الـمـراقبـــة

وضرب لهم مـثــلاً

يثـــرب والمعينيــون

 

الـمـراقبــة

لا يخلو إنسان ما من مراقبة شيء فمن الناس الناظر والمراقب لماله.. ومنهم الناظر المراقب للنساء ومن الناس الناظر المراقب لحرفته وصحته ومنهم على الطرف الآخر الناظر والمراقب للخير ولسير الصحابة والناظر المراقب للنبي صلى الله عليه وسلم في أحواله.

وفي حديث مراتب الدين.. فأخبرني ما الإحسان قال صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال صدقت. قال الشيخ هذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى حال المراقبة لأن المراقبة علم العبد بإطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه واستدامته لهذا العلم، وهذا أصل كل خير له لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة فإذا حاسب نفسه ما سلف وأصلح حاله في الوقت ولازم طريق الحق أو أحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة للقلب وحفظ مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه سبحانه وتعالى عليه رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة (الرسالة القشيرية).

المراقبة لغة: هي دوام ملاحظة المقصود.المراقبة اصطلاحا: هي دوام النظر بالقلب إلى الله ويراقب ما يبدو من أفعاله وأحكامه ويعبر عنه باستشعارك نظر الله إليك في حركاتك وسكناتك وسببها معرفة الله بصفاته ومعرفة وعده ووعيده وأحكامه وثمرتها حسن الآداب والسلامة من شدائد الحساب والتحلي بحلية الأولياء ذوي الألباب وهي ممدوحة ومطلوبة (الرسالة القشيرية).

وقال بعضهم: من راقب الله تعالى في خواطره عصمه الله تعالى في جوارحه الرسالة القشيرية باب المراقبة. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: من أحب أن يفتح الله قلبه ويرزقه العلم فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب (بستان العارفين للنووي).

معنى اسم الله الرقيب، والشهيد: المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى للإمام الغزالي، الرقيب: هو العليم الحفيظ فمن راعى الشيء حتى لم يغفل عنه ولاحظه ملاحظة لازمة دائمة لزوما لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه سمي رقيبا وكأنه يرجع إلى العلم والحفظ ولكن باعتبار كونه لازما دائماً وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول.

تنبيه: وصف المراقبة للعبد إنما يحمد إذا كانت مراقبته لربه وقلبه وذلك بأن يعلم بأن الله رقيبه وشاهده في كل شيء ويعلم أن نفسه عدو له وأن الشيطان عدو له وأنهما ينتهزان منه الفرص حتى يحملانه على الغفلة والمخالفة فيأخذ منها حذره بأن يلاحظ مكامنهما وتلبيسهما ومواضع انبعاثهما حتى يسد عليهما المنافذ والمجاري فهذه مراقبته.

الشهيد: يرجع معناه إلى العليم مع خصوص إضافة فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة والغيب عبارة عما بطن والشهادة عما ظهر وهو الذي يشاهد فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.

إن المراقبة والنظر إما أن تؤدي بالإنسان إلى الجنة أو النار والفرق في المنظور إليه والمُتَابع بالنظر. والنظر إما أن يكون عبادة لله وإما أن يكون بلية ووبال.

والبقية تاتي،،

 

وضرب لهم مـثــلاً

الحمد لله الذي فطر الخلق على عبادته، والصلاة والسلام على صفوته وأشرف خلقه سيدنا محمد وآله وسلم.

روى وهب بن منبه عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما بعث الله يحيى ابن زكريا عليهما أفضل السلام إلى بني إسرائيل أمرهم بخمس خصال وضرب لهم بكل خصلة مثلا.

أمرهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وضرب لهم مثل الشرك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله ثم أسكنه داراً وزوجه جارية ودفع إليه مالاً وأمره أن يتجر فيه ويأكل منه ما يكفيه ويؤدي إليه فضل الربح.

فعمد العبد إلى فضل ربحه فجعل يعطيه لعدو سيده ويعطي سيده منه شيئاً يسيرا فأيكم يرضى بمثل هذا العبد؟. وأمرهم بالصلاة وضرب لهم مثلاً فقال: مثل الصلاة كمثل رجل استأذن ملك من الملوك فأذن له فدخل عليه فأقبل الملك عليه بوجهه ليسمع مقالته ويقضي حاجته فجعل يلتفـت يميناً وشمالاً ولم يهتم بقضاء حاجته فأعرض عنه الملك ولم يقضي حاجته.

وأمرهم بالصيام وضرب لهم مثل الصائم كمثل رجل لبس جبة القتال وأخذ سلاحه فلم يصل إليه عدوه ولم يعمل فيه سلاح عدوه.وأمرهم بالصدقة وضرب لهم مثلا فـقال: مثل الصدقة كمثل رجل أسره العدو فاشترى منه نفسه بثمن معلوم فجعل يعمل في بلادهم ويؤدي إليهم من كسبه من القليل ومن الكثير حتى فدى نفسه منهم فعتق وفك منهم رقبته.وأمرهم بذكر الله وضرب لهم مثلاً مثل الذكر كمثل قوم لهم حصن وبقربه عدوهم فجاءهم عدوهم فدخلوا حصنهم وأغلقوا عليهم بابه فحصنوا أنفسهم من العد و.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا آمركم بهذه الخصال الخمسة التي أمر الله بهن يحيى عليه السلام وآمركم بخمس خصال أخرى أمرني الله بهن، عليكم بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد ومن دعا بدعاء الجاهلية فهو خشب في قعر جهنم.

متوكل على الله

يثـــرب والمعينيــون

يرجّح الباحثون أن يثرب قد خضعت للمملكة المعينية وأصبحت واحدة من مناطق نفوذها، وتعد المملكة المعينية من أقدم الممالك العربية الجنوبية التي وصلتنا بعض أخبارها عن طريق المكتشفات الأثرية. ظهرت في شمالي اليمن وازدهرت وامتد نفوذها في الفترة ما بين 1300 ـ 630 قبل الميلاد، وقد ذكرها بعض الجغرافيين الغربيين، مثل (تيودورس) الصقلي (وسترابون) الروماني، أما المؤرخون والجغرافيون العرب فلم تصلهم أخبارها. يقول عنها ياقوت الحموي معين: اسم حصن باليمن... ومدينة باليمن تذكر في براقش.

وتدل الآثار المكتشفة أن المملكة المعينية كان لها صلات وثيقة مع جاراتها تحولت إلى نفوذ وسيطرة، فامتدت سلطتها من جنوبي اليمن إلى الحجاز وحتى فلسطين. وقد وجد المنقبون كتابات معينية تذكر أن يثرب ومؤان، وعمون، وغزة كانت جزءاً من المملكة المعينية وأرضاً خاضعة لها، وأن ملوك معين كانوا يعينون حكاماً عليها باسمهم ويلقب الحاكم (كبر) أي كبير، ويتولى الحكم باسم الملك، ويجمع الضرائب ويحافظ على الأمن. وهذا يعني أن المعينيين سيطروا على يثرب في فترة تمدد مملكتهم، أي منذ الألف قبل الميلاد، وعينوا عليها حاكماً من أهلها ـ كما كانوا يفعلون في مناطق نفوذهم الأخرى ـ لتأمين طريق تجارتهم البرية، ولم تكن سلطتهم على المدينة تتعدى الضريبة السنوية المفروضة عليهم، فضلاً عن حماية قوافلهم، ولا نجد في الكتابات القليلة عن معين أي ذكر لحروب خاضوها مع أهل يثرب، ولا أحداثاً متميزة. وقَل ما نجد إشارات تبين أن سيطرتهم كانت على الحجاز بأكمله.

ونظراً لضعف هذه السيطرة ظل المجتمع اليثربي مجتمعاً زراعياً ورعوياً في الغالب، ولم يشهد أية تغييرات كبيرة، اللهم إلا المزيد من الاستقرار والانتعاش والفوائد التي تأتي بها قوافل التجارة العابرة.

يثرب والرومان

ظهرت الدولة الرومانية قبل الميلاد بعدة قرون، واشتدت قوتها فاستولت على ممالك الإغريق (اليونانيين القدماء) ومدت نفوذها إلى بقية أوربا وغربي آسيا وشمالي أفريقيا. ولكن الرومان لم يستطيعوا التوغل في جزيرة العرب في فترة امتدادهم العسكري الكبير، لأن الصحراء الواسعة تشكل العقبة الكبيرة لجيوشهم النظامية الجرارة. ويذكر التاريخ الروماني محاولة واحدة قامت فيها حملة رومانية باختراق الجزيرة العربية إلى جنوبها للوصول إلى مناطق الذهب في أرض اليمن، وقد جرت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور (أغسطس) عام 25 ق.م حيث أمر هذا الإمبراطوار واليه على مصر (أوليوس غالوس) بإعداد الحملة وقيادتها، ورافق الحملة جغرافي معروف هو(سترابون) صديق القائد (غالوس) وكتب عنها، فوصلتنا أخبارها شبه كاملة. خرجت الحملة بعشرة آلاف محارب روماني وألف قبطي وخمسمائة إسرائيلي، يرشدها أحد قواد الأنباط، وأبحرت من الساحل المصري للبحر الأحمر ووصلت إلى ميناء (لويكة كومة)، بعد أن خسرت عدداً كبيراً من السفن والرجال، وفتك المرض بعدد آخر لفساد الطعام والماء وسوء الغذاء، فاضطرت إلى قضاء الصيف والشتاء فيه حتى استراح الجيش وتعافى من المرض. بعدها تحركت الحملة إلى نجران، واجتازت عدة مدن وحاربت أهلها حتى بلغت مدينة مرسيبا (مأرب) ومنها عادت إلى مدائن صالح ثم أبحرت عائدة إلى مصر، ولم تحقق الحملة أهدافها ولم تحصل على الذهب الذي خرجت لأجله، كما أنها لم تلحق المدن التي احتلتها بالدولة الرومانية. وقد تعددت الآراء حول الطريق التي سلكتها الحملة بعد نزولها في (ينبع) أو (مويلح)، ومن بين تلك الآراء رأي يقررأن الحملة سارت في طريق (إضم) إلى (يثرب) لكي تتجنب الاصطدام بالقبائل التي تسكن على الطريق التجاري بين ينبع والجنوب، وأنها تابعت طريقها من (يثرب) إلى (نجد)، ومنها سارت في طريق اليمن إلى نجران. وذكر سترابون أن ملك تلك المنطقة ـ ربما كان شيخ قبيلة ـ يدعى الحارث قد رحب بالرومانيين وساعدهم في اجتياز الطريق. وبناء على هذه الرواية ـ وهي أرجح الروايات ـ فإن الحملة قد مرت بيثرب واستراحت فيها قليلاً وتزودت بما يلزمها من الماء والطعام، فسترابون يذكر أن المنطقة كانت كثيرة العيون. ولاشك أن ذكاء الحارث وحسن تعامله مع قائد الحملة قد أفاد (يثرب) وبقية المدن التي مرت بها، فلم يتعرض الجيش لها بسوء، وربما يكون الحارث قد تفاهم مع شيوخ المنطقة ورؤسائها كي يتجنبوا الصدام مع الحملة.وعلى أية حال، فإن الحملة لم تترك أثراً في (يثرب) أو في حياة اليثربيين، حتى إننا لا نجد لها ذكراً في كتابات المؤرخين القدماء، بل إن الرومانيين بعامة لم يؤثّروا في حياة يثرب وأبنائها على الإطلاق. وكان مرور الجيش الروماني في هذه الحملة هو العلاقة الوحيدة والعابرة معهم.