الـمراقبـة - 2

الأمــان

يثـرب والكلـدانيون

 

الـمراقبـة - 2

روى عن الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى أنه قال: مثل العلماء كمثل النجوم إذا بدت اهتدوا بها وإذا أظلمت تحيروا، وموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلفت الليالي والأيام. والشاهد في هذا أن العلماء العاملين هم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

أورد الإمام المناوي عند شرحه لحديث (المؤمن أعظم حرمة من الكعبة) ما نصه:أخرج الأزرقي والجندي عن ابن عباس قال: النظر إلى الكعبة محض الإيمان.وأخرج الأزرقي والجندي عن ابن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه.وأخرج الأزرقي والجندي من طريق زهير بن محمد عن أبي السائب المدني قال: من نظر إلى الكعبة إيماناً وتصديقاً تحاتت ذنوبه كما يتحات الورق من الشجر قال: والجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت.وأخرج ابن أبي شيبة والأزرقي والجندي والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال: النظر إلى البيت عبادة، والناظر إلى البيت بمنزلة القائم الصائم المخبت المجاهد في سبيل الله.وأخرج الجندي عن عطاء قال: إن نظرة إلى هذا البيت في غير طواف ولا صلاة تعدل عبادة سنة، قيامها وركوعها وسجوده.وأخرج ابن أبي شيبة والجندي عن طاوس قال: النظر إلى هذا البيت أفضل من عبادة الصائم القائم الدائم المجاهد في سبيل الله.أخرج البيهقي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: النظر إلى الوالد عبادة، والنظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى المصحف عبادة، والنظر إلى أخيك حباً له في الله عبادة.كما أن النظر إلى المصحف يؤدي إلى الترقية في الدين: قال الإمام النووي في كتاب الأذكار: أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء، وذلك التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء وغير ذلك، ولكن قراءة القرآن حرام على الجنب والحائض والنفساء، سواء قرأ قليلاً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراء القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النظر في المصحف وإمراره على القلب.

والشاهد هنا من كلام الإمام النووي رضي الله عنه أن النظر إلى المصحف وإمرار المخطوط فيه على القلب يفيد الإنسان ويرقيه وإلا لو كان بغير فائدة ما أقره العلماء.

والتخيل والمراقبة القلبية حكمها حكم النظر بالعين ويوضح هذا ويظهره جليّا ما أورده إمامنا النووي في كتابه (الأذكار) ونصه: روينا في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها). وعند الآية 71 من سورة البقرة في تفسير القرطبي كان لإمامنا القرطبي لهذا الحديث شرححيث قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها) أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية. والشاهد من كلام القرطبي أن ما يترتب على النظر يترتب أيضاً من وصف دقيق يؤدي إلى تخيل ومراقبة بالقلب.

والنظر كما ورد فيما سبق نوعان: الأول: يؤدي إلى النار وهو النظر المحرم وهو عصيان لله تعالى. والثاني: وهو النظر إلى ما أحل الله كالنظر إلى الكعبة أو إلى وجه العالم أو وجه الأبوين هو طاعة وعبادة، والنظر في الحالتين يستوي فيه كونه نظراً مباشراً أي إلى عين المنظور إليه أو مراقبته وتخيله. ولا يختلف الأثر الذي يحدث للناظر كون المنظور إليه حياً أو ميتاً مناماً أو يقظة لأن المراقبة أمر قلبي؛ المهم أن يكون المُراقَب موجوداً، ومن هنا وبعد هذا الفهم نذهب إلى قوله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي). قال الإمام المناوي عند شرحه لهذا الحديث:(من رآني في المنام) أي في حال النوم وقال العصام في وقت النوم، فيه نظر أي رآني بصفتي التي أنا عليها وهكذا بغيرها على ما يأتي إيضاحه (قد رآني) أي ليبشر بأنه رآني حقيقة أي حقيقتي كما هي فلم يتحد الشرط والجزاء وهو في معنى الاخبار أي من رآني فأخبره بأن رؤيته حق ليست بأضغاث أحلامية ولا تخيلات شيطانية ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى وتعليل للحكم فقال (فإن الشيطان لا يتمثل بي)

وللحديث بقية

 

الأمــان

أبتدأ موضوعي بالدعاء لله والثناء عليه لتوفيقنا وهدايته لنا على ما نحن فيه من راحة ورضا وأمان وذلك بدخولنا كنف الهداية والرحمة من قبل أئمتنا ومشايخنا وسادتنا الصوفية الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم عنا آجمعين. كل إنسان في هذه الحياة الدنيا يسعى وراء أشياء كثيرة منها لقمة العيش ومنها العلم وغيره.. ولكنه مهما سعى يجد هذا السعي جزءاً من كل لا بد له من كمال وكمال السعي هو السعي لمعرفة الحق جلّ وعلا، ومهما بلغ الإنسان ما بلغ من نجاح يشعر أنه لا بد من أن ينجح في الوصول إلى مرضاة الخالق والتي لا تحدث إلا باتباع الدين الحنيف بكل ما جاء في الكتاب والسنة المحمدية بفهم صحيح وخطى ثابتة وقويمة ذلك بالائتمار بالأوامر الإلهية والانتهاء عما نهانا عنه سبحانه وتعالى، هذا لكي يصل الإنسان ويخطو الخطوة الأولى في طريق الأمان إذ لا يمكن أن تصل لمرحلة الشعور بالأمان والراحة التامة إلا عن طريق الاستمرار في السعي على هذا المنهاج وهذا الطريق، وهذا الأمان وهذه الراحة ليست متجزئة اذ لا يمكن للهان يرضى من عباده إقامة الفرائض وتجاهل النوافل فالنوافل وحدها القادرة على ترطيب القلوب وتليين الدواخل، قال تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهذا القول لا يعني عدم مقدرته جلّ وعلا على تغيير ما في نفوس الناس بل تعني أن ثمة وسيلة يجب الوصول إليها لتغيير الدواخل وتليين القلوب لتقوى على تحمل المصاعب التى يواجهها ابن آدم فى هذه الدار الفانية، ولا يحدث هذا التغيير إلا بالذكر والأوراد هي وحدها القادرة على تقويم الإنسان وتقويته من الداخل وتنقيته من الشوائب الدنيوية التي تجعله فريسة سهلة للشيطان والنفس والهوى والدنيا التي تبعده عن طريق الحق عزّ وجلّ وتجعله في حالة من الغفلة وعدم الإدراك ويعمون بصيرته عن رؤية المعاني الراقية التي يزخر بها ديننا الحنيف الذي أمرنا بالمحبة والرحمة، ومن هنا نجد أن هذه الحياة لا بد لها من أساس يبدأ به الكل ويتمرحلوا وفقاً له وعليه تقوم كل المناهج الدينية وهو ليس سوى المحبة الصِّرف لكل خلق الله من دون استثناء (فالمحبة من صنع الخالق وسواها من صنع الإنسان) يتقرببها الخلق إلى الخالق ويتعرف على معنى العبادة الحقيقية الغالية ابتغاء وجه الله الكريم إذ لا يمكن أن نكون مشوشي العقل والروح والقلب وندّعي التفاني في عبادتة سبحانه وتعالى، فيجب أولاً أن نُزيل من أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا ونجاهدها على إزالة كل المؤثرات التي تكون عقبة في طريق سيرنا إلى الله ومن دون الالتفات إلى الأمور الزائلة الدائبة التي لا يتأثر بها إلا ذوو القلوب الضعيفة الإيمان الذين يلعب بعقلهم الشيطان الذي أنزل في هذه الدنيا عدواً للإنسان ليزيغ القلوب ويلهي النفوس عن الإيمان والإحسان بزرع الفتن والأحقاد في القلوب وصرفها عن المحبة التي هي أساس من الإيمان والإحسان والتي من دونها يكاد يضل الناس عن سبيل دينهم ودنياهم.

فلا بد لكل مسلم ومسلمة مجاهدة عدوِّه وعدوِّ الله ولا بد من التزود بأسلحة الذكر والتحصين وغيرها لكي يصل إلى مرحلة الشعور بالأمان والراحة التامة. والذكر والتحصين هي من اختصاص أولياء الله الصالحين الذين خصَّهم بها من سائر عباده يعبرون بالناس بها إلى بر الأمان وواحة الإيمان والإحسان وهم مربو الأرواح بمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهم أهل المحبة التي هي أساس كل الفرائض،قال سيدى فخر الدين رضى الله عنه:

فكنْ يا مـريدى للكرام مقـلِّـدا          فليس أمان فى جناح الـبعوضة

فأن جنحت للسلم فاجنحْ لسلمهـا          وان جمحتْ فالذكرُ عينُ الحماية

وهذه المحبة لم نعرفها إلا عند مشايخنا الأحباء الأجلاء أهل الإسلام والإيمان والإحسان أهل المعرفة والعلم الخلف الصالح لحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً أثيراً إلى يوم الدين.

رانيا الشيخ حمد

تاريخ المدينـة المنـورة

يثـرب والكلـدانيون

ظهرت الدولة الكلدانية في العراق وكانت عاصمتها بابل، وقد ازدهرت ومدت نفوذها إلى مناطق واسعة في القرن السابع قبل الميلاد ووصلت في فترة من الوقت إلى الحجاز. وقد عثر في خرائب مسجد حـّران الكبير على نقش يتحدث عن أعمال الملك الكلداني (نبونيد)، وفيها أنه خرج إلى شمالي الجزيرة العربية واستولى على تيماء واستقر بها، ثم استولى على المدن المجاورة وضمها إليه، وهي: ددانو (مدينة قديمة معروفة ذكرتها الأسفار العبرانية)، وبداكوا (فدك)، وخبرا (خيبر)، واتريبوا (يثرب)، وظلت خاضعة لحكم هذا الملك عشر سنوات. ونبونيد هو آخر ملوك الدولة البابلية الكلدانية، حكم لمدة 16سنة (من سنة 556 ـ 539ق.م) قضى عشر سنوات منها في شمالي الجزيرة العربية تاركاً عاصمته بابل تحت حكم ابنه (بلشازار)، ثم عاد إلى بابل ليدهمهم الملك الفارسي قورش سنة 539 ق.م وينهي دولتهم ويجعلها ولاية تابعة لأمبراطوريته. وقد صالح أهل يثرب الملك نبونيد ودخلوا في طاعته سلماً بعد أن ضعف سلطان الدولة السبئية ودفعوا الضرائب التي كان يجبيها السبئيون منهم إليه. أحضر نبونيد معه بعض القبائل الكلدانية والأسرى اليهود إلى المنطقة، وأسكنهم فيها وأعطاهم بعض الأملاك التي نزعها من أصحابها العرب وحماهم بقطعات من جيشه، وكان يخطط لإلحاق المنطقة كلها بمملكته. ولكن الخطة لم تنجح ومات مشروعه مع عودته إلى بابل. غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في المنطقة وامتزجوا مع أهلها، ويستدل الدكتور جواد علي على ذلك بوجود بعض الألفاظ الكلدانية في لغة أهل يثرب والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها وخاصة في الزراعة.

تأسيس يثرب و المدينة

كانت المدينة المنورة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها تسمى (يثرب)، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان بعض المنافقين: {وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم} (سورة الأحزابالآية 13) وورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسمها من يثرب إلى المدينة، ونهى عن استخدام اسمها القديم فقال: (من قال للمدينة (يثرب) فليستفغر الله... مسند الإمام أحمد (4/285). كما ورد اسمها الجديد في القرآن الكريم ثلاث مراتٍ هي قوله تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق...} (سورة التوبة الآية 101) وقوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم أن يتخلفوا عن رسول الله} ...سورة التوبة الآية 120)، وقوله تعالى: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل...} (سورة المنافقون الآية 8)، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء أخرى في عدد من الأحاديث النبوية، أهمها: (طابة وطيبة) وربما يكون سبب تغيير اسمها القديم دلالته اللغوية المنفرة؛ فكلمة يثرب في اللغة مشتقة من التثريب. ومعناه اللوم الشديد أو الإفساد والتخليط (لسان العرب ـ مادة ثرب) وقد شاع اسم يثرب قديم. ووجد في نقوش وكتابات غير عربية فظهر في جغرافية بطليموس اليوناني باسم يثربا (YATHRIP)، وفي كتاب اسطفان البيزنطي باسم يثرب (YATHRIP)، وظهر اسمها في نقش على عمود حجري بمدينة حران (اتربو)، (ITRIBO).