هذا الحـبيب وهذه أوصافـه

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

 

هذا الحـبيب وهذه أوصافـه

إلى سيدنا رسول الله  ينتهي الحسن والجمال، فقد كان  ربعـة من القـوم لابائنا من طول، ولا تقتحمـه عين من قصر، أبيض اللون مشرباً بحمرة، ادعج العينين، مثلح الثنايا، دقيق المسربة، أزهر الجبي، واضح الخد، أقني الأنف، كأن عنقه ابريق فضة، ظـاهر الوضاءة، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، شـئن الكفين، مسيح القدمين، واسع الصدر، إذا التفت التفت جميعاً، بين كتفيه خاتم النبوة، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأطلهم من قريب، مدحه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:

وأحسن منك لم ترقط عيني      وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيـب      كأنك خلقت كمـا تشـاء

وكان  جميلاً في كل شيء، حتى أنه كان يعرف بالصادق الأمين قبل أن يبعث رسولاً فقد حكي أنه:

لما بلغ سنه  خمساً وثلاثين عاماً جـاء سيل جارف صدع جدران الكـعبة بعد توهينها من حريق كان قد أصـابها قبلاً، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها فإنها كانت فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك ولكنهم هابوا هدمها لمكانتها في قلوبهم، فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟

قالوا: بل الإصلاح.

قال: إن الله لا يهلك المصلحين.

وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس سيدنا إسماعيل وهنالك وجدوا صحافاً نقش فيها كثير من الحكم على عادة من يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين، ثم ابتدأوا في البناء وأعدوا لذلك نفقة ليس فيها مهر بغى ولا بيع ربا وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم وكان سيدنا العباس ورسول الله فيمن يحمل، ولما تم البناء (ثماني عشرة) ذراعاً بحيث زيد فيه عن أصله (تسعة أذرع) ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يصعد إليه إلا بدرج، ثم أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه؟ وتناقشوا في ذلك حتى كادت تنشب بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليال، وكان أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي (عم خالد بن الوليد) فقـال لهم: يا قوم لا تختـلفوا وحكموا بينكم من ترضون بحكمه، فقـالوا: نحكم أول داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون صلوات ربي وسلامه عليه، فاطمأن الجميع له لما يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يداري ولا يماري، فلما أخبوره الخبر، بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه، وأطفأ بذلك نار الحرب وشرح صدورهم..

 

وهذه قصيدة للشيخ محمد عثمان عبده البرهاني في ديوانه شراب الوصل يصف فيها النبي :

 

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

هدينا بل حبينا بل وإنا
           بما جاء النبي غدا هوانا

الحمد لله الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فأظهره على الدين كلِّه وصلِّ اللهم على من جاءنا بالهدى ودين الحق خير خلق الله كلهم الذى ما وطىء الذرى إلا ليسعدها وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.

كثر الجدل حول حقيقة الهداية واختلف الناس حيث لا ينبغى الاختلاف و لا يجدى وتركوا العمل الذى كان ينبغى أن يقوموا به، وهو أجدى ونسوا أو تناسوا أن الكلمة تصيب صاحبها بما قصد بها تماما.

وها هم الصالحون الذين إذا تلقوا منحة عكفوا عليها سجدا وقياما ولسان حالهم يقول:

كـم تدَّعى بطريقِ القومِ معرفة       وأنـتَ مُنقطعٌ والقـومُ قد وصلوا

فانهضْ إلى ذروةِ العلياءِ مُبتدرا       عزما لترقى مكانا دونـه زحـلُ

فإن ظهرتَ بهِ قد حُزتَ مكرمة        بقاؤها ببقـاءِ الـلـهِ مُـتـصلُ

وإن قضيتَ بهم وجدا فأحسنُ ما       يقالُ عنكَ قضى من وجدِهِ الرجلُ

وهكذا كان الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى يتمثل بمثل هذا النظم وغيره ثم كان من بعد ذلك يقول وهو يتحدث بلسان الصوفية:

هُدينا بلْ حُبينا بـلْ وإنَّا       بمـا جاءَ النبىُّ غدا هـوانا

والكلُّ يطلب الهداية حتى ونحن فى صلاتنا ندعو فنقول:{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وهذه الهداية إنما تكون باتباع النبىِّ صلى الله عليه وسلم ثم يأتى قوله تعالى {ومن يُطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} النساء 96 وإنما موطن الهداية هو القلب وليس فى سواه من الأعضاء بل الأعضاء تبعُ للقلب فهو بمثابة المُحرِّك لها نحو حسن الأعمال وسيِّئها فقد جاء فى معنى الحديث أن بالجسد مضغةً إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائره وهى القلب وصدق من قال:

وإذا حلَّت الهدايـةُ قلبا          نشِطَتْ للعبادةِ الأعضاء

ولا شك فيما ذكره الشيخ عن الصوفية وهم المشتغلون بالقلب ولا عجب فى هداية الله لهم وهم القائلون:

وكيفَ تنامُ العينُ وهى قريرة        ولم تدرِ فى أيِّ المَحَلَّينِ تَنزلُ

ولنعد عزيزى القارئ إلى نظم الشيخ ولنبحث معاً عن سر الجمال ولنتأمل مليَّاً ما يشدّنا نحو قراءة ذلك البيت مرات ومرات وأظنك ستقول إن سر جماله يتمثَّل فى الجرس الموسيقى لا سيِّما وأنت تدندن به، ثم أظن أنك ستقول بل إنه يتمثل فى تكرار بل، بل ستقول إن روعة البيت قد أتت من الإيجاز المُتمثِّل فى تلك الألفاظ التى يحمل كل لفظ منها جملة من المعانى مثل قوله:هُدينا، حُبينا، ما جاء النبي، غدا هوانا

وإنى أوافقك الرأى فحقا إن ذلك الوزن يبعث فى النفس السرور وشعورا خفياً بالفرح اللامتناهى وكم أعطت بل قوة دلالة وزيادة مع تأكيد معنى؛ فهى للإضراب وتفيد هنا أن ما بعدها أقوى وأفضل مما قبلها ففى قوله (حُبينا) وما تحمله من معانٍ أقوى فى تأكيد الهداية من قوله السابق (هُدينا) وما تحمله من معان وفى قوله رضي الله عنه بما جاء النبئ غدا هوانا وما تحمله من معانٍ أ فضل واقوى من الجملتين السابقتين (هُدينا وحُبينا) وهذه هي الغاية التى ليس بعدها غاية ترجى.

وأضيف أخى القارئ جانباً آخر مُتمثِّل فى جملة البيت فهذا البيت كإخوانه يحمل شاهداً يؤكد ما يحمله من معانٍ فإذا تأمَّلته ثانية وجدت مصدره النبيَّ صلى الله عليه وسلم فى معنى حديثه (لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبعاً لما جئتُ به) فالشيخ محمد عثمان عبده رضي الله عنه نظم الحديث الشريف وهذا ما يسميه علماء البلاغة ب(العقد) وكأن الشيخ فى بيته يريد أن يقول إننا نتبع النبئ صلى الله عليه وسلم فى كل شيئٍ حتى فى أقواله لا نقول إلا أقواله وها أنا أقول قوله؛ لأنّا بما جاء النبي غدا هوانا.وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وسلِّم.

الوسيلة ابراهيم