إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِم.
قاله عليه الصلاة والسلام في صفة الدنيا والحثِّ على قلة الأخذ منه. والْحَبَطُ: انتفاخُ البطن، وهو أن تأكل الإبلُ الذُّرَقَ فتنتفخ
بطونها إذا أكثرت منه، ونصب حَبَطا على التمييز. وقوله أو يلم معناه يقتل أو يَقْرُبُ من القتل، والإلمام:
النزولُ، والإلمام: القرب، ومنه الحديث في صفة أهل الجنة لولا أنه شيء قضاه
اللّه لألم أن يذهب بصرهُ لما يرى فيها أي لقَرُبَ أن يذهب بصره. قال الأزهري: هذا الخبر - يعني إن مما ينبت - إذا بُتر لم يكد يُفْهَم،
وأوّلُ الحديث إني أخَافُ عليكم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرة الدنيا وزينتها
فقال رجل: أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام
إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطا أو يلم، إلا
آكلة الْخَضِرِ فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ
عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلطَتْ وَبَالَتْ ثم رَتَعَت (في جميع أصول هذا الكتاب ثم
رتعته والفعل لازم) هذا تمام الحديث. قال: وفي هذا الحديث مثلان: أحدهما للمُفْرِطِ في جمع الدنيا وفي منعها
من حقها، والآخر للمقتصد في أخْذِها والانتفاع بها، فأمّا قولُه وإن مما ينبت
الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلم فهو مثل المُفْرِط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن
الربيعَ يُنْبِتُ أحْرَار العُشْب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخَ بطونُها إذا
جاوزَتْ حدَّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حِلِّها
ويمنع ذا الحق حقَّه يهلك في الآخرة بدخوله النار. �وأما مَثَلُ المتقصد فقوله صلى اللّه عليه وسلم
إلا آكلة الْخَضِر بما وصفها به، وذلك أن الْخَضِرَ ليست من أحرار البقول التي
يُنْبتها الربيع، ولكنها من الْجَنْبَة التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البقول، فضرب
صلى اللّه عليه وسلم آكلةَ الخضِر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا
وجَمْعها، ولا يَحْمله الحرصُ على أخذها بغير حقه. فهو ينجو من وَبَالها كما نَجَتْ آكلةُ الخضِر، ألا تراه
قال عليه الصلاة والسلام فإنها إذا أصابَتْ من الْخَضِرِ استقبلت عينَ الشمس
فَثَلَطَتْ وبالت أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلةَ الشمس تستمرىء بذلك
ما أكَلَتْ وتجترُّ وتَثْلِط، فإذا ثَلَطته فقد زال عنها الْحَبَط، وإنما تَحْبَطُ
الماشيةُ لأنها لا تثلِطُ ولا تبول. يضرب في النهي عن الإفراط.
القراءات جمع قراءة من قرأ، وجرى إطلاق السلف لفظة قراءة للتعبير عن
صنيع القراء في أداء نص القرآن المجيد. وقد وجد الاصطلاح سبيله إلى هذا المعنى
اللغوي، فأصبحت كلمة قراءة إذا أضيفت إلى واحد من أعلام القراء تدل على منهج معين
لهذا القارئ في التلقي والأداء، أو في فرش بعض الحروف، ويقسم علماء القراءة مناهج
القراء إلى:أصول: وهي قواعد القراءة لكل قارئ كمد الميمات وتحقيق الهمزات وإمالة
الألفات وغير ذلك. فرش: وهي الكلمات القرآنية بعينها وكيف قرأها كل قارئ، وسميت
فرشاً لأنها تفرش في التعليم على مواضع الآيات، ولا تندرج تحت أصول جامعة. واشتهر
من الصحابة قارئون كثير، فكان يقال: قراءة ابن مسعود، وقراءة أبي، وقراءة زيد بن
ثابت، وقراءة أم سلمة. ولم تكن تلك القراءات تؤدي المعنى ذاته الذي أصبحت تؤديه
فيما بعد، إذ لم يكن لكل صحابي أصول وفرش ينفرد به عن إخوانه، كما إن التدوين لم
ينهض بوصف اختياراتهم في سائر الآي، بل غاية ما وصلنا عنهم اختيارات في قراءة بعض
الآيات، أو انتهاج بعض الأصول.
الأصل الشرعي لكلمة قراءة ولعل من أقدم النصوص التي أشارت إلى تسمية الاختيار في التلاوة قراءة،
ذلك الحديث المشهور المروي في الكتب الصحاح ونصه:عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت
هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم فلبَّبته فقلت: من أقرأك هذه
السورة التي سمعتك تقرأ: قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له:
كذبت، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهو أقرأني هذه السورة التي
سمعتك. فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوده، فقلت: يا رسول
الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان.
فقال يا هشام اقرأها، فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: هكذا أنزلت ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأتها التي أقرأنيها فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن
أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منهحديث مشهور وهكذا فإن الأصحاب رضوان الله عليهم أطلقوا لفظ (قراءة) على ما تخيره
القراء من تلاوات النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن الكريم. ولم تجد هذه
القراءات سبيلها إلى التدوين إذ لم يجتمع للصحابي مذهب مستقل في الأصول والفرش، بل
هي اختيارات متفرقة تلقوها عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - في مناسبات متعددة. ويكشف لك الحديث السابق عن الإذن الشرعي الصادر من النبي - صلى الله
عليه وسلم - والذي يأذن فيه للصحابة الكرام برواية القرآن الكريم عنه - صلى الله
عليه وسلم - مع التفاوت في الأداء أصولاً وفرشا. وثمة أحاديث أخرى في قراءة الصحابة بالقراءات نورد منها: روى البخاري
ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -:أقرأني جبريل على حرفٍ فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى
سبعة أحرف البخاري في فضائل القرآن وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان عند أَضاةَ بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن
الله يأمرك أن تُقْرِيء أُمتكَ القرآن على حرف. فقال: أسألُ الله معافاته ومغفرته،
وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أُمتك القرآن
على حرفين فقال: أسألُ الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة
فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته
ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك
القرآن على سبعة أحرفٍ، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأخرج الإمام أحمد بسنده
عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أنَّ رجلاً قرأ آيةً من القرآن، فقال له
عمرو إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن هذا القرآن
أنزل على سبعة أحرفٍ فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا، أي لا تشكوا ولا تجادلوا ويجب
القول إن المستند الشرعي للإقراء بالقراءات لا يقف عند حدود ما أوردناه من نصوص
السنة الشريفة وهي في أعلى درج الصحيح، بل إن أقوى مستند لهذا الوجه إنما هو ذلك
التواتر الذي تؤدى به هذه القراءات، وهو الذي لا رتبة فوقه من التواتر، والذي ما
زالت جماهير الأمة تتلقاه وتلقّيه منذ عصر النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وستجد في الفصل المخصص للأسانيد بهذه الدراسة مبلغ ما اشتملت عليه
أسانيد الإقراء من رجال الضبط والإتقان الذين يبلغون أعلى درجات التواتر في كل حلقة
من حلقات الإسناد. من دراسات د. محمد الحبش
إن للأشياء وجود في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان وكل سابق منها
على اللاحق.� ثم العلم المتعلق بالثلث
الأول آلي والعلم المتعلق بالأخير: إما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل حصول غيره. أو
نظري يقصد به حصول نفسه فقط. ثم كل منها: إما أن يبحث فيه من أنه مأخوذ من الشرع،
فهو العلم الشرعي. أو من حيث أنه مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي، فهذه هي الأصول
السبعة، ولكل منها أنواع، ولأنواعها فروع وإن كان لا ينحصر.� قال بعض الفضلاء: علم التفسير لا يتم إلا بأربع
وعشرين علماً وعد الإمام الشافعي في مجلس الرشيد ثلاثاً وستين نوعاً من علوم
القرآن. وقال بعض العلماء: العلوم المستخرجة من القرآن ثمانون علماً، ودون فيها
كتب. وقيل: إن العلوم الحكمية تتضمن خمسة عشر فناً إلا أن فروعها أكثر من خمسين، ثم
قال: والمختار عندي أن عدد العلوم أكثر من أن يضبطه القلم.� وعن الإمام الغزالي عن بعضهم: إن القرآن يحتوي
سبعاً وسبعين ألف علم ومئتي علم، كذا ذكره في الباب الرابع من كتاب آداب التلاوة
من أحياء العلوم. ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه ذكر في (قانون
التأويل): إن علوم القرآن خمسون علماً وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف
علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة، ظهر وبطن وحد ومطلع. ونقل
عن الغزالي أيضاً: إن من العلوم ما استأثر الله به ولم يطلع أحداً عليه. ومنها: ما
يعرفه الملائكة دون البشر. ومنها: ما يعرفه الأنبياء دون من عداهم. ومنها: ما
تصورته الأذهان ولم يدون في الكتاب. ومنها: ما دون ثم ضاعت كتبها وانطمست آثارها
وانقطعت أخباره.� إن خطر ببالك أن الفنون
كثيرة وتحصيل كلها غير يسير ومدة العمر قصيرة وتحصيل آلات التحصيل عسير فكيف
الطريق إلى الخلاص عن هذا المضيق؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسماً ورسماً
وموضوعاً ونفعاً، فإن سهل عليك تحصيل تلك العلوم كلها فحبذ أو قل: الحمد لله الذي
هدانا لهذا، لما قال أفلاطون: ما من علم مستقبح إلا والجهل به أقبح. وإن أعجلك
الوقت وخشيت أن تخترمك الشواغل بالفوت فخذ من كل علم أحسنه، وإن اختلج في صدرك أن
الأغراض مختلفة في أمر العلوم، وتتفاوت في الميل إليها الطباع والفهوم، وتتباين في
استحسانها العادات والرسوم، حتى يعد طائفة، من قبل الجنون تحصيل ما عند الآخرين من
الفنون، إذ كل حزب بما لديهم فرحون فتأمل قول من قال:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنــا
وما سواه فوسواس الشياطيـن وقد قيل:
جميع العلم في القرآن لكن
تقاصر عنه أفهام الرجال وبالجملة أحسن العلوم ما سأل عنه جبريل عليه السلام نبينا - صلى الله
عليه وسلم - حين سأل أولاً عن الإيمان، ثم عن الإسلام، ثم عن الإحسان، والحديث
والتفسير أم لهذه العلوم وأصول لها، وإليها ينتهي مداره. انتهى حاصله. قلت وفي
الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (العلم
ثلاثة: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة، وما كان سوى ذلك فهو فضل). رواه
أبو داود وابن ماجة. ومعنى فضل زائد لا ضرورة فيه:
أحب حديث المصطفى وأوده
�وادرسه عمري واضبط كتبه
وذلك عند المصطفى لي شاهد
تجلى له والمرء مع من أحبه اخترنا في هذا الكتاب الترتيب الذي اختاره صاحب (كشف الظنون) لكونه سهل
التناول. ولم نجد لابن خلدون ترتيباً في ذكر العلوم، نعم رتب صاحب (مدينة
العلوم) كتابه على ترتيب غير ترتيب حروف المعجم وذكر في المقدمة حصر العلوم على
الإجمال كما تقدم نقله وتكلم في الكتاب على سبع دوحات كل منها في بيان أصل من
الأصول السبعة.
الـمـراقـبــــة -2
لماذا المراقبة بالقلب وليس بالعين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم ينظر إلى امرأة أول
رمقة ثم يغض بصره إلا أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه التخريج: رواه الإمام السيوطي في الجامع الصغير، أحمد في مسنده
والطبراني في الكبير عن أبي أمامة وشرح هذا الحديث الإمامِ المناوي في فيض القدير، شرح الجامع الصغير، (ما من
مسلم ينظر إلى امرأة) أي أجنبية بدلالة السياق (أول رمقة) هذا لفظ رواية الطبراني
ولفظ رواية أحمد ينظر إلى محاسن امرأة (ثم يغض بصره) عنها (إلا أحدث اللّه تعالى له
عبادة يجد حلاوتها في قلبه) فإن الإنسان خلق مفتوح العين عمول اللحاظ ومن شأن عينه
أن تطرف فإذا وقع بصره على شيء لم يؤاخذ لعدم العمل القلبي فإذا أعمل بصره بعد فإنه
أعمله القلب فالأول مرفوع عنه والثاني مكلف به فلما وقع بصره على محاسنها وجب الغض
فإذا امتثل الأمر فقد قمع نفسه عن شهوتها فجوزي بإعطائه نوراً وجد
به حلاوة العبادة وذلك داع إلى ازدياد منها وكلما ازداد منها في هذه الدار ازداد
رفعة في دار القرار. ولله در القائل:
لأن كنت مني في العيان مغيباً��
فذكرك
عندي في الفؤاد عتيد صور من المراقبة دوام اشتياق الصحابة لرؤيته صلى الله عليه وسلم وعدم
الصبر على فراقه في حياته: لو تأملنا مصادر التشريع الإسلامي لوجدنا أن ثاني
المصادر في التشريع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن بعض آي القرآن ما كنا
نستطيع تطبيقها إلا بمراقبة أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله تعالى
في كتابه العزيز بالصلاة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني
أصلي البخاري فأهم فروض الدين أُخذت من مراقبته صلى الله عليه وسلم كما أنه من
المعروف أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال وأفعال وأحوال وإقرارات وصفاته
صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الإقرار بابتسامة أو إماءة أو صمت ولا يتسنى
لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم السنة المباركة إلا بمتابعة رسول الله صلى
الله عليه وسلم متابعة تامة بالعين، ومراقبة أحواله وأقواله صلى الله عليه وسلم. وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمي الشوق لرؤيته صلى الله
عليه وسلم وإطالة مراقبته والجلوس معه، وقد قال لهم في إحدى المرات أن إطالة الجلوس
معه صلى الله عليه وسلم والنظر إليه فيها صلاح قلوبهم وسيأتي ذكره في
موضعه إن شاء الله. أحمد عبد المالك |
|