حقوق الجوار في الإسلام
الصبر على اذى الجارقد اقتدى المسلمون فيه بالنبي عليه الصلاة
والسلام، فقد روى أنه جاءه رجل يوما يشكو جاره فقال له النبي: اصبر، فجاءه ثانية
وثالثة، فكان يأمره بالصبر، فلما جاءه الرابعة، قال له اطرح متاعك في الطريق. ففعل
الرجل ما أمره به، فجعل الناس يمرون به ويسألون عما نابه، فيقال لهم: له جار
يؤذيه، فكانوا يقولون: لعنة الله ! فأثر ذلك في قلب جاره المشاكس، فأتى صاحبه وقال
له: رد متاعك فوالله لا أعود !
وروى الزهري أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام فجعل يشكو جاره ؛
فأمر النبي أن ينادى على باب المسجد: (ألا إن أربعين داراً جار) قال الزهري: أربعون
هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا، وأومأ إلى أربع جهات. وإنما جعل النبي عليه
الصلاة والسلام هذا النداء جواباً على شكوى الرجل لأن فيه إيذاناً بخطورة حرمة
الجوار حتى إنها لتمتد إلى أربعين دارا، ومن يكلف بمراعاة حق أربعين لا يجوز له أن
يضيق ذرعاً بحق واحد. وهذا الضرب في الزجر من أبلغ أساليب التأديب التي لا تُؤثر
إلا على النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي تاريخ المسلمين أغرب الحوادث وأدعاها للاعتبار في مراعاة حقوق
الجوار، فقد روى أنه بلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دين ركبه، و كان
يجلس هو في ظل داره. فقال: ما قمت إذن بحرمة ظل داره إن باعها معدم. ودفع إليه ابن
المقفع ثمن الدار قائلاً له: لا تبعه.
وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره، فقيل له: لو اقتنيت هراً ! فقال: أخشى
أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون ةقد أحببت لهم ما لا أحب
لنفسي. هذا بعض ما يقال في حقوق الجوار في الإسلام، فألق عليه نظرة عامة ثم قابل
بينه وبين ما تراه وما تسمعه اليوم من أحوال الجيران. فأما تناكرهم فحدث عنه ولا
حرج، فقد يسكن عشرة عمارة واحدة فلا يعرف بعضهم بعضا، فما ظنك بمن يسكنون عمارات
أخرى؟
وأما ضروب الأذى فما لا يستطاع حصره، فمن أصغره وأخفاه تربص الشبان
خلف الشبابيك بالمناظرات المعظمة ليروا ما يدور خلال دور الجيران مما لا يحبون
كشفه لأحد،حتى ليضطروهم إلى إقفال شبابيكهم وحرمان أنفسهم من شعاع الشمس ونورها
الضروريين لصحة الأبدان. ومن أظهر الأذى وأضره إلقاء القمامات أمام أبواب الجيران،
وإطلاق العنان للأطفال وقت الهجير يقلقون راحة القائلين بضوضائهم، ووقت الأصيل
يثيرون التراب بكراتهم.
فإذا تركت المدن وانتقلت إلى الأقاليم رأيت هذه الحالة السيئة، ولكن
في شكل آخر، وأظهره تنابذ النسوة بسبب تناقش الأطفال، وتداخل الرجال في هذه
المنازعات، فتارة يقف الأمر عند الشتائم، وطوراً لا ينحسم الشر إلا بالتلاكم. أما
في الغيطان فإن حقوق المجاورة لا تراعى إلى حد بعيد، فيجور الجار على أرض جاره، أو
يترك ماشيته ترعى برسيمه في غفلته، أو يعاكسه في ري زرعه، أو يسد عليه طريق الصرف
لا لعذر غير حب المشاكسة. فهؤلاء كلهم لو ذُكِّروا بما ورد في الإسلام من وجوب
مراعاة حقوق الجيران، ووقفوا على هذه الوصايا القيمة التي لم يترك النبي وجهاً من
وجوه البيان إلا حلالها بها، قلنا لو ذُكِّروا بهذا كله لأثر فيهم أبلغ تأثير.
وقد عملت إدارة المعاهد الدينية في حدود ميزانيتها على تدارك هذا النقص
فأرسلت بعشرات الوعاظ إلى الأقاليم، والآمال معقودة، على إبلاغهم الرسالة إلى المدن
الكثيرة ليعم الناس النور الذي يحملونه إليهم، والله ولي المحسنين.
|