أسباب الهجرة النبوية وآثارها

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

 

أسباب الهجرة النبوية وآثارها

هجرة الرسول وأصحابه من مكة بلدهم الذي فيه نشأوا وموطنهم الذي درجوا منه وألفوه وفيه أموالهم وأهلوهم ولهم بسكناه شرف وزعامة على سائر العرب، لأن فيه حرم الله الآمن وبيته المطهر من عهد أبيهم إبراهيم عليه السلام؛ مع ما جبلت عليه طبيعة العربي من حب الوطن وإلفه والحرص عليه والذود عنه وتفديته بالأنفس والأموال ؛ إلى المدينة، وهي إذ ذاك بلد وبئ معروف بالحمى ولم يسبق لأكثرهم به عهد. حتى كان سيدنا بلال يقول وهو يتشوَّق إلى مكة:

ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلة      بوادٍ وحولي إذخــِرٌ وجليلُ

وهل أردنْ يوما ميـاهَ مجنَّةٍ      وهل يبدونْ لي شامةٌ وطَفيـلُ

لعل هذه الهجرة أظهر الأحداث في حياة الرسولوصحابته ؛ ولعل أصحاب الرسول أنفسهم كانوا يرونها بهذه المثابة ويقدرون لها هذا القدر ؛ فانا لنراهم بعد أن انقضت إقامة الرسول بينهم بما كان فيها من جلائل الأعمال وخطير الأحداث يعودون إليها وحدها، فيذكرونها ويتخذونها رمزاً خالداً لحياة الاسلام ويسجلون ذكراها في معاهداتهم ومبيعاتهم وسائر شئونهم، وما يزال المسلمون إلى يوم الناس هذا يجدون في هذا الحادث من المعنى السامي ما وجده سلفهم فيه ؛ ذلك بأنهم يرون فيه صورة التضحية العظيمة في سبيل الحق والمثل الواضح للجلاد الدائب في نصرة العقيدة، والاستهانة بما في الحياة من راحة ودعة في سبيل الدعوة إلى الله ويرونه أخيراً مبدأ الطريق للصيحة العاتية في وجه الباطل والصريخ الملتهب لدحر الظلم والعدوان. لقد كان رسول اللهقبل أن يأتيه الوحي بالمنزلة التي لا ينكر فيها فضله من أكرم قريش نسباً وأفضلهم بيتاً وأحسنهم خلقاً ؛ فلما جاء قومه بما عرفوا من الحق حال الحسد بينهم وبين اتباعه وتصديقه فعتوا على الله ولجوا في كفرهم وعنادهم، وظهر ما كان مستورا من العداوات القديمة التي كانت بين بطون قريش وبني هاشم وقام رؤوس بني عبد شمس يظاهرهم رؤوس بني مخزوم وغيرهم؛ فأخذوا يؤرِّثون العداوة ويثيرون الضغائن ويصدون الناس عن الاستماع لدعوة النبي فيقول أبو جهل الحكم بن هشام المخزومي: (تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،حتى إذا تحاذينا على الركب قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداّ).

لم يكونوا يشكون في صدقه ؛ لأنهم لم يجربوا عليه كذباً قط ولأنه ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ولأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم ويدعوهم إلى الإيمان به مما لا عهد لآذان بسماع مثله، ولكنهم يخافون أن يظهر أمره ويخشون إن آمنوا به أن ينبه ذكره فيخمل ما لهم من ذكر فكانوا إذ خلا بعضهم إلى بعض اعترفوا بالحق وذكروا وجه الصواب فيه ؛ فإذا صاروا في ملأ من الناس كذبوا على أنفسهم وعلى الناس ورموه بالسحر والكهانة والشعر والجنون، وفي ذلك يقول لهم النضر بن الحارث: (يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة قط، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا وكان أرضاكم فيه وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر لا والله ما هو بساحر ؛ لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم: كاهن لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخاجلهم وسمعنا سجعهم وقلتم: شاعرٌ لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها، وقلتم: مجنون لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه ؛ يا معشر قريش انظروا في أمركم، فانه والله قد نزل بكم أمر عظيم).

حاولوا أن يغروه أول الأمر بمتاع الحياة الدنيا وزينتها ليرجع عما يباديهم به من الدعوة إلى توحيد الله ؛ فيقول له عتبة بن ربيعة: (إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً لجمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك) فلا يجيبه على ذلك إلا إجابة االمزدري لما عرض عليه، الموقن بانتصار حقه على باطلهم، يتلو عليه القرآن وفيه الدعوة إلى الله والتحذير من عقابه وتسفيه عقول قومه فيقول له: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) فيقول: نعم فقرأ (ص): {بسم الله الرحمن الرحيم. طسم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرءاناً عربياً لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون، قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إليّ إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} فإذا انتهى من قراءة السورة قال له: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ؛ فأنت وذاك).

ثم يرفعون أمره إلى عمه أبي طالب الذي يظاهره ويدفع عنه ويعرضون على عمه مثل ما عرضوه عليه، ثم يخوفونه عاقبة تماديه في نصرة ابن أخيه، فيقول له عمه: (يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني في أمرك، فابقِ عليّ وعلى نفسك) فيقول له: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته !) ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك عمه وقد ظن أنه خاذله، فناداه عمه ثم قال له: (اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً). فإذا يئسوا من إغرائه وعلموا أنه صلب القناة، وأنه جاد في طريقه غير آبه لما يتهددونه به، دافعوه بالقوة والكيد والقطيعة ؛ فأغروا به سفهاءهم فنالوه وأصحابه بالأذى، وأعلنت بطون قريش مقاطعة بني هاشم، وكتبوا بذلك عهداً علقوه في الكعبة توثيقاً لأمره بينهم، فكان لا يصل شيء إلى بني هاشم إلا سراً يستخفى به من أراد صلتهم من قريش، ومشوا إلى أختان رسول الله فأمروهم أن يطلقوا بناته ليشغلوه بهن وهو لذلك كله صابر رابط الجأش شديد الثقة بالله، عالم أنه ناصره ومؤيده وهو لا يفتأ بأمر أصحابه وقومه بمثل ذلك من الصبر ورباطة الجأش.

فإذا رأت قريش أن ذلك كله لا يفت في عضده ولا يهن من قوته وعزمه، بيتوا قتله ولقد هموا بذلك أكثر من مرة ولكن الله تعالى منعه في كل مرة مما يريدون فقد اجتمع يوما جماعة منهم، فقال أبو جهل بن هشام: (يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلى ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ؛ فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم) فقالوا: (والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد).

وأبى الله تعالى عليه ما عقد نيته عليه ؛ وأتت أم جميل حمالة الحطب زوج أبي لهب وفي يدها فهر من حجارة تريد أن تلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما هو إلا أن بلغت المسجد حتى أخذ الله بصرها فلا ترى إلا أبا بكر رضي الله عنه، فتقول: (يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فوالله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه).

وقد كان يشجعه على احتمال هذا الأذى والصبر على ما ينالونه به من المكاره عمه أبو طالب، وكان له عضداً وحرزا في أمره، وكان له منعة وناصراً على قومه ؛ وزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها التي كانت تواسيه وتدعوه إلى الجلد والصبر، فلما توفاهما الله اشتد إيذاء قريش له وتفاقمت شرورهم عليه ونالوا منه بعدهما ما لم يكونوا ليفعلوه، فكر في الرحلة عنهم، وتمنى أن يؤذن له بالانتقال وأراد الله به وبدينه خيراً فبدأ أول الأمر بعرض نفسه على قبائل العرب فكان يخرج إليهم في مواطنهم أحياناً ويتلقاهم في مواسم الحج أحياناً أخرى، وكان أهل يثرب من الأوس والخزرج أسرع الناس إلى قبول دعوته، لأنهم كانوا قد عرفوا بعض شأنه مما كان اليهود يحدثونهم به عنه ؛ فما هو إلا أن ذكر لهم أمره ودعاهم إلى الإيمان به حتى قال بعضهم لبعض: (يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم يهود فلا يسبقنكم إليه). فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، ورجوا أن يؤلف الله به بين قلوبهم، فلما اعتزموا العودة إلى يثرب أرسل معهم مصعب بن عمير بن هاشم، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الدين فكان له أثر عظيم في دعوة أهل المدينة إلى دين الله ؛ فلما كان الموسم من العام الثاني لقى النبي ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من أهل المدينة فدعاهم إلى الله ورغبهم في الإسلام وتلا عليهم القرآن وبايعهم على السمع والطاعة في العسر واليسر وألا ينازعوا الأمرأهله، وأن يقولوا الحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلما تمّ له ذلك وأصبح له أنصار في بلد آخر يرحل إليهم ويأنس بهم ويطئن إلى جوارهم ويمتنع بهم ممن أراده بسوء، اطمأن إلى الهجرة وأمر أصحابه الذين كانوا يؤذون في مكة بأن يهاجروا وقال لهم: (إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها) فخرجوا أرسالاً وأقام هو بعدهم بنتظر إذن الله له بالخروج.

ولم يكن مشركو قريش يحبون أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بين أظهرهم ؛ لأنهم كانوا يحذرون عاقبة هذه الهجرة ؛ فكانوا كلما رأوا جماعة من أصحابه خرجوا من مكة حاولوا إعادتهم ليؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم إن استطاعوا فإن أفلتهم أخذهم القلق وساورتهم المخاوف. ولقد اجتمعوا ليتشاورون في الأمر ويديرون الرأي فيه فقال أحدهم: (احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله من الموت) فأجابوه: (والله ما هذا لنا برأي، لئن حبسناه كما تقول ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقنا دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا علينا فينتزعوه من بين أيدينا ثم يكاثرونا به حتى يغلبونا على أمرنا) وقال قائلهم: (نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع) فقالوا: (والله ما هذا لنا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم إليكم) وإذ ذاك ينبري أبو جهل من بين القوم فيقول: (أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى سيفاً صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ؛ فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم) فإذا سمعوا ذلك من أبي جهل وافقوا عليه، وتفرقوا وهم مجمعون له، ولكن الله يريد أن ينصر رسوله ويؤيده ويظهر دينه فيأذن لرسوله بالخروج فيخرج وهم ببابه راصدون له متهيئون لتنفيذ قرارهم فيأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه. وكان الذي خافت قريش أن يكون ؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولو أخرجوه كما قال قائلهم لكان أشرف لهم وأبقى على سمعتهم وعصمه الله منهم فلم ينالوا منه ما طمعوا فيه. وكانت لهذه الهجرة المباركة آثارها التي توقعوها، وآثار أخرى لم تكن تخطر لأحد ببال ؛ فقد أصبحوا يخافون أهل المدينة وهم في طريقهم في تجارتهم إلى الشام.

وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون كل يوم، وهذا رسول الله بحسن حديثه وكريم أخلاقه وسمو مبادئه ونبيل غايته، يفعل في نفوس العرب وعقولهم فعله وحبه يجري منهم مجرى الدم من العروق حتى إن أحدهم ليرى الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ؛ ويقظتهم لما يأتي به وحرصهم على معرفة مبادئه تبلغ الغاية التي لا مطمع وراءها، فهم يحصون الفاظه ويحيطون بأحواله كلها فلا تغيب عن وعيهم حركة من حركاته. وللنبي وأصحابه في كل حين صرعى من صناديد الشرك وأبطال الضلال، وأخيراً يجيء هذا الذي آذوه وألبوا عليه وألجأوه إلى الفرار بدينه فيقتحم عليهم مكة ويدخلها كما كانوا يخافون بمن اجتمع إليه من قبائل العرب. وكان من آثار هذه الهجرة أن هدأت الحال، وأصبح للمسلمين وجود اجتماعي، فاطرد نزول الوحي على الرسول يضع له ولأمته أسمى ما عرفته الانسانية إلى يوم الناس هذا من قوانين العدل والمساواة والحرية ؛ فألف بين قلوب أهل دعوته فأصبحوا بنعمة الله اخوانا وهذَب نفوسهم وراض ما صعب من أخلاقهم وجنبهم حمية الجاهلية الأولى، وجعل رابطة الدين والعقيدة فوق كل رابطة، وسوى بينهم في الحقوق والواجبات، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وجعل الكبير صغيراً حتى يؤخذ الحق منه، والصغير كبيراً حتى يؤخذ الحق له ؛ وضمن حياة العقل والنفس والمال، وحذر من الفحشاء والمنكر والبغي، ودعا إلى الاخلاص في السر والعلن، ولم يترك مبدأ سامياً إلا أخذ الله لنبيِّه منه بأوفر حظ، وأرشده إلى المثل الأعلى فيه. فإذا احتفى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى هذا الحادث فإنهم إنما يذكرون أثره العظيم في بناء هذا الدين، ويذكرون مع ذلك عزيمة قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزيمة أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، تلك العزيمة الماضية التي أبت أن تخضع لغير الحق، واعتصمت بالله وحده فأخذ الله بناصرها حتى بلغ بها ما بلغ من الرفعة وعلوِّ الشأن.

حسن سليمان

 

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

أركان كعبتنا

الحمد لله المعطي الجواد الذي يؤتي الملك من يشاء وصل اللهم على أكرم الخلق سيدنا محمد المعطي الجواد الذي جعله الله تعالى وسيلة إليه وآله سفن النجاة المحتذين حذوه إلى يوم الدين.

تعتبر الكعبة - بيت الله بمكة - مقصد العباد في تعبدهم، وتعلق العبّاد فى زهدهم، إليها يحج الحجاج، وبها تتضاعف الحسنات والسيئات حماها الله وجعلها حرماً آمناً لكل من يقصدها.

و لا يخفى عليك - أخي القارئ- شكل ذاك البيت ذى الأركان الأربعة وتطواف الناس حوله لا يشغلهم عن ذكر الله إلا الله ومن ثم يزورون الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيكثرون الصلاة والسلام عليه، وقد يذكر المرء منهم في حديثه تلك اللفظة (الكعبة) وما يتصل بها من مفردات مثل: الصفا، والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفات وغيرها مما يدل على شدة التعلق مثل قول الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني:

إلى وجه من أهوى صفاي ومروتي

و قوله:

وسعيت للمولى على إحرامى

و قوله في مدح المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه والتوسل به..

ويا ند ي الأكف البيض من كرمٍ����������� تجمعت عندكم أركان كعبتنا

و اعلم عزيزي القارئ - أعزك الله بنبيه وآل بيته - أن الألفاظ مثل الأجسام ما تناسق منها اتفق وكان أروع جمالاً لعين الناظر وأثبت، وأن المعاني مثل الأرواح تتآلف مع ألفاظها، وديوان شراب الوصل يعطيك المثال ؛ ولتنظر - أكرمك الله بجوده وعطائه - لقوله (يا ندي) فسرعان ما تأتيك (الأكف) مصطفة وتتبعها(البيض) و(من كرم) وهكذا تجد نظماً مثل نظم الدر أو هو أبهر؛ لأنه نظم ألفاظ مجردة غير ملموسة.

و إذا تأملت المعاني تجده استخدم (يا) دون غيرها من أدوات النداء لأنها للبعيد وهي هنا لمن بعدت منزلته عن غيره وعظمت وهو النبي صلى الله عليه وسلم. أما لفظة (ندي) فهي توحي بالكرم الذي يتبعه كرم، واستخدم لفظة (الأكف) لأن الكف هو آلة العطاء ولفظة الجمع توحي بكثرة وتنوع العطاء فليست هي كف واحدة ولا اثنتان بل هى أكف.

و روعة لفظة (البيض) تتلخص في أنها تعطيك إحساساً بالبهجة بحلاوة المعطي الذي لا يتبعه منا ولا أذى. وأما قوله (من كرمِ) فهي إضافة تقوى وتؤكد كثرة العطاء مع عدم نفاد خزائن الجود.

و إذا كان صدر البيت يفصح - بالتصريحً - عن جود الممدوح صلى الله عليه وسلم - فإن عجز البيت يفصح -بالكناية- عن شدة تعلق الشيخ به صلى الله عليه وسلم، والبيت في جملته يحمل معنى التوسل به ؛ إذ لا معنى لما ذكره من جوده وكرمه إن لم يتوسل به طالباً منه الجود ؛ ففى قوله (تجمعت عندكم أركان كعبتنا): أي أن مقصدنا العظيم - أركان كعبتنا - إنما هو عندكم وهذه كناية عن توجهه إليه بكل كيانه طالباً منه الجود.

و من الكنايات المبتكرة التي لم ترد - حسب علمي - عند البلغاء وهي مأخوذة مما يرتبط به المرء ويتعلق به قول الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني:

تجمعت عندكم أركان كعبتنا

و صل اللهم على سيدنا محمد وآله وسلم.

د. الوسيلة إبراهيم