال
الحسن: هو
عائد على
القرآن
والإيمان. قال
مكى: وعلى هذه
الأقوال يوقف
على قوله: (والأرض).
قال ابن عطية: وهذه
الأقوال فيها
عود الضمير
على من لم يجر
له ذكر، وفيها
مقابلة جزء من
المثال جزء من
الممثل فعلى
من قال: الممثل
به محمد صلى
الله عليه
وسلم، وهو قول
كعب الحبر،
فرسول الله
صلى الله عليه
وسلم هو
المشكاة أو
صدره
والمصباح هو
النبوة وما
يتصل بها من
عمله وهداه،
والزجاجة قلبه،
والشجرة
المباركة هى
الوحى،
والملائكة
رسل الله إليه
وسببه المتصل
به، والزيت هو
الحجج
والبراهين
والآيات التى
تضمنها الوحى.
ومن قال: الممثل
به المؤمن،
وهو قول أبى،
فالمشكاة
صدره،
والمصباح
الإيمان
والعلم، والزجاجة
قلبه، وزيتها
هو الحجج
والحكمة التى
تضمنه. قال
أبى: فهو على
أحسن الحال
يمشى فـي
الناس كالرجل
الحى يمشى فـي
قبور الأموات.
ومن قال: إن
الممثل به هو
القرآن
والإيمان،
فتقدير الكلام:
مثل نوره الذى
هو الإيمان
فـي صدر المؤمن
فـي قلبه
كمشكاة، أى
كهذه الجملة. وهذا
القول ليس فـي
مقابلة
التشبيه
كالأولين،
لأن المشكاة
ليست تقابل
الإيمان. وقالت
طائفة: الضمير
فـي (نوره) عائد
على الله
تعالى. وهذا
قول ابن عباس
فيما ذكر
الثعلبى
والماوردى
والمهدوى،
وقد تقدم
معناه. ولا يوقف على هذا القول على (الأرض).
قال
المهدوى: الهاء
لله عز وجل،
والتقدير: الله
هادى أهل
السموات
والأرض، مثل
هداه فـي قلوب
المؤمنين
كمشكاة، وروى
ذلك عن ابن
عباس. وكذلك
قال زيد بن
أسلم، والحسن:
إن الهاء لله
عز وجل. وكان
أبى وابن
مسعود
يقرآنها (مثل
نوره فـي قلب
المؤمن كمشكاة).
قال محمد بن
على الترمذى: فأما
غيرهما فلم
يقرأها فـي
التنزيل
هكذا، وقد
وافقهما فـي
التأويل أن
ذلك نوره قلب
المؤمن،
وتصديقه فـي
آية أخرى يقول:
﴿أفمن شرح
الله صدره
للإسلام فهو
على نور من ربه﴾
الزمر22. واعتل
الأولون بأن
قالوا: لا
يجوز أن يكون
الهاء لله عز
وجل، لأن الله
عز وجل لا حدّ
لنوره. وأمال
الكسائى فيما
روى عنه أبو
عمر الدورى الألف
من (مشكاة) وكسر
الكاف التى
قبله. وقرأ
نصر بن عاصم (زجاجة)
بفتح الزاى و(الزجاجة)
كذلك، وهى لغة.
وقرأ ابن عامر
وحفص عن عاصم (درى)
بضم الدال وشد
الياء، ولهذه
القراءة
وجهان: إما أن
ينسب الكوكب
إلى الدر
لبياضه
وصفائه، وإما
أن يكون أصله
درىء مهموز،
فعيل من الدرء
وهو الدفع،
وخففت الهمزة.
ويقال للنجوم العظام التى لا تعرف أسماؤها: الدرارى، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة،
والأصل من الدرء الذى هو الدفع.
وقرأ
حمزة وأبو بكر
عن عاصم (درىء) بالهمز
والمد، وهو
فعيل من
الدرء، بمعنى
أنها يدفع
بعضها بعض. وقرأ
الكسائى وأبو
عمرو (درىء) بكسر
الدال والهمز
من الدرء
والدفع، مثل
السكير
والفسيق. قال
سيبويه: أى
يدفع بعض ضوئه
بعضا من
لمعانه. قال
النحاس: وضعف
أبو عبيد
قراءة أبى
عمرو
والكسائى
تضعيفا شديدا،
لأنه تأولها
من درأت أى
دفعت، أى كوكب
يجرى من الأفق
إلى الأفق. وإذا
كان التأويل
على ما تأوله
لم يكن فـي
الكلام
فائدة، ولا
كان لهذا
الكوكب مزية
على أكثر
الكواكب، ألا
ترى أنه لا
يقال جاءنى
إنسان من بنى
آدم. ولا
ينبغى أن
يتأول لمثل
أبى عمرو
والكسائى مع
علمهما
وجلالتهما
هذا التأويل
البعيد، ولكن
التأويل لهما
على ما روى عن
محمد بن يزيد
أن معناهما
فـي ذلك: كوكب
مندفع
بالنور، كما
يقال: اندرأ
الحريق أن
اندفع. وهذا
تأويل صحيح
لهذه القراءة.
وحكى سعيد بن
مسعدة أنه
يقال: درأ
الكوكب بضوئه
إذا امتد ضوءه
وعل. وقال
الجوهرى فـي
الصحاح: ودرأ
علينا فلان
يدرأ دروءا أى
طلع مفاجأة. ومنه
كوكب درىء،
على فعيل، مثل
سكير وخمير، لشدة
توقده
وتلألئه. وقد
درأ الكوكب
دروء. قال
أبو عمرو بن
العلاء: سألت
رجلا من سعد
بن بكر من أهل
ذات عرق فقلت: هذا
الكوكب الضخم
ما تسمونه؟
قال: الدرىء،
وكان من أفصح
الناس. قال
النحاس: فأما
قراءة حمزة
فأهل اللغة
جميعا قالوا: هى
لحن لا تجوز،
لأنه ليس فـي
كلام العرب
اسم على فعيل. وقد
اعترض أبوعبيد فـي هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح،
أبدل من الواو ياء، كما قالوا: عتى.
قال أبو
جعفر النحاس: وهذا
الاعتراض
والاحتجاج من
أعظم الغلط
وأشده، لأن
هذا لا يجوز
البتة، ولو
جاز ما قال لقيل
فـي سبوح
سبيح، وهذا لا
يقوله أحد،
وليس عتى من
هذا،
والفرق
بينهما واضح
بين، لأنه ليس
يخلو عتى من
إحدى جهتين: إما
أن يكون جمع
عات
فيكون
البدل فيه لازما،
لأن الجمع
باب تغيير،
والواو لا
تكون طرفا فـي
الأسماء
وقبلها ضمة،
فلما كان قبل
هذه ساكن وقبل
الساكن ضمة
والساكن ليس
بحاجز حصين أبدل
من الضمة كسرة
فقلبت الواو
ياء. وإن كان
عتى واحدا كان
بالواو
أولى، وجاز
قلبها لأنها
طرف، والواو
فـي فعول
ليست
طرفا فلا يجوز
قلبه. قال
الجوهرى: قال
أبو عبيد إن
ضممت
الدال قلت
درى، يكون
منسوبا
إلى الدر، على
فعلى ولم
تهمزه لأنه
ليس فـي كلام
العرب فعيل. ومن
همزه من
القراء فإنما
أراد فعولا
مثل سبوح
فاستثقل فرد
بعضه إلى
الكسر. وحكى
الأخفش عن
بعضهم (درىء) من
درأته،
وهمزها
وجعلها على
فعيل مفتوحة
الأول. قال: وذلك
من تلألئه. قال
الثعلبى: وقرأ
سعيد بن
المسيب وأبو
رجاء (درىء) بفتح
الدال مهموز.
قال أبو حاتم: هذا
خطأ لأنه ليس
فـي الكلام
فعيل، فإن صح
عنهما فهما
حجة. (يوقد) قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام
وحفص (يوقد) بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال.
وقرأ
الحسن
والسلمى وأبو
جعفر وأبو
عمرو بن العلاء
البصرى (توقد) مفتوحة
الحروف كلها
مشددة القاف،
واختارها أبو
حاتم وأبو
عبيد. قال
النحاس: وهاتان
القراءتان
متقاربتان،
لأنهما جميعا
للمصباح، وهو
أشبه بهذا
الوصف، لأنه
الذى ينير
ويضىء، وإنما
الزجاجة وعاء
له. و(توقد) فعل
ماض من
توقد يتوقد،
ويوقد فعل مستقبل
من أوقد يوقد. وقرأ
نصر بن
عاصم (توقد) والأصل
على قراءته
تتوقد حذف
إحدى التاءين
لأن الأخرى
تدل عليه. وقرأ
الكوفيون (توقد)
بالتاء يعنون
الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث
الزجاجة.
قوله
تعالى:
﴿من
شجرة مباركة
زيتونة لا
شرقية ولا
غربية﴾ تقدم
القول فيه.
﴿يكاد
زيتها يضىء
ولو لم تمسسه
نار نور على
نور﴾ على
تأنيث النار. وزعم
أبو عبيد أنه
لا يعرف إلا
هذه القراءة. وحكى
أبو حاتم أن
السدى روى عن
أبى مالك عن
ابن عباس أنه
قرأ
﴿ولو لم
يمسسه نار﴾ بالياء.
قال محمد بن
يزيد: التذكير
على أنه تأنيث
غير حقيقى،
وكذا سبيل المؤنث
عنده. وقال
ابن عمر: المشكاة
جوف محمد صلى
الله عليه
وسلم، والزجاجة
قلبه،
والمصباح
النور الذى
جعله الله تعالى
فـي قلبه يوقد
شجرة مباركة،
أى أن أصله من
إبراهيم وهو
شجرته، فأوقد
الله تعالى فـي
قلب محمد صلى
الله عليه
وسلم النور
كما جعله فـي
قلب إبراهيم
عليه السلام. وقال
محمد بن كعب: المشكاة
إبراهيم،
والزجاجة
إسماعيل،
والمصباح
محمد صلوات
الله عليهم
أجمعين، سماه
الله تعالى
مصباحا كما
سماه سراجا
فقال:
﴿وداعيا
إلى الله
بإذنه وسراجا
منيرا﴾ الأحزاب46
يوقد من شجرة
مباركة وهى
آدم عليه
السلام، بورك
فـي نسله وكثر
منه الأنبياء
والأولياء. وقيل:
هى إبراهيم
عليه السلام،
سماه الله
تعالى مباركا
لأن أكثر
الأنبياء
كانوا من صلبه.
﴿لا شرقية ولا
غربية﴾ أى لم
يكن يهوديا ولا
نصرانيا
وإنما كان
حنيفا مسلم. وإنما
قال ذلك لأن
اليهود تصلى
قبل المغرب والنصارى
تصلى فبل
المشرق.
﴿يكاد
زيتها يضىء﴾ أى
يكاد محاسن
محمد صلى الله
عليه وسلم
تظهر للناس
قبل أن أوحى
الله تعالى
إليه.
﴿نور على
نور﴾ نبى من
نسل نبى. وقال
الضحاك: شبه
عبدالمطلب
بالمشـكاة
وعبدالله
بالزجاجة
والنبى صلى
الله عليه
وسلم
بالمصباح كان
فـي قلبهما، فورث
النبوة من
إبراهيم. (من
شجرة) أى شجرة
التقى
والرضوان
وعشيرة الهدى
والإيمان،
شجرة أصلها
نبوة، وفرعها
مروءة، وأغـصانها
تنزيل،
وورقها تأويل،
وخدمها جبريل
وميكائيل. قال
القاضى أبو
بكر بن العربى:
ومن غريب
الأمر أن بعض
الفقهاء قال
إن هذا مثل
ضربه الله
تعالى
لإبراهيم
ومحمد
ولعبدالمطلب
وابنه
عبدالله،
فالمشكاة هى
الكوة بلغة
الحبشة، فشبه
عبدالمطلب
بالمشكاة فيها
القنديل وهو
الزجاجة،
وشبه عبدالله
بالقنديل وهو
الزجاجة،
ومحمد
كالمصباح
يعنى من
أصلابهما،
وكأنه كوكب
درى وهو
المشترى
﴿يوقد
من شجرة
مباركة﴾ يعنى
إرث النبوة من
إبراهيم عليه
السلام هو الشجرة
المباركة،
يعنى حنيفية
لا شرقية ولا
غربية، لا
يهودية ولا
نصرانية.
﴿يكاد
زيتها يضىء
ولو لم تمسسه
نار﴾ يقول: يكاد
إبراهيم
يتكلم بالوحى
من قبل أن
يوحى إليه.
﴿نور
على نور﴾إبراهيم
ثم محمد صلى
الله عليه
وسلم. قال القاضى: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع
فـي التمثيل أن يتوسع المرء فيه .
وبعدما
عرض الإمام
القرطبى
التفاسير
التى وردت فـي
هذه الآية
أكمل قائلاً: قلت:
وكذلك فـي جميع
الأقوال لعدم
ارتباطه
بالآية ما عدا
القول الأول،
وأن هذا مثل
ضربه الله
تعالى لنوره،
ولا يمكن أن
يضرب لنوره
المعظم مثلا
تنبيها لخلقه
إلا ببعض خلقه
لأن الخلق
لقصورهم لا يفهمون
إلا بأنفسهم
ومن أنفسهم،
ولولا ذلك ما عرف
الله إلا الله
وحده، قاله
ابن العربى. قال
ابن عباس: هذا
مثل نور الله
وهداه فـي قلب
المؤمن كما يكاد
الزيت الصافى
يضىء قبل أن
تمسه النار،
فإن مسته
النار زاد
ضوءه، كذلك
قلب المؤمن
يكاد يعمل
بالهدى
قبل أن
يأتيه العلم،
فإذا جاءه
العلم زاده
هدى على هدى
ونورا على
نور، كقول
إبراهيم من
قبل أن تجيئه
المعرفة: (هذا
ربى)، من قبل
أن يخبره أحد
أن له ربا،
فلما أخبره الله
أنه ربه زاد
هدى، فقال له
ربه:
﴿أسلم قال
أسلمت لرب
العالمين﴾ البقرة131.
ومن قال إن
هذا مثل
للقرآن فـي
قلب المؤمن
قال: كما أن
هذا المصباح
يستضاء به ولا
ينقص فكذلك القرآن
يهتدى به ولا
ينقص فالمصباح
القرآن
والزجاجة قلب
المؤمن والمشكاة
لسانه وفهمه
والشجرة
المباركة
شجرة الوحى.
﴿يكاد
زيتها يضىء
ولو لم تمسسه
نار﴾ تكاد حجج
القرآن تتضح
ولو لم يقر.
﴿نور
على نور﴾ يعنى
أن القرآن نور
من الله تعالى
لخلقه، مع ما
أقام لهم من
الدلائل
والإعلام قبل
نزول القرآن،
فازدادوا
بذلك نورا على
نور. ثم أخبر
أن هذا النور
المذكور عزيز
وأنه لا يناله
إلا من أراد
الله هداه
فقال:
﴿يهدى
الله لنوره من
يشاء ويضرب
الله الأمثال للناس﴾
أى يبين
الأشباه
تقريبا إلى
الأفهام.
﴿والله
بكل شىء عليم﴾ أى
بالمهدى
والضال. وروى
عن ابن عباس
أن اليهود
قالوا: يا
محمد، كيف
يخلص نور الله
تعالى من دون
السماء فضرب
الله تعالى
ذلك مثلا
لنوره. انتهى
تفسير
القرطبي
فيظهر
هنا أن
المشكاة كما
فـي القول
الأول أنها
صدر المؤمن
والمصباح
الإيمان
والعلم، والزجاجة
القلب،
وزيتها الحجج
والحكمة التى
تضيئها فهو
على أحسن حال.. يمشى
فـي الناس كالرجل الحى فـي الأموات.
ويؤيد هذا المعنى كلام لحجة الإسلام الإمام
أبى حامد محمد الغزالى فـي رسالته فيصل التفرقة ما نصه: فاعلم أن الفكر والإيمان
وحدهما والحق والضلال وحدهما لا ينجلى للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما بل
إنما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولاً ثم صقلت بالرياضة الكاملة
ثانياً ثم دورت بالذكر الصافى ثالثاً ثم عذبت بالفكر الصائب رابعاً ثم زينت بملازمة
حدود الشرع خامساً حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة وصارت كأنها مرآة مجلوة
وصار مصباح الإيمان فـي زجاجة قلبة مشرق الأنوار يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار.
وكأن السادة الصوفية يريدون بهذا المثال الذى
صنعوه على شكل فانوس به ضوء والفانوس مصنوع من سبعة خوصات من الحديد وعليه دائرة
يحمل منها وعليه كسوة من قماش أن يتوسلوا إلى الله بنوره أن يجعل فـي قلوبهم نور
الإيمان والعلم ليضىء صدورهم وقلوبهم ويصبغهم بصبغته حتى يكونوا هداة
مـهديين ويبعد عنهم الأنفس السبعة التى أشاروا إليها بالخوص السبعة، حتى لا
تعرقلهم عن السير إلى الله وفى الله تعالى فيصيرون بنور الله الذى فيهم والذى
هـو مصدره الذكر على أحسن حال.
وطالما
أن هذا المثال
أمامهم فلن
ينسوا أن هناك
أنفس تريد أن
تعطلهم
عن الإكثار من
ذكر الله
تعالى فيرجون
من الله
سبحانه
وتعالى أن
يميت هذه
الأنفس فيهم . وندعو
بدعاء
الصوفية أن
يخلصنا الله
بجاه رسوله
الكريم من هذه
الأنفس وأن
يجعل
الإيمان و العلم في صدورنا و قلوبنا حتى تستضئ بنور الحجج و الحكمة.
هدى عبد الماجد – هاديه الشلالي
إشراف الأستاذ أحمد عبد المالك |