فـضـل الصحـبــة
مولانا الشيخ إبراهيم أثناء تصفحه لصحيفة رايات العز
من الآيات الباهرة في اللقاء السنوي الذي يجمع الإخوان في حولية الشيخ
محمد عثمان عبده البرهانى رضي الله عنه هو اتساع المكان لهذه الجموع
الغفيرة رغم أن المساحة المخصصة لهذا اللقاء لا تزيد على ألفي متر
مربع وما أضيق المقام في غير أيام الحولية ويذكرنا هذا بقولهم في
منى: إن منى تتسع بالحاج كما يتسع الرحم بالولد وما أضيقها في غير
أيام الحج. وما كان هذا إلا للمحبة التي تربط هذا الجمع المبارك
برباط قوي وكما قيل إن شبراً من الأرض يسع المتحابين والدنيا بأسرها
لا تسع المتباغضين {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم
ولكن الله ألف بينهم} والآية الثانية هي السكينة التي تغشى هذا الجمع
فقلَّما اجتمعت مثل هذه الجموع إلا وسادت الضوضاء والهرج والمرج ولكن
هذا الجمع تعمُّه سكينة لما عمَّهم الله تعالى به من رضوانه:
يُنزِلُ الله السكينةَ في قلوبٍ
يصطفيهم بالعطايا خالصينا
والآية الثالثة هي النظام
الذي يسود هذا الجمع فلا يخرج الأمر عن الضبط وقد شهد بهذا كثير من
رجال الأمن الذين يحضرون الحولية وما هذا إلا لأن القائمين على
الخدمة إنما أرادوا بها وجه الله تعالى فوَّفقهم الله تعالى للعناية
بهذه الجموع في غير عسر أو مشقَّة. ويتم هذا اللقاء السنوي المبارك
تحت راية الشيخ إبراهيم رضي الله عنه تحقيقاً لقوله رضي الله عنه:
وذا بُنيَّ الذي تـمَّـت عطيَّته
قد اصطفيناه من صـافي عطيَّتنا
ليجمع الشمل إمداداً ومرحمـةً
ويحـملُ الكـَـلَّ ممدوداً بهمتنا
ويصبح الكلُّ حشداً تحت رايته
بلا جفـاءٍ لمـن يسعى بذمّـَـتنا
وقد رأينا من وحي هذه اللحظات المباركة التي يجتمع فيها شمل الإخوان أن
نتعرَّض لموضوع المحبة التي جمعت هؤلاء الإخوان، وقد التقينا بنفر من
الإخوان الذين صحبوا الشيخ زمنا طويلا؛ منهم الشيخ سيد احمد قرافي
والشيخ علي صبري والمقدَّم محمد خيرلنقف منهم على ما قاله الشيخ في
المحبة، وقد كانت ثمرة لقائنا معهم هذه الأسطر.
أبناء الطريقة القادرية أثناء مشاركتهم في حولية الشيخ محمد عثمان
قال الشيخ رضي الله
عنه:الطريقة في الأصل مبنية على المحبة، وقد عمَّت الطريقة أنحاء
الدنيا بفضل محبة الإخوان للشيخ ومحبَّة الشيخ للإخوان ومحبَّة
الإخوان لبعضهم.وترى في الطريقة البرهانية الإخوان من البلدان
والشعوب التي بينها عداء يصيرون أخوة متحابين متصافين في الله
تعالى.وقد بيَّن الشيخ أنَّ الإحسان هو أوَّل طريق المحبة تصديقاً
لقوله رضي الله عنه: جُبلت القلوب على حبِّ من أحسن إليها. وقد كان
نهجه رضي الله عنه أن يبدأ المريد بالإحسان وقد كان كثيرٌ من
الملحدين يأتون لمجادلة الشيخ في الدين وكانوا يصرِّحون له بأنهم
ملحدون ولكنه رغم هذا كان يبادرهم بقوله: مرحبا مرحبا ويطلب منهم
الجلوس بجانبه ويجادلهم بالحسنى حتى أحبَّه كثير منهم وكانت محبتهم
له بابا دخلوا منه إلى الطريقة البرهانية وصلح أمرهم وصاروا من الذين
ينتفع بهم.وقد كان هؤلاء كثيرا ما تكون لديه تجارب سابقة في الجدل مع
بعض الفقهاء فكان بعضهم يطردهم ويرفض أن يجادلهم إذا علم أنهم ملحدون
وكان البعض الآخر يجادلهم ثم ينتهي الأمر بمشاجرة وقد رأوا في نهج
الشيخ نهجاً مختلفاً وآنسوا فيه لين الجانب وحسن الخلق والحلم.
وقد كان الشيخ رضي الله عنه رغم تولِّيه مشيخة الطريقة وانشغاله الدائم
بأمورها مثالا للأخ الصالح في نفسه فكان لا يتخلَّف قط عن دعوة يدعى
إليها مهما كان مكانها بعيداً وكان يعود المرضى من الإخوان ويتولَّى
علاجهم بنفسه، وكان يتفقَّد المحتاجين من أبناء الطريقة ويعينهم،
ويساعد كلَّ من يقصده في حاجة ومن خلق الشيخ أنه كان لا يحتجب عن
أحدٍ حتى في حالة المرض الشديد وكان كثيرا ما ينتابه مرض الربو أو
الأزمة ولكنه يجلس في كرسيِّه في صالون بيته حتى إذا رأى أحد الإخوان
داخلاً زالت عنه كلُّ أعراض المرض واستبشر وجلس يحادثه حتى ينصرف
الزائر فإذا انصرف الزائر عاودته أعراض المرض، وهذا عكس ما يفعله
كثير من الناس يدَّعون المرض حتى يتخلَّصوا من الزائر وليس بهم شيء.
لا بدَّ لكلِّ مؤمنٍ من أخ صالح، يحضُّه على الخير ويعينه في الشدة،
وقد قال الإمام علي كرَّم الله وجهه: الرفيق قبل الطريق، وقال
الشاعر:
أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له
كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وعلى المريد أن يستكثر من إخوان الصدق:
وليس كثيراً ألفُ خلٍّ وصاحبٍ
وإنَّ عدوَّاً واحـداً لكـثيرُ
وقال رضي الله عنه:
بَنيَّ كفوا فما كفران نعمتنا
يفيدكم والتآخي شكر نعمتنا
وقال بعض الحكماء:
ما نالتِ النفسُ على بُغيةٍ
ألذَّ من ودِّ صديقٍ أميـنْ
من فاته ودُّ أخٍ صــالحٍ
فذلك المقطوعُ منهُ الوتينْ
طارق مصطفى من أبناء الجيل الثاني في حولية الشيخ محمد عثمان
حرص الصالحين على طلب الإخوان
حدث يعقوب ابن أخي معروف الكرخي قال: جاء الأسود بن سالم إلى عمي
معروف، وكان مؤاخياً له، فقال له: إنَّ بشر بن الحارث يحبُّ مؤاخاتك،
وهو يستحيي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعد له فيما
بينه وبينك أخوة يحتسبها ويفخر بها، إلا أنه يشترط فيها شروطا لايحب
أن يشتهر بذلك، ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فإنه يكره
كثرة الالتقاء، فقال معروف رحمه الله: أما أنا فإذا أحببت أحداً لم
أحب أن أفارقه ليلاً ولا نهارأ، ولزرته في كلّ وقت ولآثرته على نفسي
في كلِّ حال، وقد آخى رسول الله بينه وبين علي كرَّم الله وجهه،
فشاركه في العلم وقاسمه في البدن، وأنكحه أفضل بناته وأحبهنّ إليه
وخصَّه، وأغلق كلَّ باب في المسجد إلا بابه. بهذا لمؤاخاته له: وإني
أشهد أني قد عقدت بينه وبين بشر بن الحارث أخوَّة،واعتقده أخا في
الله عزَّ وجلَّ لرسالته ولمسألتك، على ألا يزورني إن كره ذلك ولكني
أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها، وآمره ألا يخفي
عليَّ شيئاً من شأنه، وأن يطلعني على جميع أحواله.
فانطلق أسود بن سالم فأخبر بشرا فرضي بهذا وسرَّ به.
مقام المتحابين في الله
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: المتحابُّون في الله عزَّ وجلَّ
على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة، مشرفون على
أهل الجنَّة، يُضيء حسنهم لأهل الجنَّة، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا،
عليهم ثياب سندس خضر، مكتوب على جباههم: هؤلاء هم المتحابُّون في
الله عزَّ وجلَّ.الأرواح جنود مجنَّدة كما جاء في الحديث الشريف فما
تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، تلتقي فيشمُّ بعضها
بعضا،فتعرف الروح رائحة من يشبهها فتأنس إليه ولو أن مؤمناً دخل إلى
مجلس فيه مائة منافق، وفيه مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن
مُنافقاً دخل بيتاً فيه مائة مؤمن وفيه منافق واحد لجاء حتى يجلس
إليه.وجاء في حديث عبادة بن الصامت، يقول الله عزَّ وجل: حقَّت
محبَّتي للمتحابين فـيَّ، والمتزاورين فـيَّ، والمتصادقين فـيَّ.
الأخوات البرهانيات في حولية الشيخ محمد عثمان
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك بإخوان الصدق تعش
في أكنافهم، فإنهم زينة فـي الرخاء وعدة فـي البلاء، وضع أمر أخيك
على أحسنه حتى يحبك، واعتزل عدوَّك واحذر صديقك من القوم حتى
الأمين.، ولا أمين إلا من خشي الله عزَّ وجلَّ ولا تصحب الفاجر
فتتعلم فجوره. وقال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه: أصدقاؤك ثلاثة
وأعداؤك ثلاثة؛ فأصدقاؤك: صديقك وصديق صديقك، وعدوُّ عدوِّك.
وأعداؤك: عدوُّك وعدوُّ صديقك، وصديق عدوِّك.
التصافي والصفح بين الإخوان
إنَّ من عرف فضل الأخوة في الله عزَّ وجلّ وعلم درجة المحبَّة لله
تعالى صبر لأخيه وشكر له، وحلم عنه واحتمل له، لينال المؤمَّل من رضا
مولاه ومن طلب نفيساً خاطر بنفيس،
كان الشيخ محمد عثمان عبده رضي الله عنه يحض الإخوان على التصافي ويقول
بزوال الصفاء ينقطع المدد عن الإخوان لذا قال في شراب الوصل:
الحبُّ كنزٌ والصفا مفتاح
وقال:
ليجمعكم مكانٌ فيه صفوٌ
وإلا عــن تلاقــيكم أفلتُ
فذاته رضي الله عنه شمس تضيء كلَّ مجلس فيه الإخوان ما دام الصفاء
بينهم فإذا غاب الصفاء أفلت هذه الشمس ولفَّتهم الظلمة قال بعض
الصالحين: وكان لي جار يهودي يخبرني عن التوراة، فقدم علينا يهودي من
سفر فقلت: إن الله تبارك وتعالى قد بعث فينا نبيَّاً فدعا إلى السلام
فأسلمنا، وقد نزل علينا مصدِّقاً للتوراة، فقال اليهودي: صدقت،
ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به، إنا نجد نعته ونعت أمته
أنه لا يحل لامريء منهم أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على
أخيه المسلم.
وقد روي أن الفضيل بن
عياض قال: نظر الأخ إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة، فلا
تصحُّ المحبة في الله عزَّ وجلَّ إلا بما شرط فيه من الرحمة في
الاجتماع، واجتناب الغيبة وتمام الوفاء، ووجود الأنس، وفقد الجفاء،
وارتفاع الوحشة ووجود الانبساط وإذا وقعت الغيبة ارتفعت الأخوَّة.
وقيل: لا يذوق العبد طعم الإيمان حتى يحبَّ المرء يحبُّه لله. وكان
الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول: ما نلت ما نلت إلا بسلامة الصدر
وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إياك ومن مودته على قدر حاجته
إليك، فإذا قضيت حاجته انقضت مودته.روي أن ابن أبي شبرمة قضى لبعض
إخوانه حاجة كبيرة، فجاءه بهدية جليلة، فقال له: ما هذا ؟ قال ما
أسديت إلي. قال خذ مالك، عافتك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد
نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبِّر عليه أربع تكبيرات وعدَّه في
الموتى.
أبناء الطريقة الأحمدية أثناء مشاركتهم في حولية الشيخ محمد عثمان
ودخل رجل على الحسن
البصري فقال له: هل صليتَ الظهر يا أبا سعيد ؟ قال له: نعم صليتُ
فقال له إنَّ أهل السوق لم يصلوا بعد، قال له الحسن: ومن يأخذ دِينه
عن أهل السوق ! بلغني أن الرجل منهم يمنع أخاه الدرهم.وهذا غاية
البخل.وقال بعض الصالحين: إن الرجل يلقى أخاه فيسأله عن كلِّ شيء حتى
عن الدجاج في البيت، فإذا سأله درهماً واحداً لم يعطه وهذا إخاءٌ لا
يجاوز اللسان.
وهذا الصفح يجب أن يكون صادراً من القلب ولا يقتصر على ظاهر الأمر
فتظهر القبول وتضمر الحقد والعداوة وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه
وقد سأل عن أخ كان آخاه فقيل له إنه أخو الشيطان قارف الكبائر حتى
وقع في الخمر فكتب إليه عمر بن الخطَّاب: بسم الله الرحمن الرحيم،
{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب}،
ثمَّ عاتبه في الخطاب ولامه فلما قرأه بكى وقال: صدق والله ونصح لي
عمر ثمَّ تاب ورجع. وقد قال الشيخ رضي الله عنه اعذر أخاك إن وقع في
الخطأ ولو كانت الإساءة إليك واسأل الله له الهداية والرشد وادع
له.والكلمة الطيبة تقرِّب بين الإخوان وتزيد المحبَّة بينهم بينما
تفرِّق الإساءة واللوم بين الإخوان ونحن هنا نسوق هذه القصة لنرى كيف
يعذر الأخ أخاه إذا زل؛ روي عن أبي الدرداء أن شابا كان يكثر من
التردد على مجلسه حتى أحبه أبو الدرداء، فكان يقدِّمه على الأشياخ
ويقرِّبه فحسدوه، ثم وقع الشاب على كبيرة من الكبائر، فجاءوا إلى أبي
الدراء وقالوا له: لو أبعدته، قال: سبحان الله لانترك صاحبنا لشيء من
الأشياء.وقد جاء في أخبار بني إسرائيل أن أخوين عابدين في جبل، نزل
أحدهما ليشتري لحما من المدينة، فعرضت له امرأة فوقع في الفاحشة
واستحيا أن يرجع إلى أخيه، فافتقده أخوه واهتمَّ بشأنه، فنزل إلى
المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دُلّ عليه، فدخل عليه وهو جالس مع
المرأة، فجعل يسلِّم عليه ويعانقه ويسأله عن حاله، وأنكر الآخر أنه
يعرفه لفرط حيائه منه، فقال له: قم يا أخي فقد علمت بشأنك وقصتك، وما
كنت أعزَّ عليَّ وأحب منك في يومك هذا وساعتك هذه، فلما رأى أنه لم
يسقط في نظر أخيه ذهب همه ورجع إلى حاله الأوَّل في العبادة، وهذا من
أحسن النيات وهو طريق العارفين، من ذوي الآداب والمروءات. وقال محمد
بن عامر:
ولا تقطع أخاً لك عند ذنب
فإنَّ الذنب يغفره الكـريم
ولكن داو عـورتَه برفق
كما قد يرقع الثوب القـديم
وقال رضي الله عنه:
عفُّوا اللسان عن المحارم إنّ ذا
هو مورد الهمَّاز والنمَّامِ
وهذه نصيحةٌ للمريد عند الزلل الذي يقع من أخيه فلا ينبغي أن يفضحه بين
الناس بل ينبغي أن يستره وإلا دخل في الفئة التي توعَّدها المولى
عزَّ وجلَّ في قوله تعالى {ويلٌ لكلِّ همزةٍ لمزة} وقوله {همازٍ
مشَّاءٍ بنميم}
وقال رضي الله عنه:
فإذا بسطتم كفَّ صفح فامسحوا
دمع المسيء ودونما إيلام
فإذا اعتذر المسيء فاقبلوا عذره وامسحوا دمعه من غير تعرُّضٍ للذنب
الذي ارتكبه لأن ذلك يحزنه، وقد قال الشاعر:
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن كان قد برَّ فيما ذاك أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهره
وقد أجلَّك من يعصيك مسـتترا
قيل ومن علامة التقى حسن المقال عند التفرُّق، وجميل البشر عند
التقاطع، وأنشد بعض الحكماء في هذا المعنى:
إن الكـريم إذا تقـضَّى ودُّه
يُخفي القبيح ويُظهر الإحـسانا
وترى اللئيم إذا تَقضَّى حبلُه
يُخفي الجميل ويظـهر البهتانا
وقد كان الشيخ رضي الله عنه يسوق القصص التي تبيِّن فضل التصافي وقد
حكى قصة رجل صالح زار بلدةً من البلاد فأراد أن يشتري علفاً لحماره
فاخبروه أن أسداً ضارياً يمنع الناس من الخروج إلى المزارع، وأراد أن
يذهب إلى النهر ليسقي حماره فأخبروه أن تمساحا مفترساً يمنع الناس
أخذ الماء من النهر فسألهم لماذا لا يرفعون هذا الأمر إلى الملك
فذكروا له أن الملك يعاقب كلَّ من يذهب إليه فسألهم عن حالهم مع الله
تعالى فعرف أن الحقد والبغضاء منتشرٌ بينهم، فسأل الله سبحانه وتعالى
أن يجعل قلوبهم صافية فاستجاب الله دعاءه فصفت نفوسهم وتصافوا
وتصافحوا، فأهلك الله الأسد والتمساح والملك.
الإيثـــار
الإيثار هو إيثار الصاحب على النفس وهو من أرفع الخلق قال تعالى
{ويؤثــرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} روي عن رسول الله أنه دخل
غيضة مع بعض أصحابه، فاجتنى منها سواكين من أراك، أحدهما معوج والآخر
مستقيم، فحبس المعوجَّ لنفسه ودفع المستقيم لصاحبه، قال: يا رسول
الله أنت كنت أحقَّ بالمستقيم، فقال: ما من صاحب يصحب صاحبا ولو ساعة
من نهار، إلا سأله الله عن صحبته، هل أقام حق الله تعالى فيه أم
أضاعه.
الوصيَّة بالأخ الغريب
يُهدي لنا الشيخ رضي الله عنه وصية خاصة بالأخوان الذين ينزلون أضيافاً
علينا من العرب أو من العجم لأن للغريب وحشة:
ترفَّقوا بالذين اللهُ ألَّــــفهم
ويمموني من الأعرابِ والعجمِ
وأنزلوهم على رحبٍ ومرحبةٍ
فإنّ من ذاق فضلي جدُّ محتشم
ويذكِّرنا هذا بالمهاجرين عندما نزلوا المدينة المنوَّرة غرباء كيف
آواهم إخوانهم من الأنصار وكيف أكرموهم وشاطروهم أموالهم وآخوهم حتى
أنسوهم أوطانهم.وقد جاء في السيرة الحلبية أن: ثمَّ لا زال المهاجرون
والأنصار يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} لأنَّ الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة
الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة وشدِّ أزر بعضهم ببعض فلما عزَّ
الإسلام وواجتمع الشمل وذهبت الوحشة بطل التوارث. روي عنه المؤمن
مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وقد قيل أول ما يرفع من هذه
الأمة الخشوع ثم الورع ثمَّ الأمانة ثم الألفة. وهذا الأخ الذي
يأتينا زائراً وربما أتى من مكان بعيد أو بلد أجنبي فيكون لسانه غير
لساننا وثقافته غير ثقافتنا فيجب مضاعفة الاهتمام به اهتماماً يجعله
يشعر بأنه واحدٌ منا لا فرق بيننا وبينه ويجب أن ننزله من نفوسنا
أعلى المنازل.
منافع الإخاء
للإخاء الصادق في الله منافع دنيوية ومنافع أخروية في الخبر: من أراد
الله به خيراً رزقه خليلا صالحاً إن نسي ذكَّره وإن نسي أعانه، وقيل:
مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى
مؤمنان إلا أفاد الله عزَّ وجلَّ أحدهما من صاحبه خيرا. وروي عن رسول
الله : من آخى أخاً في الله عزّ وجلَّ رفعه الله عزَّ وجلَّ درجة في
الجنة لا ينالها بشيءٍ من عمله،. ويقال إن الأخوين في الله عزَّ
وجلَّ إذا كان أحدهما أعلى مقاما من الآخر، رفع الآخر معه إلى مقامه،
وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض، والمرء
مع من أحب.. ويقال إن أحد الأخوين في الله عزَّ وجلَّ إذا مات قبل
صاحبه، وقيل ادخل الجنة سأل عن منزل أخيه، فإن كان دونه لم يدخل
الجنَّة حتى يعطى أخوه مثل منازله، فيقال له إنه لم يعمل مثل عملك
فيقول إني كنت اعمل لي وله، فيعطى جميع ما سأل له ويرفع أخوه إلى
درجته معه، وشرط هذا أن تكون محبتهما دائمة لم تنقطع حتى يفترقا
بالموت.وقيل قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في الحياة، وروي عن
الحسن رضي الله تعالى عنه: وكان السلف يخلف أحدهم أخاه بعد موته في
عياله أربعين سنة لا يفقدون إلا وجهه.
الوفاء وحسن الصحبة
روي عن النبي أنه رأى
عمر يلتفت يميناً وشملاً فسأله، فقال يا رسول الله أحببت رجلا فأنا
أطلبه ولا أراه فقال : إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه، وعن
منزله، فإن كان مريضاً عدته، وإن كان مشغولا أعنته.
وصحب رجل سيدنا أبا عبد الله الحسين بن عليٍّ رضي الله تعالى عنهما وهو
في طريقه إلى كربلاء، فبلغه الخبر أن ولده قد خرج من المنزل ولم يعد
ولم يكن عنده غير ولد واحد فقال له سيدنا الحسين رضي الله عنه: اذهب
للبحث عن ولدك، ثم الحق بنا. قال: لا والله يا بن رسول الله أأتركك
وأذهب للبحث عن ولدي ثمَّ آتي وأسأل عنك الركبان والله ما أنا بفاعل
هذا، وبقي في صحبته، ونسي أمر ولده، وظلَّ في صحبة سيدنا الحسين رضي
الله عنه وقاتل معه حتى قتل رضي الله عنه.
كتمان سرَّ الصديق
روي عن رسول الله أنه قال: إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحلُّ
لأحدهما أن يفشي لأخيه ما يكره.
وقال الإمام علي كرَّم الله وجهه: لا تكشف كلَّ سرِّك لأخـيك، وقال
كرَّم الله وجهه: أحبب حـبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضـك يوما،
وأبغض عدوَّك هونا ما عسى أن يكـون حبيبك يوما.وكثير من الإخوان إذا
ما ذاقوا حلاوة الطريق وذكروا ما كانوا فيه من المعاصي أفضوا إلى بعض
الإخـوان بماضيهم وفي هذا خطر كبير، فينبغي عليهم أن يكتموا أسرارهم
ويحمدوا الله على ما هـداهم، وليس هناك إنسان مبرَّأٌ من النقص
والعيب، وإذا حدث وأفشوا أسـرارهم إلى أحد الإخوان فينبغي عليه أن
يكـتم السرَّ ولا يفشيه لأحد وهذه الأشياء كثيراً ما تجرُّ إلى
العداوات والأحقاد.
أبناء الطريقة المكاشفية أثناء مشاركتهم في حولية الشيخ محمد عثمان
وقال رجل لآخر: كلُّ سرٍ جاوز الاثنين ضاع. قال له: بل كلُّ سرٍّ جاوز
الشفتين ضـاع، فعلى المريد أن يكتم سرَّ نفسه، ويجتهد في إصلاحها،
وهل يغفر الذنوب إلا الله، فإذا أراد النصح فليتوجَّه إلى مرشده أو
شيخه ليدلَّه على طريق الخلاص من الآفات.
التحذير من صحبة الجهلاء:
وقال الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: لرجلٍ صاحب رجلا جاهلا
فأرهقه:
ولا
تـصحب أخا الجهل
وإيــاك وإيــــاه
فكم من جــاهـل أردى
حلــــيما حين آخاه
يــقاس المـرء بالمـرء
إذا
مـا هو مـــاشاه
وللشــيء مـن الشـيء
مقـــاييس وأشـباه
وللــقلـب عـلى القـلب
دليــل حيـن يلـقاه
إنَّ التصوَّف هو طريق الإحسان وهو أعلى مراتـب الدين فينبغي لمن سلكـه
أن يتخلَّق بالأخلاق الرفيعة وأن يحرص على كسب مودَّة الإخـوان
والتقرُّب إليهم وتفقُّد أحوالهم والتجاوز عن سيئاتهم، وكتم أسرارهم
إذا ما أفضوا إليه بأسرـارهم إليك والحرص على التعاون معهم لما فيه
من البركات.تحقيقاً لقوله : (مثل المسلمين في تواددهم وتراحمهم كمثل
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر
الجسد
بالسهر والحمى) ونحن نسأل المولى عز وجل أن يوفقنا لنكون أخواناً
صالحين متقدين بهدي شيخنا في كل ما قاله وكل ما فعله حتى لقي ربه
راضياً مرضياً عنه�
هادية
محمد الشلالي |