من أحوالهم

غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

قصة آية

من أحوالهم

يقول السيد إبراهيم الدسوقى رضى الله عنه ما كل من خدم يعرف آداب الخدمة ولذلك كثرت ردة المرتدين عن الطريق، وينصحنا في آداب الخدمة مع ساداتنا الأكرمين فيبين لنا بعض أحوالهم فيقول:

إذا لم يحسن أحدكم أن يتبع القوم في مجاهداتهم فلا يقع في أحوالهم، فإن الفقراء تارة يتكلمون بلسان التفريق وتارة بلسان التحقيق بحسب الحضرات التى يدخلونها، وأنت يا ولدى لم تذق حالهم، ولا تمزقت، ولا دخلت حضراتهم، فمن أين لك أن تقول أنهم على الضلال؟ أفتعوم ياولدى البحر وأنت لست بعوام، ثم إذا غرقت مت ميتة الجاهلية لأنك ألقيت نفسك في المهالك والحق قد حرم عليك ذلك، بل الواجب عليك يا ولدى أن تطلب دعاء القوم وتلتمس بركاتهم مالم تقدر على إتباعهم، فإذا اتبعتهم سعدت، ثم يتكلم سيدى إبراهيم عن أحوال الأولياء مع الخلق حتى لا يضلوا معهم فيقول:

سيدى إبراهيم الخواص لما رأى أهل بلده يعتقدونه سرق ثياب من الحمام لابن الملك وخرج يتبختر بها حتى أدركوه، فضُرب وأُخذت منه وسمى (لص الحمام) فقال (الآن طابت الإقامة في هذا البلد) وبديهى أنه لم يقصد السرقة لأنه عرض نفسه على صاحب الثياب حتى يستردها، ويبقى له ما أراد، وهذا من قبيل استعمال بعض المحرمات للضرورة كالتداوى بالنجاسة أو أكل ما لا يحل إذا خشى الإنسان الهلاك، وذلك بقدر ما ينجيه من الهلاك.

ومنهم من حجابه ظهوره بالسطوة والعزة، وسبب ذلك هو تجلى الحق عليه، فإذا تجلى عليه بصفة ظهر بها، فإذا غلبت عليه شهودا، غلبت عليه ظهورا، فلا يقدر على صحبته والثبات معه إلا من محا الله عنه نفسه وهواه.

ومنهم من حجابه التردد على الملوك والأكابر في حوائج العباد، فيقول قصير الإدراك لو كان هذا وليا ما تردد على أبناء الدني.

ثم يحذر من صنف أخر فيقول:إذا ضحك الفقير فاحذروه ولا تخالطوه إلا بأدب، فإنه ربما مزح كالناس لأنه يفعل ذلك تنفيرا لهم، لئلا يعتقد فيشتغل عن ربه، ويقول أحد الصالحين (إذا أجلسوك على البساط فاحذر الانبساط).

ثم ينصحنا سيدى ابراهيم في البعد عن حب الرياسة فيقول:

إياكم وأن تقنعوا بتقبيل أيديكم والرياسة على أقرانكم، فإن حب الرياسة إذا كان هو السائد المتحكم في العواطف تحول الإنسان إلى وحش مسعور يضحى بكل ما يملك في سبيل إشباع هذه العاطفة المتعطشة إلى إذلال الغير والتحكم في مصائرهم... إلى أن قال: وهذا الداء هو آخر العلل الذى يمكن أن تتخلص منها النفس وأصعبها علاجا وقل من يشفى منه.

ويقول الإمام مالك: إذا أردت السلامة فابتعد عن الإمامة.

ويقول الإمام الشافعى:

حب الرياسة للسلوك مناقض       فلا ترأسن أحد ولا تتقــدم

كما يقول السيد أحمد الرفاعى: يا بنى لا تكن رأسا فإن الرأس كثير الآفات وإن أول ضربة ما تقع، تقع على الرأس، وكن آخر شعرة في الذنب. وفى هذا كله يقول الإمام فخر الدين:

وخزائن الأسرار أعرف ما بها       ما ذاق منهـا من أحس بذات

وهذا كله من منطلق أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها:

(أمرنا هذا لا يصلح لمن يطلبه) وآخر (ما ذئبان ضاريان جائعان في زراب غنم غاب عنها رعاها بأشد فتكا على دين المرء من جامع لمال وحب لرياسة).

غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

عن سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن سعد بن أبى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله راضيا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا -وفى لفظ رسولا- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أمّن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وعن الإمام على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى سبحة الضحى ركعتين إيمانا واحتسابا غفرت له ذنوبه كلها ما تقدم منها وما تأخر إلا القصاص.

وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ إذا سلم الإمام يوم الجمعة قبل أن يثنى رجليه فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس سبعا سبعا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من قام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن ابن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام يوم عرفة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبتا له الجنة.

وعن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جاء حاجا يريد وجه الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ آخر سورة الحشر غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاد مكفوفا أربعين خطوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعى لأخيه المسلم في حاجة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وأخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى في مسنديهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبدين يلتقيان فيتصافحان ويصليان على النبى صلى الله عليه وآله وسلم إلا لم يتفرقا حتى يغفر لهما ما تقدم من ذنوبهما وما تأخر. وأخرج أبو داوود عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أكل طعام ثم قال الحمد لله الذى أطعمنى هذا الطعام ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا فقال الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

عبد الباسط محمد عبد السميع

قصة آية

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿عبس وتولى  vأن جاءه الأعمى v وما يدريك لعله يزكى﴾ صدق الله العظيم

عبد الله بن أم مكتوم هو تلميذ من تلاميذ مدرسة الأرقم بن أبى الأرقم بمكة المكرمة، استمع وعشق وصار مغرما بحديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان ابن أم مكتوم فاقدا للبصر واستعوض عن بصره بسمعه، فكان يحفظ ولا ينسى وتوصف له الأشياء فتبقى مجسمة فى ذهنه ومتخيلها فى وجدانه، وكان هذا الرجل دائما ما يبحث عن الرزق فى أرجاء مكة ودائما ما يبحث عن المعرفة والعلم حتى دخل بيت الأرقم بن أبى الأرقم واتبع المصطفى صلى الله عليه وسلم فى هذه الآونة، وكانت الدعوة فيها سرا وهو يعلم ما يفعله المشركين لمن اعتنق الإسلام من مهانة وعذاب وسرعان ما تطرق إلى سمعه كلمات القرآن الكريم بصوت أشرف الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم فخشع قلبه وأصابته السكينة والأمان وصار يردد ما يسمع بين الناس ويدعو إلى استماع المزيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت ابن أبى الأرقم، وكان يرتل القران بصوته الجميل ليل نهار وانتقل من مدرسة الأرقم بن أبى الأرقم إلى أخرى بيثرب حيث المدينة المنورة، واشترك ابن أم مكتوم مع المسلمين من الأنصار والمهاجرين فى بناء أول مسجد فى المدينة ولازم الرسول صلى الله عليه وسلم معظم أوقاته، فهو شغوف بحب العلم والمعرفة، محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صوته عذبا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالآذان للصلاة إذا ما غاب سيدنا بلال بن رباح رضى الله عنه، حتى جاء رمضان فصار ابن مكتوم صوته معلق بالأذن، وعن عبد لله بن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن بلالا ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) وكان ابن أم مكتوم دائم الجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى يوم قال له الرسول صلوات ربى وسلامه عليه: متى فقدت بصرك؟ قال: وأنا غلام، فقال: إن الله تبارك وتعالى قال إذا ما أخذت كريمة عبدى لم أجد له بها جزاء إلا الجنة. أورده ابن سعد فى الطبقات الكبرى، وعن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت: نزلت هذه الآيات فى ابن أم مكتوم قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول ارشدنى، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين، فجعل النبى يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: أترى بما أقول بأسا، فيقول لا، ففى ذلك نزلت. تُرى هل غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم مكتوم أو عاتبه أو حاسبه أو ابتعد عنه؟ لا، بل كان يداعبه ويسأل عنه فى كل مجلس. قال الثورى: كان النبى بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى ويقول: هل من حاجة. صدق الحق تبارك وتعالى عندما قال عنك ﴿لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ وكان ابن أم مكتوم يجاهد فى العبادات، صوام قوام، لا يراه أحد إلا فى عبادة أو متجها لأداء عبادة أو مشاركة المسلمين فى أمر يهمهم، قال رب العزة سبحانه ﴿لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة﴾ فتألم ابن أم مكتوم فهو يحب أن يشارك فى الجهاد فى سبيل الله وأين له هذا وهو أعمى لا يستطيع مشاركة الجيوش الإسلامية فى محاربة الكفار، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول يا رسول الله قد أنزل الله فى الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد فهل لى من رخصة عند الله إن قعدت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أمرت فى شأنك بشئ وما أدرى هل يكون لك ولأصحابك من رخصة؟ فقال ابن أم مكتوم: اللهم إنى أنشدك بصرى -أى أتوسل إلى الله أن يرجع إلى بصرى- فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدين فى سبيل الله﴾ ويروى عن الشعبى قوله: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة غزوة ما منها إلا يستخلف ابن أم مكتوم على المدينة وكان يصلى بهم وهو أعمى.

وفى يوم القادسية أراد أن يشارك جيش المسلمين واختار لنفسه موقعا مهما جدا فى الحرب فقد طلب عبد الله بن أم مكتوم من اخوانه أن يشركوه فى حرب القادسية فوافقوا وهم فى استفهام، وفى ميدان المعركة وقف ابن أم مكتوم ينادى بأعلى صوته ويقول: يا أحباب الله يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبطال المعارك ادفعوا بى إلى اللواء فأنا رجل أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيمونى بين الصفين.

رضى الله عنك يا ابن أم مكتوم لقد اخترت أن ترفع اللواء وأنت ضرير لا تستطيع الفرار فيستمر لواء الحرب مرفوعاً طوال الموقعة، وكم أنك رجلا مجاهدا لا تخشى ولا تخاف إلا من الخالق سبحانه وتعالى فمرحبا بك بين الشهداء ومرحبا بك بين رفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

محمد أنور شكرى