حقوق الجوار في الإسلام

من وحي علموا عني - 7

بالحقائق ناطقين

 

لقد وضع الإسلام نظاماً للاجتماع يجعل من الأمة الإسلامية جمعاء أسرة واحدة مترابطة الآحاد ترابطاً لا تنفصم له عروة، ولا تنحل له لُحمة. فشرع شرعة التعاون في الحياة لتذليل عقباتها، وقطع مفازاتها، وجعل ذلك أساساً لمدنيته الفاضلة، فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ثم لم يدع فضيلة من الفضائل التي تحقق معنى هذا التعاون إلا دعا إليها وحث عليها. ولا مشاحة في أن مراعاة حقوق الجوار من أمهات تلك الفضائل، بل لو تحققت هي وحدها لجعلت الأمة كالبناء المرصوص يشد بعضه بعضا، لا يجد التداعي سبيلاً إليه بحال من الأحوال، لذلك جاء في وجوب مراعاة هذه الحقوق من الأوامر ما يتفق وعظم خطره.

فأول حجر وضعه النبي عليه الصلاة والسلام في بناء صرح حقوق الجوار قوله: (لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه) ومراده أنه لايتم له إيمان حتى يتحقق فيه هذا الشرط، وهذا أمر في منتهى الخطورة.

فإن الإيمان غاية كل متدين وعليه يتوقف استحقاقه للكرامة في الدنيا والآخرة، فإذا كان اكتمال هـذا الإيمان يتوقف على أن يأمن جار المؤمن أذاه، فإنه لا شك منصرف بكليته للقيام بهذا الشرط ضنا بنفسه وطلباً لنجاتها.

قسم النبي عليه الصلاة والسلام الجيران إلى ثلاثة أقسام فقال: (الجيران ثلاثة: جار له حق، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق. فالجار الذي له ثلاثة حقوق: الجار المسلم ذو الرحم، فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم. وأما الذي له حقان فالجار المسلم: له حق الجوار وحق الإسلام. وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك).

حقاً إن هذا سموّ في الآداب الاجتماعية ليس وارءه مذهب، فإن تسرية حقوق الجوار على المشركين لم يقل به قبل الإسلام مصلح في الأرض. ويفهم من هذا أن الإسلام إنما يراعي في الآداب الاجتماعية ما يشمل الانسانية كلها، وهذا غاية ما ترمي إليه المدنية. فالانسان لا يخلو وهو يعيش في مدينة أن يكون له جيران من ذوي ملل مختلفة، يبادلهم المعاملات فهل أبيحت للمسلم معاملتهم وحرمت عليه مجاملتهم؟ لا، بل أوجب عليهالإسلام أن يسوي بينهم وبين إخوانه المسلمين فيها، وقد حث النبي على مبادلة أهل الكتاب الزيارة وحضور أعراسهم ومآتمهم، والأكل معهم حتى الإصهار إليهم.وقد وجد أصحاب الأديان من مجاورة المسلمين ما تلقاه القلة في وسط الكثرة قائمة على أحكم أصول المدنية، وأقوم سبل الانسانية.

قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمرو وغلام له يسلخ شاة، فقال: يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرار. فقال الخادم: كم تقول هذا؟ فقال له إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه.

فانظر كيف اعتبر ابن عمر اليهودي جاراً ولم يفرق بينه وبين إخوانه في الدين، بل انظر كيف أمر خادمه أن يبدأ به قبلهم. لا شك في أنه فعل ذلك حتى لا يسبق إلى ذهن خادمه أن يستثنيه من حقوق الجوار ليهوديته، فأمره أن يبدأ به، ثم ذكر للخادم ما ورد عن النبي من التشديد في وجوب مراعاة هذه الآداب الاجتماعية.

ومن أشد ما يلفت المسلمين إلى العناية بحقوق الجيران أن جعل النبي عليه الصلاة والسلام شهادتهم علامة على الإحسان والإساءة لمن أراد ان يعرف منزلته عند الله. روى عبد الله بن عمر فقال: (قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت؟ قال: إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت).

فتأمل في هذا وانظر هل يطيق رجل سمع هذا الحديث أن يسمع ذم جيرانه له دون أن يبلغ منه التأثر مبلغه؟ وهل يتأثر منه و يحاول أن يحسن من سيرته حتى يستحق أن يمدحه جيرانه؟

والبقية تأتي،،

 

من وحي علموا عني - 7


الشريعة والتصوف

حقيقة الأمر أن الشريعة والطريقة (التصوف) جناحى طائر ولا يمكن للطائر أن يطير بجناح واحد، وأما كلام الجهلاء من المبطلين والمنكرين فليس بالأمر الغريب لأنه ما أضاع الزبور إلا المبطلين من أهله وما أضاع التوارة والإنجيل إلا المبطلون من أهلهما وما أضاع الدين إلا المبطلين من أهله، فإذا كانوا دائما ما يتمثلون بالشريعة ويّدعون أنهم قائمون بأمر الشريعة منفذون لأحكامها فلماذا لم يلتزموا بالصلاة على سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم تنفيذا لقوله تعالى {يا ايها الذين آمنوا صلوا} الآية.. ويقول تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا} فلماذا لم يلتزموا بالذكر الكثير، وقوله تعالى {فسألوا أهل الذكر...} الآية فلماذا لم يلتزموا بالإسترشاد بأهل الذكر؟ وقد كانت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم تتورم من قيام الليل أليست هذه هى الشريعة، والشريعة أصالة هى أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله صلى الله عليه وسلم وإقراراته صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لإنسان مهما بلغ أن يحيط بكل السنة، وقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يكن يعلم) إنما هو قول الحق تبارك وتعالى {إتقوا الله ويعلمكم الله}، فكلمة (عمل) في الحديث تعنى الطريقة، وكلمة (علم) تعنى الشريعة، وعنى (علم ما لم يعلم) علم الحقيقة.

وكان سيدى محمد البكرى شيخ الأزهر والفتوى وشيخا لمسجد سيدنا الحسين رضى الله عنه وكان صوفيا من أهل الطريقة وكان ابنه سيدى مصطفى البكرى صبيا صغير السن يلعب مع الصبيان فقالت له أمه: لقد كان أبوك عالما من العلماء الأفاضل أفلا تقتدى به وتترك اللعب مع الصبيان.

فدخل البيت وتهيأ ولبس ملابس أبوه وذهب إلى قصر الخديوى فوجده وسط جمهور من كبار العلماء فلما نظروا إلى الصبى تذكروا والده وهم يبكون ويترحموا عليه وسالوه:

ما الذى أتى بك إلى هنا، وكان هذا الصبي ولياً صالحاً فقال لهم:

لقد سمعت أنكم مجتمعون على تقسيم وظائف والدى فقالوا نعم فقال لهم أئتونى بمنضده وكرسى وضعوا الكرسى على المنضدة وأجلسونى على الكرسى ففعلوا ذلك وقال لهم (إن ذاتى ذات أبى وعلمى علم أبى)

فقالوا له أيكون علم أبيك عندك وأنت صغير فقال نعم وأخذ يحدثهم في علم الحديث والتفسير والتأويل القرآنى، ما أبهر عقولهم ثم أخذ يترجم بلسان الحال ولما أفاق من حاله سأله أحد العلماء وقد عينوه شيخا للأزهر من أين لك هذا العلم ولم تدرسه لصغر سنك فقال: قولته المشهورة:

وما كل علم يستفاد دراستـه��     لا سيما علمنا الزاهر الوهبى

فعلم الصوفية علم وهبى مبنى على التقوى.

بالحقائق ناطقين

الشيخ والطريق إلى الله

إعلم أنه لابد لمن أرد الوصول إلى حضرة مولاه والانتظام في سلك الصفاء أن يصحب شيخاً حائزاً محموداً عارفاً متحققاً بالسر ولطائف العوارف ولولا الواسطة لذهب الموسوط ويكون ذا أخلاق نبوية راسخ القدم في الحضرتين مرشداً إلى طريق الحق ليطابق لباسنا الأبيض قلبنا الأبيض، فإن النبيما ندبنا إلى لباس الأبيض إلا لتنبيه السالكين فيسعون إلى تبييض قلوبهم مثل ثيابهم.

فعليك بطريق القوم على يد شيـخ له ذوق في طرق الله ليعلمك الإخلاص والصـدق في العلم والعمل ويزيل عنك جميع الهموم النفسية التى تعوقك عن السير وامتثل إشاراته إلى أن تصل إلى مقامات الكمال النسبى وتصيرمن الناجين، ويقول الإمام على كرم الله وجهه (إعلم أنه لابد لك من شيخ عالم تعم الناس بالسلام وتخصه بالتحية وإذا كان له حاجة سبقت الناس إلى حاجته وألا تلح عليه في السؤال ولاتعنته في الإجابة وألا تقول له قال فلان غير قولك وألا تغتب عنده أحد)

وأما السلوك بغير الشيخ فلا يسلم من الرياء والجدال والمزاحمة على الدنيا ولو بالقلب من غير لفظ لأنه من سلك الطريق بغير شيخ فلا وصول له إلى معرفة الله تعالى المعرفة المطلوبة إلا إذا حصلت عناية ربانية، فمن أراد السلوك والوصول إلى الله تعالى فيلزم شيخاً كاملاً على الكتاب والسنة فإن الشيخ يقتفى آثار القدم المحمدى ويجب أن يعتقد أنه أكمل أهل عصره ويتأدب معه كأدب الصحابة مع النبى صلى الله عليه وسلم، ولعل زماننا هذا حظى بل وحظينا جميعاً بالسلوك على يد شيخ من عترة النبى محمد صلى الله عليه وسلم،فمن أقواله:

علموا عنى فإنى من رجــال����� جدهم هادى الهداة الكامليــن

عنى عن المعصوم جـل ثناؤه      من ظن بى خيراً له خــيران

ما غير إبراهيم عبد ذو حمى�����   هو مجتبى حتى يقـوم مقامى

فأسلموا إن إبراهيم بينكــم �����   ولى يمين من الغر المـيامين

 

هاديه الشلالي