الحافظ الـسيوطي

إنَّ الْبَلاَءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ

أدب الوفود

 

الحافظ الـسيوطي

جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري السيوطي الشافعي المسند المحقق المدقق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة. ولد بعد مغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة، وعرض محافيظه على العز الكناني الحنبلي فقال له ما كنيتك فقال لا كنية لي فقال أبو الفضل وكتبه بخطه.

وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر، وقد وصل في القرآن إذ ذاك إلى سورة التحريم، وأسند وصايته إلى جماعة منهم الكمال بن الهمام فقرره في وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره، وختم القرآن العظيم وله من العمر دون ثمان سنين، ثم حفظ عمدة الأحكام ومنهاج النووي وألفية ابن مالك ومنهاج البيضاوي، وعرض ذلك على علماء عصره وأجازوه، وأخذ عن الجلال المحلى والزين العقبى، وأحضره والده مجلس الحافظ ابن حجر، وشرع في الاشتغال بالعلم من ابتداء ربيع الأول سنة أربع وستين وثمانمائة فقرأ على الشمس السيرامي صحيح مسلم إلا قليلا منه والشفا وألفية ابن مالك فما أتمها إلا وقد صنف، وأجازه بالعربية وقرأ عليه قطعة من التسهيل وسمع عليه الكثير من ابن المصنف والتوضيح وشرح الشذور والمغنى في أصول فقه الحنفية وشرح العقائد للتفتازاني، وقرأ على الشمس المرزباني الحنفي الكافية وشرحها للمصنف ومقدمة ايساغوجي وشرحها للكاتي وسمع عليه من المتوسط والشافية وشرحها للجاربردي ومن ألفية العراقي، ولزمه حتى مات سنة سبع وستين، وقرأ في الفرائض والحساب على علامة زمانه الشهاب الشار مساحي، ثم لزم دروس العلم البلقيني من شوال سنة خمس وستين فقرأ عليه ما لا يحصى كثرة، ولزم أيضا الشرف المناوي إلى أن مات وقرأ عليه ما لا يحصى، ولزم دروس محقق الديار المصرية سيف الدين محمد بن محمد الحنفي، ودروس العلامة التقي الشمني، ودروس الكافيجي، وقرأ على العز الكناني، وفي الميقات على مجد الدين بن السباع والعز بن محمد الميقاتي، وفي الطب على محمد بن إبراهيم الدواني لما قدم القاهرة من الروم، وقرأ على التقي الحصكفي والشمس البابي وغيرهم.

وأجيز بالإفتاء والتدريس. وقد ذكر تلميذه الداودي في ترجمته أسماء شيوخه إجازة وقراءة وسماعا مرتبين على حروف المعجم فبلغت عدتهم أحدا وخمسين نفسا واستقصى أيضا أسماء مؤلفاته الحافلة الكثيرة الكاملة الجامعة النافعة المتقنة المحررة المعتمدة المعتبرة فنافت عدتها على خمسمائة مؤلف، وشهرتها تغني عن ذكرها، وقد اشتهر أكثر مصنفاته في حياته في أقطار الأرض شرقا وغربا، وكان آية كبرى في سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودي: عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفا وتحريرا، وكان مع ذلك يملي الحديث ويجيب عن المتعارض منه بأجوبة حسنة، وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالا وغريبا ومتنا وسندا واستنباطا للأحكام منه، وأخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث، قال ولو وجدت أكثر لحفظته، قال ولعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك.

ولما بلغ أربعين سنة أخذ في التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاشتغال به صرفا والإعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم، وشرع في تحرير مؤلفاته، وترك الإفتاء والتدريس واعتذر عن ذلك في مؤلف سماه بالتنفيس، وأقام في روضة المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات، ولم يفتح طاقات بيته التي على النيل من سكناه، وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النفيسة فيردها، وأهدى إليه السلطان قانصوه الغوري خصيا وألف دينار فرد الألف وأخذ الخصى فأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية وقال لقاصد السلطان لا تعد تأتينا بهدية قط فان الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وطلبه السلطان مرارا فلم يحضر إليه، ورؤى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام والشيخ السيوطي يسأله عن بعض الأحاديث والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له هات يا شيخ السنة، ورأى هو بنفسه هذه الرؤيا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له هات يا شيخ الحديث. . .

ومناقبه لا تحصر كثيرة ولو لم يكن له من الكرامات إلا كثرة المؤلفات مع تحريرها وتدقيقها لكفى ذلك شاهدا لمن يؤمن بالقدرة. وله شعر جيدة كثير ومتوسطة أكثر، وغالبة في الفوائد العلمية والأحكام الشرعية.

وتوفي سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وتسعمائة في منزله بروضة المقياس- بعد أن تمرض سبعة أيام بورم شديد في ذراعه الأيسر- عن إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما، ودفن في حوش قوصون خارج باب القرافة.

من شذرات الذهب للعماد الحنبلي

إنَّ الْبَلاَءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ

قال المفضل: يقال: إن أول من قال ذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه فيما ذكره ابن عباس، قال: حدثني علي ابن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه لما أمِرَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يَعْرِضَ نفسَه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر، فَدُفِعْنَا إلى مجلسٍ من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر وكان نَسَّابة فسَلَّم فردُّوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال: أمِنْ هامتها أم من لَهَازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، قال: فأيُّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذُهْلٌ الأكبر، قال: أفمنكم عَوْف الذي يقال له لاَحُرّ بِوَادِي عَوْف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بِسْطَام ذُو اللَّواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا؟ قال: أفمنكم جَـسَّاس بن مُرَّةَ حامي الذِّمار ومانِعُ الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحَوْفَزَان قاتل الملوك وسالبها أنفَسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدَلف صاحب العِمَامة الفَرْدة؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم أخوال الملوك من كِنْدَة؟ قالوا: لا، قال: فلستم ذُهْلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام قد بَقَلَ وَجْههُ يقال له دغفل، فقال:

إنَّ عَلَى سِائِلِناَ أنْ نَسْأَلَــه         وَالْعِبْءُ لاَ تَعْرِفُهُ أوْ تَحْمِلَهُ

يا هذا، إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئاً فمن الرجل أنت؟ قال: رجل من قريش، قال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تَيْم بن مُرَّة، قال: أمْكَنْتَ واللّه الرامي من صفاء الثغرة، أفمنكم قُصَيّ بن كلاب الذي جَمَعَ القبائل من فِهْر وكان يُدْعَى مُجَمِّعاُ؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هَشَم الثريدَ لقومه ورجالُ مكة مُسْنتُونَ عِجَاف؟ قال: لا، قال: أفمنكم شَيْبَةُ الحمدِ مُطْعم طير السماء الذي كأن في وجهه قمراً يضيء ليل الظلام الداجي؟ قال: لا، قال: أفمن المُفِيضينَ بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل النَّدْوَة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرِّفادة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحِجَابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السِّقَاية أنت؟ قال: لا، قال: واجتذبَ أبو بكر زِمام ناقته فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال دغفل: صادَفَ دَرأ السيل دَرْأً يصدعُهُ، أما واللّه لو نبتَّ لأخبرتك أنك من زَمَعَات قريش أو ما أنا بدغفل، قال،: فتبسَّم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال علي: قلت لأبي بكر: لقد وقَعْتَ من الأعرابي على باقِعَةٍ، قال: أجَلْ إن لكل طامة طامة، وإن البلاء مُوَكَّل بالمنطق.

أدب الوفود

وفد بني فــزارة

قال أبوالربيع بن سالم في كتابه المسمى بالاكتفاء في مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى الثلاثة الخلفاء: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم عليه وفد بنى فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن والحر بن قيس بن حصن ابن أخى عيينة بن حصن وهو أصغر هم فنزلوا في دار بنت الحارث وجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالاسلام وهو مسنتون على ركاب عجاف.

فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم فقال أحدهم يا رسول الله أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا وأجدب جنابنا وغرث عيالنا فادع لنا ربك يغثنا واشفع لنا إلى ربك وليشفع لنا ربك اليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله ويلك هذا أنا أشفع إلى ربى عزوجل فمن ذا الذى يشفع ربنا اليه لا إله إلا هو العلى العظيم وسع كرسيه السموات والارض.

فهى تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عزوجل ليضحك من شفقكم وأزلكم وقرب غياثكم فقال الاعرابى يا رسول الله ويضحك ربنا عز وجل قال نعم قال الاعرابى لن يعدمك من رب يضحك خير.

فضحك النبى صلى الله عليه وسلم من قوله وصعد المنبر فتكم بكلمات وكان لا يرفع يديه في شئ من الدعاء إلا رفع الاستسقاء فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه وكان مما حفظ من دعائه:

اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك واحى بلدك الميت اللهم اسقنا غيثا مريحا مريعا طبقا واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الاعداء.

فقال أبولبابة بن عبدالمنذر الانصارى فقال يا رسول الله التمر في المرابد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله اللهم اسقنا حتى يقوم أبولبابة عريانا يسد ثعلب مربده بازاره قالوا لا والله ما في السماء سحاب ولا قزعة وما بين المسجد وبين سلع من شجر ولا دار فطلت من وراء سلع سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فوالله ما رأينا الشمس سبتا وقام أبولبابة عريانا يسد ثعلب مربده بازاره لئلا يخرج التمر منه فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه مداحتى رؤى بياض إبطيه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الاودية ومنابت الشجر قال فانجابت السحابة السحاب عن المدينة انجياب الثوب.

وفد بنى اسد

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى أسد عشرة رهط فيهم وابصة ابن معبد وطليحة بن خويلد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد مع أصحابه فسلموا وتكلموا فقال متكلمهم يا رسول الله إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وجئناك يا رسول الله ولم تبعث الينا بعثا ونحن لمن ورائنا.

قال محمد بن كعب القرظى فأنزل الله على رسول عليه السلام {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين}.وكان مما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه يومئذ العيافة والكهانة وضرب الحصى فنهاهم عن ذلك كله فقالوا يا رسول الله إن هذه أمور كنا نفعلها في الجاهلية قال رأيت خصلة بقيت قال وماهى قالوا الخط قال عامه نبى من الانبياء فمن صادف مثل علمه علم.

الحافظ بن سيد الناس