ترجمة القرآن الكريم

الـفـرقــة الـنـاجـيــة

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

 

ترجمة القرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد فقد طرق الكتاب باب ترجمة القرآن الكريم من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات واتسعت دائرة البحث والأخذ والرد في هذا الموضوع، حتى خيل للناظر فيما كتب أن مسألة ترجمة القرآن من المسائل المعضلة التي خفي حكمها، وأنه لم يتكلم فيها أحد من الأئمة المجتهدين أو أتباعهم بما يشفي الغليل ويريح طالب الحق.

وحيث إن المتبع في تعرف الأحكام الشرعية هو استنباط الحكم بواسطة القرآن أو السنة أو الإجماع أو القياس إن كان طالبه مجتهدا، والرجوع إلى أقوال الأئمة المجتهدين وتخريج أصحابهم إن كان طالب الحكم مقلدا، ولم يدّع واحد من حضرات الكاتبين الاجتهاد، فكان الأجدر بحضراهم أن يعولوا في بحثهم على ما نقل عن الأئمة المجتهدين وأصحابهم ودوّن في الكتب التي وضعها مؤلفوها لنقل مذاهبهم وأقوالهم التي استقر الرأي عليها، ولا يقصروا بحثهم وموضع جدلهم على الركون إلى قول للإمام أبي حنيفة مرجوع عنه، وإغفال أقوال باقي الأئمة وما رجحه أتباع أبي حنيفة، وقياما بما يتطلبه الدين (وقد اطلعت على أقوال الأئمة الأربعة في هذه المسألة) أتقدم لإخواني المسلمين بكلمة موجزة أبين فيها حكم ترجمة القرآن الكريم وكتابته بغير اللغة العربية، وحكم قراءته بغير العربية في الصلاة وخارجها كما هو منصوص في الكتب الموضوعة لنقل مذاهب الأئمة الأربعة، وقبل بيان الحكم أذكر مقدمة يتبين منها مدرك الأئمة في هذه المسألة فأقول: أجمع الأئمة على أن القرآن اسم للفظ العربي المخصوص الدال على المعنى، ونقل ذلك الإجماع شارح مسلم الثبوت، وقال علماء الأصول في تعريف القرآن: هو اللفظ العربي المنزل للأعجاز المنقول إلينا تواترا، وأجمع الأئمة أيضاً على أن قراءة القرآن في الصلاة فرض على القادر عليها بحيث لو تركت لا تصح الصلاة، قال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} قالوا: الأمر بالقراءة في الصلاة، ومن ذلك الإجماع والتعريف للقرآن يتضح أن اللفظ العربي الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم للإعجاز لا بد منه في تحقق القرآنية، وأن مجرد المعنى لا يسمى قرآنا، ولا كلام الله. وأيضاً فغير خاف أن الكلام إنما ينسب إلى الشخص ويعتبر كلامه إذا كان هو الذي رتبه ونظمه على الوجه الذي تحقق به في الخارج، ألا ترى أن شعر امرئ القيس إنما نسب إليه لأنه هو الذي أنشأه ورتبه ونظمه على ذلك الوجه الذي وصل إلينا، كذلك إذا عبر عن معنى كلام الله تعالى بعبارة أخرى من أي لغة ولو من لغات العرب، فإنه لا يكون كلام الله ولا يسمى قرآنا. على أننا نقول: إن الترجمة لا تتأتى في القرآن أصلا، لأن آيات القرآن لها معان أولية يشترك في تأديتها أهل كل لسان، فيمكن لكل إنسان عالم بذلك المعنى أن يؤديه بأي عبارة كانت؛ ولها معان ثانوية مدارها على أمور وأحوال اقتضت أن يكون الكلام المؤدي به المعنى الأولي مشتملاً على خصوصيات كإيجاز أو إطناب أو كناية أو مجاز أو تقديم أو تأخير إلى غير ذلك، هذه المعاني الثانوية حيث اقتضتها أحوال جعلت المتكلم يأتي في كلامه بما يفيدها فهو الذي يلاحظها ويأتي بجمل مركبة من كلمات مخصوصة مرتبة ترتيباً خاصاً بحيث تفيد هذه المعاني الثانوية، فلا يمكن لغير المتكلم أن يساويه في الإتيان بما تقتضيه هذه الأحوال إلا إذا اتفقت الاصطلاحات وطريقة التخاطب ومساواة المخلوق للخالق في الإحاطة بجميع الأحوال المقتضية للخصوصيات، والإتيان بتلك الخصوصيات على الوجه الأكمل مجزوم بنفيه، بل لو أمكن لأي واحد من البشر ترجمة القرآن ترجمة حرفية لخرج القرآن عن كونه معجزا، وكان في إمكان البشر أن يأتي بمثله. وكيف هذا وقد تحدى الله الإنس والجن فقال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}، وحينئذ لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة تؤدي المعاني التي بها الإعجاز، وإذا انتفى الإعجاز عنه بالترجمة انتفت قرآنيته، فلا يسمى في تلك الحالة قرآنا، ولا تقوم الترجمة مقام الأصل في أحكامه.���������� (للحديث بقية)

 

الـفـرقــة الـنـاجـيــة

الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، صراط أهل النعيم، المنعَم عليهم بأسباب الدين القويم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الهادي الأمين وصحابته الغر الميامين وأهل بيته الأعلام الطيبين الطاهرين ومَن
اهتدى بهديهم إلى يوم الدين...

أمّا بعد..فإن مِن جملة أفضال الله تبارك وتعالى على أمة نبيه المصطفى المعصوم أن هيّأ جماعتَهم فعصمهم مِن الضلالة، فكان مِن سُنَّته فيهم قوله(لاَ تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَة) الترمذي وأحمد والطبراني، وكان مِن فضله عليهم أن تكفَّل لهم بحفظ الكتاب المنزل إليهم، فلا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه أمناً وأماناً لهم، فقال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُون} الحجر.الآية 9.

وكان مِن فضله العظيم وخيره العميم أن أَنطَق حبيبَه ونبيَّه ورسوله محمداًنطقاً تَنزَّهَ عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى v عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقوَى} النجم الآيتان 4، 5.

فقضى وعدل، وأمر ونهى، وأَطلَقَ وقيَّد، وعمَّم وخصَّص، وبشَّر وأنذَر وأَجملَ وفصَّل، فطلعت شمس الإسلام محجةً بيضاء ليلُها كنهارها، ديناً قيماً ورسولاً بُعِث لِلناس كافةً وأُرسِلَ رحمةً للعالَمين، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ولَمّا كان هذا الرسول الكريم بفضل ربه عليه خير مَن أظلته السماءُ وأقلَّتْه الأرضُ اقتضت العناية الإلهية أن تكون أمتُه خيرَ أمة أُخرِجَت للناس، وكذلك جعلها أمةً وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا، فانتفى على أيديهم الشرك، ويئس الشيطان أن يُعبَد في جزيرة العرب، إلا أنه تكفَّل بالتحريش بينهم حتى أَقسَمَ بالعزة العظمى فقال {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين} سورة ص، الآية82، وقعد منهم مقعد الصراط المستقيم، فقال الله تعالى في ذلك عنه {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم} الأعراف الآية 16، ولَمّا كان الأمر كذلك اقتضت رحمة الرسول الحبيب مَن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم ـ أن يوضح ويبين ويُجَلِّي الأمرَ لأمته محذِّراً ومنبِّهاً ومُنَوِّهاً ومُصَرِّحاً ومُكَنِّياً فأَخبَرَأمته بأحوال مَن مضى مِن اليهود والنصارى، وكذلك أحوال المسلمين حاضرهم وآتيهم، وذلك في سياقٍ معجِزٍ يدل دلالةً واضحةً على تعدُّد دلائل نبوته وصدْق آيات رسالته.. فأخبرَ في الحديث الصحيح الذي رواه الأربعة قائلا(افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَة، وَتَفْتَرِقُ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِــينَ فِرْقَة، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَة).. ولَمّا سُئِل عنها قال في رواية الترمذي (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) وفي رواية أبي داود (الْجَمَاعَة).

ومنذ أربعة عشر قرناً مِن السنين أو يزيد تخرجُ علينا جموعُ أمة المسلمين بين الحين والحين، وكلّ فِرقة تتمنى أن تكون هي مَن نجا دون غيرها، فتنجو بزعمها، ويهلك مَن سواها ـ أيضاً ـ بزعمها، فتعددت الفِرَق الناجية على اختلاف ألوانها وأهوائها ومقاصدها تعدداً يُسقِط الثقةَ فيها سيما عند أعدائها، وكأني بهم ولسان حالهم قولُ الله تعالى {كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} المؤمنون مِن الآية.53 فراعني ما رأيتُ وسمعتُ وقرأتُ وفهمتُ على مدى عشرين سنةً أو يزيد، ودهشتُ وذهلتُ لِمواقف علماء الأمة وفضلائها وأهل قرآنها لِما رأيتُه مِن شتات وفُرقة واستئثار بالرأي وتعصب للذات والهوى.

وزاد الأمر واستفاض حتى زعم أحدهم أنه ناجٍ مِن النار وأن فِرقته هي الناجية، فردّ عليه آخَر: بل نحن حُماةُ السُّنّة والجماعة، وهكذا حتى اختلفوا جميعا، فكانت الفِرَق كلها ناجيةً باعتبار أمانيها، وكانت الفِرَق كلها في النار باعتبار تكفيرها لبعضها ـ أعاذنا الله مِن ذلك ـ وضعفَت شوكتهم وخارت قوَّتُهم، وزاد كلامهم وقلّت أعمالهم، وتركوا الجهاد أَكبَرَه وأَصغَرَه، فإنا لله وإنا إليه راجعون إزاء هذا كله أكرمني الله وأمةَ الإسلام بفضلٍ عظيم؛ إذ يبعث الله على رأس كل مائة عام مَن يجدِّد لهذه الأمة أمر دينها، فعثرتُ على واحد مِن علماء هذه الأمة المحمدية وصلحائها، فلقيتُ وغيري في العالم رجلاً محبّاً ومحبوبا، لا تراه إلا خادماً في دين جده المصطفى، إذا سألتَه سؤالاً وجدتَ ينابيعَ العلوم الصحيحة تلتقي عنده على أمرٍ قد قُدِر، فإذا سُئِل نفسَ السؤال مرّةً ثانيةً وجدتَ أعجبَ مما عجبتَ منه قبل ذلك، فيجيبك بأخرى وكأنه يغرف مِن كتاب الله تعالى علوماً لا يمكن أن تتناهى كمّاً ولا كيفا..فكنتُ أحمد الله وأشكره على أن قدّر لي أن أكون ممن لقيه وارتضاه له شيخاً يفك طلاسم كنوز القرآن والسّنّة. ثم وجدتُ له قولاً في الحديث المذكور المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم في افتراق الأمة يتألق روعةً وجمالاً وإحكاماً وحكمة، سيما وقد صاغه نظماً فريداً لا تملك عنده إلا الرجوع إلى آية في كتاب الله أو حديث في سُنّة رسول الله؛ حيث قيّد علومه بهذا الشرط.�������������������

وللحديث بقية،،

د. إبراهيم دسوقي بدور

 

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

وكل الكون من عال ودان     بمحمود الطليعة قد تباهى

سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والحمد لله الذي قرن اسمه باسم حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم .

فاسم الجلالة في بديع حروفه��� ألف هناك واسم (طه) الباء

وصلي اللهم على من تشرف بمعرفته أهل السماء وأهل الأرض وآله وسلم تسليما. رسول الله نعمة كبرى رحمة صرفة حبيب عظيم حال محبيه هو لسان القائل :

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمهـا      عقود مدح فما أرضى لكم نظمي

ويكثرون من مدحه صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم يقول :

ماذا يقول المادحون ومـا عسـى        أن تجمع الكتاب مــن معنـاك

والله لـــو أن البحـار مدادهم         والشعب أقـــلام جعلـن لذاك

لم تقدر الثقلان تجمع نـــزره         أبداً وما اسطاعوا له إدراكـــا

ويقول الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني :

لا يعلم الثقلان عنه قدرمــا         جهلوا وضلوا في جلي ضحاه

إنَّ جميع ما بالكون من جن وإنس وجماد وحيوان يتباهون برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غرابة في ذلك ولله د ر القائل :

سبيت الـورى طـرا وأنت محبب        فكيف بمن يهواك إن زالت الحجب

فأصبحت معشوق القلوب بأسـرها        ولا ذرة فــي الكون إلا ولها قلب

وها هو الشيخ محمد عثمان عبده يورد ذات المعاني إذ يقول :

كل الكون مــن عالٍ ودان        بمحمود الطليعة قد تباهــى

ويستخدمون لفظة (كل) ويريدون بها الشمول ويضيف إليها الشيخ (الكون) معرفاً بـ(ألـ) أي أنه ليس كوناً دون كون بل هو الكون بما فيه ثم يؤكد على (كل الكون) بقوله (من عال ودان) فالكل يتباهى بالحبيب صلى الله عليه وسلم (محمود الطليعة) وفلسفة الشيخ من هذه التقدمة قبل الإخبار هي أن ينفي الشك من قلوب السامعين لئلا يظنوا أن المباهاة به صلى الله عليه وسلم قد تكون من بعض دون البعض الآخر ، وتفسير ذلك أن الشيخ أوقع قوله (كل الكون) و (من عال ودان) في نفس المخاطب أولاً وثبته بحيث لا يمكن أن ينفك منه ما لم يخبر عنه ، ثم أتى بالإخبار وهو قوله (بمحمود الطليعة قد تباهى) فدخل الخبر قلب السامع دخول المأنوس به وهذا لا محالة أشد لثبوته وأمنع للشك ، وكأني بالسامع عندما سمع قوله (كل الكون من عال ودان) وسكنت هذه العبارة قلب تهيأ لمعرفة الخبر ما هو ؟ فقيل له (بمحمود الطليعة قد تباهى) فاطمأن قلبه ولم يداخله الشك البتة .

ولتنظر عزيزي الكريم إلى قوله (من عال ودان) .. هل تراه ترك ملكاً مقرباً أو إنساً أو جناً أو حيواناً أو جماداً ولم يدخله في عبارته ؟ لا شك أن الجواب لا . ويسمى هذا الأسلوب عند علماء البلاغة الطباق وهو الجمع بين الشئ وضده في الكلام ، ولا يظن ظان أن المراد من عال ودان دون غيرهما بل يدخل ما سواهما بدليل قوله آنفاً (كل الكون) وقدّم (عال) لشرف العالي على الداني بل إن الكل من جن وإنس شهدوا بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانة عظيمة ، حتى الأعداء :

نسبٌ أضاء عموده في رفعــة        كالصبح فيه ترفع وضيـــاء

وشمائــل شهد العدو بفضلهـا       والفضل ما شهدت بـه الأعداء

ويقول الإمام البوصيري :

وتغنت بمدحه الجن حتى أطرب��     الإنـــس منه ذاك الغنـــاء

ولنتأمل معاً أخي القارئ إلى قوله (بمحمود الطليعة قد تباهى) تجد لتقديم قوله (بمحمود الطليعة) على قوله (قد تباهى) سراً يكمن في القصر وهو تخصيص مباهاة كل الكون به صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وتفيد (قد) التأكيد لمن شك فيما تقدم من إخبار .

وأرى أن روعة هذا النظم تتمثل في التقديم والتأخير الذي شمل كل البيت بل يمكن للقارئ أن يقرأ البيت من آخره وهو (قد تباهى كل دان وعال في الكون بمحمود الطليعة) ولكن لا يعطيك هذا الترتيب الذي يراه النحويون منطقياً روعة وجمالاً مثلما جاء به صاحب النظم وهو قوله :

وكل الكون من عال ودان       بمحمود الطليعة قد تباهى

وصلي اللهم على سيدنا محمد وآله وسلم

 

د. الوسيلة درار