عبير التاريخ

علماء الأمس

كان رضى الله عنه إذا أراد أن يجلس لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغتسل وتبخر وتطيب ومنع الناس أن يرفعوا أصواتهم وكان إذا دخل بيته يكون شغله المصحف وتلاوة القرآن، وكان رضي الله عنه لايركب دابة ولاينتعل نعلا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم،ودخل معه الخليفة المنصور لزيارة الروضة الشريفة وسأله ياإمام أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل النبي وأدعو ؟ فقال له الإمام مالك: ولما تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة ابيك آدم عليه السلام ولما ضربه جعفر بن سليمان لإنكاره طلاق المكره، وحمله على بعير. قال له: ناد على نفسك ، فقال: ألا من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا مالك بن أنس أقول: طلاق المكره ليس بشئ.فبلغ ذلك جعفر، فقال: أدركوه، وأنزلوه،ولمكانة الإمام مالك في قلوب المسلمين اهتزت جنبات المدينة المنورة، وثار الناس وهاجو. فخاف الخليفة ثورة أهل الحجاز، فأرسل للإمام مالك يستقدمه إلى العراق. فاعتذر الإمام مالك، فطلب إليه الخليفة أن يقابله في منى في موسم الحج. فلما دخل الإمام على الخليفة، نزل المنصور من مجلسه إلى البساط، ورحب بالإمام وقربه، وقال يعتذر إليه عن ضربه وإيذائه: واللَّه الذي لا إله إلا هو، يا أبا عبد اللَّه، ما أمرت بالذي كان، ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيته إذ بلغني. يا أبا عبد اللَّه، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أماناً لهم من عذاب اللَّه وسطوته، ولقد رفع اللَّه بك عنهم وقعة عظيمة، وقد أمرت أن يؤتى بجعفر - الوالي - عدو اللَّه من المدينة على قتب، وأمرت بضيق محبسه، والمبالغة في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما ناله منك.فرد الإمام مالك، رضي اللَّه عَنهُ: عافى اللَّه أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوت عنه، لقرابته من رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم، وقرابته منك. وكان رضى الله عنه يقول: لا ينبغى للعالم أن يتكلم بالعلم عند من لا يستمع للعلم ولا يقدره فإنه ذل وإهانة للعلم. وأرسل إليه هارون الرشيد فقال ما وجدنا أفضل منك فتعال إلينا فلدينا أبو يوسف تتناظران ونحن نستفيد من علمكما ؟ فأرسل إليه الإمام مالك بقوله لاأراه من أهل العلم عندي فأناظره وأرسل إليه أخرى ليأتي فيعلم ويؤدب ولديه الأمين والمـأمون ؟ فأرسل الإمام مالك إليه كتابا قال فيه السلام على أمير المؤمنين وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد فإن هذا العلم قد خرج من بيتكم فإن أعززتموه أعز وإن أذللتموه ذل والعلم يسعى إليه ولايسعى إلى أحد، فإن أردت فارسل ولديك ومرهما ألا يتخطوا رقاب الناس ويجلسا حيث ينتهي المجلس. وقال لمطرف: ماذا يقول الناس فى ؟ فقال: أما الصديق فيثنى، وأما العدو فيقع فيك، فقال: ما زال الناس هكذا، لهم عدو وصديق، ولكن تعوذ بالله من رضاهم المطلق، وعن مصعب بن عبد اللَّه الزبيري عن أبيه قال:كنت جالساً بمسجد رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم مع مالك، فجاء رجل فقال: أيكم أبو عبد اللَّه مالك؟ فقالوا: هذا؛ فجاء فسلم عليه واعتنقه وقـبله بين عينيه وضمه إلى صدره وقال: واللَّه لقد رأيت البارحة رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم جالساً في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكاً، فأتي بك ترعد فرائصك، فقال: ليس عليك بأس يا أبا عبد اللَّه وكناك وقــال: اجلس فجلست، فقال: افتح حجرك ففتـحت فملأه مسكاً منوراً وقال: ضمه إليك وبثه في أمتي، فبكى مالك طويلاً وقال: الرؤيا تسر ولا تغر، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني اللَّه.هكذا كان علماء الأمس لذلك لا نعجب، إذا علمنا أن الناس كان يشدون الرحال إليه، من جميع البلاد الإِسلامية، ويزدحمـون على بابه طلباً للعلم.

محمد صفوت جعفر