|
من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني -
24 |
وكان رضي الله عنه يقول: يا أولادي لا تصحبوا غير شيخكم. واصبروا على
جفاه فإنه ربما امتحنكم ليريد بكم الخير، وأن تكونوا محلاً لأسراره ومطلعاً
لأنواره، ليرقيكم بذلك إلى معرفة اللّه عز وجل فمن أشغل قلبه بمحبة شيخه رقاه
اللّه عز وجل، ولولا أن الشيخ سلم لترقية المريدين، لمقت اللّه تعالى كل قلب وجد
فيه محبة لسواه فإن اللّه تعالى غيور. وكان يقول: يا أولاد قلبي إن أردتم أن
تُنادَوْا يوم المنة. {يا أيتها النفس المطمئنة} فليكن طعامكم الذكر وقولكم الفكر
وخلوتكم الأنس واشتغالكم باللّه تعالى لا خوف عقاب ولا رجاء ثواب، ولا بد لكل من
معلم ونحن ننتظر من فيض ما أفاض اللّه علينا، ولا نعرف غير طريق ربنا، ثم علم مكسوب
من الكتب وعلم موهوب من قبل ربن. وكان يقول: المراقب لا يتفرغ لطلب المكاسب وكل
من ادعى الحب ولم يفنه الحب فهو لا شيء. وكان يقول: إذا تجلى عروس الكلام في رتبة
الإلهام طلعت شموس المعارف وتجلى البدر المنير في الليل البهيم فهم سكرى الظواهر
صحوى البواطن والضمائر إذا جن عليهم الليل باتوا قائمين، فإذا ذهب عليهم نسيم
السحر مالوا مستغفرين، فلما رجعوا عند الفجر بالأجر نادى منادي الهجر يا خيبة
النائمين. وكان يقول: من لم ينخلع من طوره ويخرج عن نفسه ويأتي هو بلا هو، لا يجد
عند ذلك هو، وقد بالغت لكم جهدي في النصح فإن اتبعتم أفلحتم. وكان يقول: يا ولدي
البس قميص الفقر النظيف الظريف ما الأمر بلبس الثياب، ولا بسكنى القباب والخانقات،
ولا بالزاويات، ولا بلبس العبايات ولا بلبس القباء الأزرق ولا حف الشوارب ولا بلبس
الصوف ولا بالنعل المخصوف، إنما الفقر أن تخلص عملك كله في قلبك وتلبس ثوب صدق
عزمك وتحتزم بحزم إيمانك، فإذا كان عملك كله في قلبك، كان فائدة وبرحاً وأضرم نار
القلب، واحترق الحشى، وامتلأ القلب خوفاً من اللّه تعالى ومحبة له فما رقيق الثياب
حينئذ وما خشنها فإذا قويت في القلب الأنوار لم يطق صاحبه حمل ثوب رقيق ولا إزار،
قلت: وهذا سبب ترك بعض القوم لبس الثياب من مجاذيب وصحاة واللّه أعلم. قال الشيخ
رضي الله عنه: فإن تهتك هذا فلا يلام وإن صاح أو باح فقد حل عنه الملام، وإن رش
عليه الماء في ليالي الأربعينيات فلا يزيده إلا ضراما وكل شيء نزل باطنه من الطعام
والماء نَارَ واسْتَنَارَ. فيا أولادي الفقراء كلهم عندي ملاح فيكونوا عندكم كذلك،
فاحذروا الإنكار.
وكان رضي الله عنه يقول: خاص الخاص من أهل الخصوصية جعلوا زواياهم
قلوبهم ولبسهم تقواهم وخَوْفَهُم من ربهم ومولاهم قد رفضوا الكرامات ولم يرضوا بها
وخرجوا عنها لعلمهم أنها من ثمرة أعمالهم فلم يطيروا في الهواء ولم يمشبوا على ماء
ولم تسخر لهم الهوام ولم تبصبص لهم الأسود ولم يضربوا رجلهم بالأرض فتتفجر ماء ولا
مسوا أجذم، ولا أبرص، فبرىء ولا غير ذلك فخرجوا من الدنيا وأجورهم موفورة رضي اللّه
عنهم أجمعين.
وكان رضي الله عنه يقول: يا أولادي عمركم في انتهاب، وأجلكم في
اقتراب، وقد طويت الدنيا وجثا أولها عند آخرها فالسعادة كل السعادة لمن طوى منكم
صحيفته كل يوم مضمخة معنبرة ممسكة معطرة بأعماله الزكية وشيمه المرضية. والشقاوة
كل الشقاوة لمن طوى منكم صحيفته كل يوم على زلات وقبائح عظيمات. يا أولادي كأنكم
بالساهرة وقد مدت وبالجبال وقد دكت وبالحجارة وقد صاخت بالحصى وهو يقطر دماً
فبادروا واعملوا ولا تسرفوا تندموا هذه وصيتي لكم وهديتي إليكم وكان يقول: إنما
قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين.. لأن المقرب يراعي الخطوات واللحظات وبعد ذلك
من الهفوات، ويفتش على هواجس النفوس ويراقب خروج أنفاسه ويخاف من حسناته كما يخاف
المذنب من سيئاته. والأبرار لا يقدرون على هذا الحال، وأيضاً فالمقرب لا يقول عند
شرابه أواه ولا ما أحلاه ولا يصفق بكف، ولا يصرخ، ولا يشق، ولا يضرب برأسه الحجر
ولا يهيم، ولا يمشي على الماء ولا يقفز في الهواء، فلما لم يقع منه شيء من ذلك
أثبته أهل الطريق ونفوا من فعل ذلك لقلة ثبوته على الواردات مع أنهم سلموا له حاله
لغلبته عليه وجعلوا حسناته سيئات مع أن المقربين ليس لهم سيئات إنما هي محاسبات
عاليات نفيسات. وكان يقول: كيف يدعي أحكم أنه من الصالحين، وهو يقع في الأفعال
الردية، وأكل طعام المكاسين وأهل الرشا والربا والظلمة وأعوانهم، وكيف يدعي أنه من
الصالحين وهو يقع في الكذب والغيبة، والوقيعة في الناس، وفي أعراضهم، وكيف يطلب أن
يكتب عند اللّه صادقاً أو ولياً أو حبيباً أو زكياً أو رضياً وهو يقع في شيء من
المناهي، ولعمري هذا الآن لم يتب فكيف يدعي الطريق أو يتوب غيره.
وكان يقول: إن أردت يا ولدي أن تفهم أسرار القرآن العظيم فاقتل نفس
دعواك، واذبح شبح قولك، واطرح نفس نفسيتك تحت قدم أقدامك، وعفر خديك على الثرى،
واشهد أن نفسك قبضة من تراب واعترف بكثرة ذنوبك وخف أن يَرُدَّ عليك عبادتك وقل يا
ترى مثلي يقبل منه عمل فإذا كنت على هذا الوصف فيرجى لك أن تشم رائحة من معاني
كلام ربك، وإلا فباب الفهم عنك مغلق وعزة ربي إن كل حرف من القرآن العظيم يعجز عن
تفسيره الثقلان ولو اجتمع الخلق كلهم أن يعلموا معنى (ب) بعقولهم لعجزوا وما لأحد
من ذات بنفسه شيء قل ولا جل وإن لم يكن اللّه تعالى يعلم العبد وإلا فهو عائم في
البحر مزكوم محجوب لاشم ولا لم ولا علم ولا حس ومن لم يذق مقام القوم ويرى ويشاهد
لم يحسن أن يصف بحراً لا قرار له أو يترجم عن ساحل لا آخر له أو يعوم في قعر
التخوم أو يصل إلى النون أو يدرك معاني السر المصون. وأما إذا أعْطَى عَبدهُ عِلْمَ
ذلك فلا مانع.
وكان رضي الله عنه يقول: شراب القوم لا يشربه من في قلبه عَكَرُ دنس،
ولا بقايا غلس، ولا حظوظ نفسانية، ولا دعاوي شيطانية، ولا كبرُ ترفٍ ولا نفس ثائرة.
وكان رضي الله عنه يقول: كم من علم يسمعه من لا يفهمه، فيتلفه ولذلك
أخذت العهود على العلماء أن لا يودعوا العلم إلا عند من له عقل عاقل وفهم ثاقب. وكان
يقول: الصحيح من قول العلماء أن العقل في القلب لحديث (إن في الجسد مضغة)، ولكن
إذا فكرت في كنه العقل وجدت الرأس يدبر أمر الدنيا ووجدت القلب يدبر أمر الآخرة
فمن جاهد شاهد ومن رقد تباعد.. وكان يقول: ليس أحدهم يقدم في الطريق بكبر سنه،
وتقادم عهده، إنما يقدم بفتحه ومع هذا فمن فتح عليه منكم فلا يرى نفسه على من لم
يفتح عليه،� وتأمل يا ولدي ابليس اللعين
لما رأى نفسه على آدم عليه السلام. وقال أنا أقدم منه وأكثر عبادة ونورا كيف لعنه
اللّه تعالى وطرده وكان يقول يجب على حامل القرآن أن لا يملأ جوفه حراماً ولا يلبس
حراماً فإن فعل ذلك لعنه القرآن من جوفه. وقال لعنة اللّه على من لم يجل كلام
اللّه تعالى. وكان يقول: من أحب أن يكون ولدي فليحبس نفسه في قمقم الشريعة وليختم
عليها بخاتم الحقيقة وليقتلها بسيف المجاهدة، وتجرع المرارات ومن رأى أن له عملاً
سقط من عين ربه وحرم من ملاحظته وكان يقول: العارف يرى حسناته ذنوباً ولو آخذه
اللّه تعالى بتقصيره فيها لكان عدل. وكان يقول: يا أولادي اطلبوا العلم ولا تقفوا
ولا تسأموا فإن اللّه تعالى قال لسيد المرسلين {وقل رب زدني علماً} فكيف بنا ونحن
مساكين في أضعف حال وآخر زمان وسبب طلب الزيادة من العلم إنما هي للأدب يعني اطلب
الزيادة من العلم لتزداد معي أدباً على أدبك {وما قدروا اللّه حق قدره}.
وكان رضي الله عنه يقول: إذ أُلبس مريد الخرفة - (اعلم يا ولدي أن صحة
هذه الطريق وقاعدتها ومجلاها ومحكمها الجوع فإن أردت السعادة فعليك بالجوع ولا
تأكل إلا على فاقه فإن الجوع يغسل من الجسد موضع ابليس. فيا ولدي تريد شربة بلا
حمية هذا لا يكون).
وكان يقول: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بواطنكم بنور اللّه فيجد
فيها ما يسخط اللّه تعالى فإن أحببت يا ولدي أن تسمع وتبصر وتعقل فع في باطنك
الفوائد ولا تقنع ببوس اليد ولا بالرياسة، ولا يكمل الفقير إلا إن تكلم بمعاني
الحقيقة ذوقاً لا نقلاً وفعلاً لا قولاً، تحلى في باطنه بحلية الاصطفاء بالسر
والمعنى، فتغنى وتكلم بالحكم ونطق بالمعجم، بالسر المكتَّم. واطلع وحقق فما ينطق
إلا صدقاً ولا يتكلم إلا حقاً وعند ذلك يصح له أن يدعو الخلق إلى اللّه تعالى.
وكان رضي الله عنه يقول: يا ولد قلبي كن على حذر من الدخلاء والدخيل
السوء وإن عاينت من أخيك عنقاً أو حسداً فعاشره بالمعروف واحفظ نفسك عنه وأما
صديقك فإن صدقك فاحفظه وما للمرء يا ولدي إلا أن يكون على حذر من جميع البشر، فإنا
في آخر زمان وقد قل النصح حتى لا تكاد تنظرُ ناصحاً وعاد من توليه سروراً بوليك
نكداً وشروراً ومن ترفعه يسعى أن يضعك ومن لم تحسن إليه يسىء إليك بل ثم من تحسن
إليه يسىء إليك ومن تشفق عليه يود لو على الرماح رماك أو على الشوك داسك ومن تنفعه
يضرك ومن توليه معروفاً يوليك جفاء ومن تصله يقطعك ومن تطعمه يحرمك، ومن تقدمه إن
استطاع أخرك، ومن تربيه يقول أنا الذي ربيتك ومن تخلص له يغشك، ومن تهش له يكش فوا
عجباً للدنيا ولأهلك وإذا كان النفاق داخلاً في أيام الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام فكيف يخلو في قرن سابع فاستعمل يا ولدي الوحدة عن أهل السوء والكسب من أهل
الخير وإن استطعت أن لا تصحب من تتعب في صحبته فافعل فإنك إن صحبته ندمت على صحبته
وقد نصحتك يا ولدي. وأما أهل التمكين في هذا الزمان فقد تركوا أخلاق الأراذل من
الناس وغفروا لهم أفعالهم وغضوا أبصارهم عن نقائصهم وصموا آذانهم عن سماع أقوالهم.
وتركوا الكل لله وطلبوا من اللّه تعالى لأهل هذا الزمان عفواً شاملاً وقابلوا
سيئاتهم بالحسنات ومضراتهم بالمسرات والمبرات قلت ويشهد لأهل التمكين قوله صلى الله
عليه وسلم (ومن لا يمالئكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق اللّه) وفيما فعله أهل التمكين
دليل لغلق باب السلوك في هذا الزمان من باب أولى، لأن معالجة أهله تشغل الفقير عن
مهمات نفسه من غير ثمرة كما هو مشاهد واللّه أعلم.
السابق
التالي
|