بقيـة عهـد المماليك

ختام الفرقة الناجية

الزهد فـي الدنيا يريح القلب والبدن

تاريخ المدينة المنورة
بقيـة عهـد المماليك

تعد إمارة جماز بن شيحة على المدينة منذ أن شارك ابن أخيه مالك بن منيف حتى تنازله لابنه منصور عام 700 نموذجاً لحالات الصراع على الإمارة داخل الأسرة الواحدة، والصراع على النفوذ والسلطة مع أبناء العم حكام مكة والحسنيين، ولكن جماز بن شيحة نجح بعد ذلك في إقامة علاقات حسنة مع أمير مكة والسلطان المملوكي قلاوون، و استطاع أن يثبت الأمن والاستقرار في المدينة حتى نهاية إمارته عام 700 هـ، وفي عهد منصور بن جماز الذي امتدت إمارته ربع قرن من 700 ـ إلى 725 هـ، بدأ العهد بفترة استقرار مدتها تسع سنوات ثم تلتها فترة اضطرابات بسببها طمع طفيل شقيق منصور في الإمارة، فرحل إلى القاهرة واستصدرمرسوماً يقضي باشتراكه في الحكم وعاد إلى المدينة ومنصور غائب عنها فهاجمها برجاله وفشل في اقتحامها بسبب مقاومة كبيش بن منصور وخسر حياته، وثأر ماجد بن طفيل لمقتل أبيه واستعان بأمير ينبع فأمده بالمال والرجال، وهاجم المدينة عدة مرات دون جدوى حتى عام 717 هـ حيث دارت معركة عند جبل سلع قتل فيها ماجد واستراحت المدينة من فتنته، لكن أقرباءه استطاعوا الثأر له عام 725 هـ ففاجأوا الأمير منصور وهو في عدد قليل من رجاله وقتلوه وتولى ابنه كبيش الإمارة واستمر مسلسل الثأر والانتقام من الطرفين فقتل كبيش قتلة أبيه ثم دفع حياته ثمناً لذلك عام 728 هـ، مقابل ذلك كانت المدينة تعيش في هدوء وطمأنينة عدة سنوات، عندما يحسن الأمير تسيير الأمور بحكمة وعدل، ويحسن العلاقة مع أفراد أسرته وأبناء عمومته والقبائل المحيطة بالمدينة فتزدهر الحياة الاقتصادية وتكثر القوافل التجارية وقوافل الزائرين الوافدة، ويشتغل الكثيرون بالعلم في حلقات المسجد النبوي وفي الأربطة والمدارس التي بدأت تظهر ويزداد عددها، ومثال ذلك الفترة التي مرت بها المدينة في إمارة عطية بن منصور سنة 760 إلى 773 هـ ويذكر المؤرخون أن المدينة عاشت ثلاث عشرة سنة في أحسن حال بسبب حسن سياسته، وكرم أخلاقه، وزهده في المكاسب الدنيوية، واهتمامه بشؤون الناس، وقد أسقط الضرائب التي فرضها أسلافه على أهل المدينة، والوافدين إليها، والتجار والمزارعين، وطلب معونة من السلطان المملوكي لتغطية نفقات الإمارة، فاستجاب له السلطان، واهتم بدروس العلم في المسجد النبوي وقرر دروساً في المذاهب الأربعة، وأجرى للمدرسين والقرّاء رواتب مناسبة، وأعطى الفقراء ما كان يرد لهم، وعاش هو وأسرته حياة زهد وتقشف فينفق عليهم من ماله الخاص، ويضيف المؤرخون أنه صلح بصلاحه أقاربه ومساعدوه، ونَعِمَ أهل المدينة بالأمن والعدل والخصب، وبعد موت عطية عام 773 هـ عاد الصراع ثانية بين أفراد الأسرة، وأججه تعجل السلطان المملوكي بإصدار مرسوم تعيين الأمير من غير أن يكون أهلاً لذلك، ملتفتاً إلى الوساطات والهدايا معرضاً عن رأي الأسرة لأخذ رأيها فيمن يصلح للإمارة، فيوسد الأمر لغير أهله وتقع الفتن والاضطرابات بين المتنافسين، وهكذا عاشت المدينة بقية العهد المملوكي بين الهدوء والاضطراب السياسي، وكان تدخل سلاطين المماليك قوياً يبدأ بتعيين الأمير ويصل إلى درجة القبض عليه وسجنه في مصر إذا كثرت منه الشكاوي أو بدر منه ما يقتضي معاقبته، ويدلنا جدول أمراء المدينة على صورة الحياة السياسية من خلال المعارك والاشتباكات الداخلية والخارجية ونهاية بعض الأمراء، وأهم الأحداث التي وقعت في هذه الفترة ما يلي:

1 ـ احتراق المسجد النبوي بسبب صاعقة سقطت على المئذنة والسقف، وإعادة بنائه مرة أخرى سنة 886هـ،

2 ـ تجديد المسجد النبوي في عهد السلطان قايتباي سنة 888هـ، وبناء عدد من المدارس والأربطة أهمها مدرسة قايتباي،

3 ـ استيلاء الأمير حسن بن زبيري على بعض نفائس المسجد النبوي، وهربه إلى البادية سنة 901هـ،

4 ـ إلغاء الاستقلال الإداري للمدينة، وإلحاقها بإمارة مكة وتكليف أمير مكة باختيار أمير للمدينة من أفراد الأسرة الحسينية نفسها بعد استشارة قضاة المدينة، على أن يكون أمير المدينة نائباً لأمير مكة يرجع إليه في الأمور المهمة، وبذلك فقد أمير المدينة كثيراً من صلاحياته، وينتهي هذا العهد بانتهاء حكم المماليك في مصر وسيطرة السلطان العثماني سليم الأول عليها حيث تحول ولاء المدينة ـ ومكة أيضاً ـ إلى العثمانيين، فقد أرسل الشريف بركات ابنه أبانمي على رأس وفد من الأعيان إلى القاهرة وسلمه مفتاح أحد أبواب مكة رمزاً للولاء فبدأ عهد العثمانيين عام 923هـ، والجدير بالذكر أن المدينة شهدت حركة ثقافية نشيطة جداً في العهد المملوكي ولا سيما في القرنيين الأخيرين، فقد وفد إليها عدد كبير من العلماء من أنحاء العالم الإسلامي ودرسوا في المسجد النبوي، وفي بعض مدارسها، واستوطن بعضهم فيها، وكثرت فئة المجاورين وأسهمت في تنشيط حركة الثقافة، ومن أبرز العلماء الذين ولدوا فيها، أو وفدوا إليها وأقاموا فيها: ابن فرحون، والحافظ العراقي، والسخاوي، والسمهودي، وغيرهم كثير، كما ألف في هذا العصر عدد كبير من الكتب عن المدينة وأعلامها، منها: التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة للمطري، وتحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة للمراغي، ونصيحة المشاور وتعزية المجاور لابن فرحون، والمغانم المطابة في معالم طابة للفيروز آبادي، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي وغيرها،

معجم البلدان وغيره من المصادر

ختام الفرقة الناجية

إذا تأملتَ ما قرّره علماء الأصول في أنواع الطوائف التي لها الإجماع الموجِب لِلعلم كما وضَّحْنا وهي: الصحابة، وأهل المدينة، والعترة النبوية لوجدتَ أنك إذا نظرتَ إلى كل واحدة منها لوجدتَ فيها ما تبقّى مِن الثلاثة بمعنى: أنك لو نظرتَ إلى الصحابة لوجدتَ فيهم أهل المدينة والعترة.ولو نظرتَ إلى أهل المدينة لوجدتَ فيهم الصحابة والعترة.ولو نظرتَ إلى العترة لوجدتَ الصحابة وأهل المدينة.ولو تأملتَ طائفةً واحدةً مِن الثلاثة تنهض وحدها دونما حاجة إلى الاثنتين جدلاً لوجدتَها طائفة أهل البيت، فلا غِنى لِلصحابة عن أهل البيت، ولا غِنى لأهل المدينة عن أهل البيت، ولكن العترة النبوية مِن أهل البيت تقوم وحدها قوةً عظمى في التشريع الإسلامي، لأن الله أَذهَبَ عنهم الرجس ثم طهَّرَهم تطهيرا، فاستحَقوا ما أَتحَفَهم به جدُّهم مِن ميراث نور النبوة والعلم، فاللهم انفعنا به في الدين والدنيا والآخرة.وصل: فيمَن تساءل: كيف أجد ضالتي وأرى أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأحظى بالنجاة على أيديهم؟ والجواب إنّ فضل الله عظيم، وكرمه عميم، سيما بأمة الرءوف الرحيم، وما كان لرب رحيم وعبد رحيم أن يضيع عندهما عبد ضعيف سقيم.. أوَ لم تسمع قوله(وَاللَّهِ لاَ أَرْضَى وَوَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّار) فكيف يترك أمته بلا دليل؟! فإذا أَكرمَك الله بصحبته والوقوع عليه والمثول بين يديه فقل: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني مِن المكرَمين.وإن ابتلاك ربك فغيَّبَه عنك كما يغيب البدر بين طيات الغمام فارجع إلى مولاك بِذُلٍّ وانكسار، واسأله النعمة ودوامها، فإنما المعلِّم أو الشيخ الصالح المربِّي مِن جملة نِعَم الله على عباده. ولقد أمَرك فقال ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَى﴾ لقمان مِن الآية،15 وهمْ أهل الإنابة، وعلَّمَك في صَلاتك خمساً أن تطلب منه الهداية إلى صراطِ قومٍ أَنعَم عليهم فلا يغضب عليهم ولا هم يضلون.. فارغب إليهم بعد العثور عليهم، واعلم أنهم عرائس الله في الأرض، ولا يرى العرائسَ المجرمون، فاحذر أن تكون بهذا الوصف المذموم..وإذا أردتَ المعونة على ذلك فالزم دعاء ربك كما قدَّمْنا وأَكثِرْ مِن الصلاة والتسليم على نبيه ألْفاً في كل يوم أو تزيد فببركتها تجد الولي المرشِد، فقد خاطَبه ربه قائلا ﴿وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِد﴾الكهف مِن الآية 17. ولقد عم نورهم وذاع صيتهم في أرجاء المعمورة، ولكنهم أتقياء أخفياء أنقياء، فحُجبوا أو احتجبوا، لأنهم سلعة الله، وسلعة الله غالية.وإني بفضل الله وجوده ورحمته وعطفه وحنانه عرفتُ منهم الكثير درراً متناثرةً في سائر بقاع الأرض، إلا أني أخص منهم شيخَنا الهمام الشريف الحسيب النسيب صاحب المنهل العذب، مَن أحيا سُنّة جده المصطفى وقتل بسيفه ابتداع النفس والدنيا والشيطان والهوى، فدخل الناس بفضل الله على يديه دينَ الله أفواج..ذلكم هو الإمام فخر الدين البرهاني رضي الله عنه وأرضاه، الذي جعَله الله نوراً مِن نور جده يهتدي به العرب والعجم لِدين الإسلام، وأخباره ذائعة الصيت مشهورة في سائر أنحاء المعمورة..والحمد لله أولاً وآخِراً وظاهراً وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليما، والحمد لله رب العالمين.وبعد.. فاعلم أيها الأخ الكريم بعد هذه الرحلة الشرعية الحقية الروحانية في رحاب مَن هم أهل الخاصية النجاتية اعلم أن مشايخ الطرق الصوفية المنتثرة في ربوع مصر المحروسة وسائر بلاد المعمورة هم في الحقيقة ممن انتسَبوا إلى أهل بيت رسول الله..ولا تلتفت لِمَن أَنكَرَ عليهم بغير بيِّنة صحيحة وحكم واضح جَلِي مِن شخص أقامه الله على مِثل هذا الأمر، وامتثِلْ قول الإمام البوصيري:

قدْ تنكِر العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ������ أوْ ينكِرُ الفمُ طَعْمَ الماءِ مِن سقَمِ

فليس كلُّ ما تراه مِن أي أحد تَحكُمُ به عليه، وإنما الأمر فحص وتمحيص وتحقيق وتدقيق وأمانة وعفة وورع وصيانة وحُسْن قصْدٍ بالديانة. فأيما شخص قَصَدْتَهُ فأنت على خير وهدى ونور إن شاء الله تعالى حتى وإن أشكلَت عليك المظاهر، وامتثِلْ في ذلك قصة العبد الصالح مع سيدنا موسى عليه السلام في سورة الكهف، وتأَمَّلْ قولَ سيدي فخر الدين:

وَكُلُّ شَيْخٍ عَلاَ لاَ بُدَّ مُتَّبـــِعٌ        وَمَنْ تَوَلَّى فَلاَ يُعْطَى أَمَانَتَنــَا

وقوله:

وَلَيْسَ فِينَا إِمَامٌ غَيْرُ مُعـْتـَمـَد       إِمَامُنَا الْمُصْطَفَى وَالصَّفْحُ شِيمَتُنَا

وإني والحمد لله قاصداً وجهَ الله بيَّنْتُ لك ذلك، حتى أُفسد بعون الله على الشيطان الرجيم خدعته وبغيته،فلا يصدنك عن الصراط المستقيم وصلى الله وسلَّم وبارَك على جدِّهم المبعوثِ رحمةً لِلعالَمين وأهلِ بيتِه الكرام الغُرِّ الميامين.

د. إبراهيم دسوقي بدور

الزهد فـي الدنيا يريح القلب والبدن

حقيقة الزهد هي التوكل حتى يكون ثقته بقسمة اللّه فإن ما في يده قد يكون رزق غيره ولا يفرح به ولا يطمئن ولا إلى ما يرجوه من يد غيره فيستريح قلبه من همها وغم ما يفوت منها وبدنه من كد الحرص وكثرة التعب في طلبها فلم يغتم قلبه على ما فات ولم ينصب بدنه فيما هو آت وإن جهل ذلك يعذب قلبه بتوقع ما لم يقسم منها ويحزن لذلك على كل فائت منها فتستخدمه الدنيا ويصير من عبيد الهوى بطالاً من خدمة المولى فيقسو قلبه ببطالته وأبعد القلوب من اللّه القلب القاسي،والرغبة فيها تكثر الهم والحزن والبطالة تقسي القلب، ومن ثمة ترك الصحب السعي في تخليصها بالكلية واشتغل أكثرهم بالعلوم والمعارف وبالتعبد حتى لم يبقوا من أوقاتهم شيئاً إلا وهم مشغولون بذلك ومن حصلها منهم إنما كان خازناً للّه وذلك لا ينافي زهده فيها لأنهم لم يمسكوها لأنفسهم بل للمستحقين وقت الحاجة بحسب ما يقتضيه الاجتهاد في رعاية الأصلح وقد سئل بعض الصوفية إذا كان حقيقة الزهد ترك شيء ليس له فالزاهد جاهل لأنه ما زهد إلا في عدم ولا وجود له فقال: صحيح لكن شرع الزهد ليخرج من حجاب المزاحمة على الدنيا فالمحجوب كلما لاح له شيء قال: هذا لي فيقبض عليه فلا يتركه إلا عجزاً وأما العارف فلا قيمة للزهد عنده لعلمه بأن ما قسم له لا يتصور تخلفه وما لا يقسم لا يمكنه أخذه فاستراح والدنيا لا تزن عندهم جناح بعوضة فلا يرون الزهد عندهم مقاماً، وعليه قيل:

تجرد عن مقــام الزهد قلبي        فأنت الحق وحدك في شهودي

أأزهد في سواك وليس شيء          أراه سواك يـا سر الوجود؟

ومنهم من احتقر كل ما في الدنيا مما لم يؤمر بتعظيمه فرآه لشدة حقارته عدماً ومنهم من تخلق بأخلاق اللّه ورأى الوجود كله من شعائر اللّه فلم يزهد في شيء بل استعمل كل شيء فيما خلق له وهو الكامل وإنما زهد الأنبياء في الدنيا حتى عرضها عليهم تشريعاً فإن بداية مقامهم تؤخذ من بعد نهاية الأولياء من زهد ومن لم يزهد فبالنظر لمقامهم لا يزهدون وبالنظر لأممهم يزهدون، وقيل لإبراهيم بن أدهم نراك من الزاهدين فأجابهم بقوله: في كم زهدت من جناح البعوضة وأنشدوا:

الزهد ترك وترك الترك معـلوم        بأنه مسك ما فـي الكف مقبوض

الـــزهد ليس في العلم مرتبة        وتركه عند أهل الجمع مفروض

أي لأنه ما ثم إلا تخلق بأخلاق اللّه وهو لم يزهد في الكون لأنه مدبره ولو تركه لاضمحل في لمحة فيقال للزاهد بمن تخلقت في زعمك ترك الدنيا؟ بل نفسك الخارج من جوفك من الدنيا، فاتركه تموت، وقد رؤي سيدنا سلمان الفارسي يحمل الكثير من الطعام والمؤنة إلى بيته وهو المشتهر عنه بالزهد وعدم الرغبة في العيش في إيوان كسري بالرغم من أنه كان تبعا لبيت المال في زمن إمارته على بلاد فارس، فسألوه عن حمله الطعام فقال قد حملته لنفسي كي تطمأن فلا تشغلني عن عبادتي، ويقول سيدي فخر الدين رضي الله عنه :

فكن يامريدي للكرام مقــلــدا           فليس أمان في جناح البعوضـة

فإن جنحت للسلم فاجنح لسلمهـا            وإن جمحت فالذكر عين الحماية

د. سحر علي