الــزهــد

بالحقائق ناطقين

إلى من نحب ونرضى

﴿أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾

 

الــزهــد

الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشئ أى تركه إلى ماهو خير منه، ويشترط أن يكون الشئ المتروك مرغوبا فيه بوجه من الوجوه، فمن رغب عما ليس مطلوبا فى نفسه لا يسمى زاهدا، فتارك الحجر والتراب لا يسمى زاهد إنما يسمى زاهدا من ترك الأموال من ذهب وفضة وغيرها، وترك الجاه وما شابه ذلك، وشرط المرغوب فيه أن يكون خيرا من المتروك، فالبائع لا يقدم على بيع شئ إلا إذا كان المشترى عنده خير من هذا الشئ المباع، فيكون حال البائع بالنسبة إلى المباع زاهدا فيه، وبالنسبة إلى العوض عنه رغبة فيه وحب.

ولذلك قال تعالى ﴿وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين﴾ وشروه هنا بمعنى باعوه ووصف إخوة سيدنا يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحب إليهم من سيدنا يوسف فباعوه طمعا فى العوض، ولا يسمى تارك المحظورات زاهدا ولكن يقال له تائب.

فالتوبة ترك المحظورات والزهد ترك المباحات، فمن عرف أن ماعند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى كما تكون الجواهر خير وأبقى من الثلج، فهكذا مثال الدنيا والآخرة فالدنيا كالثلج الموضوع فى الشمس لا يزال فى الذوبان إلى الإنقراض، والآخرة كالجوهر الذى لا فناء له، فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع حتى أن من قوى يقينه يبيع نفسه وماله كما قال تعالى ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة﴾ ثم وضح أن صفقتهم رابحة فقال تعالى ﴿فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم﴾ وقال صلى الله عليه وآله وسلم (إن أردت أن يحبك الله فازهد فى الدنيا) وروى عن سيدنا عمر رضى الله عنه أنه حين فُتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة رضى الله عنها: البس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود من الآفاق، ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر، فقال سيدنا عمر: يا حفصة ألست تعلمين أن أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته، فقالت: بلى، قال: ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبث فى النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا جاعوا عشية ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة، وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبث فى النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر هو وأهله حتى فتح الله عليه خيبر، وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قربتم إليه يوما طعاما على مائدة فيها ارتفاع فشق ذلك عليه حتى تغير لونه ثم أمر بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض، وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال: منعتمونى قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها باثنين كما كنتم تثنونها، وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة، وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعت له امرأة من بنى ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره قد عقد طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك.

فمازال رضى الله عنه يقول حتى أبكاها وبكى عمر وانتحب حتى ظننا أن نفسه ستخرج.

فالزهد يتفاوت بحسب تفاوت قوته، وسبب نقصان الزهد نقصان المعرفة، فهناك زهد الخائفين وهو أقل درجات الزهد لأن المرغوب فيه عندهم النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وغير ذلك من الأهوال، أما الدرجة الثانية هى زهد الراجين فهى الزهد رغبة فى ثواب الله ونعيمه وجناته.

وهؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا فى وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.

أما الدرجة الثالثة وهى العليا وهى زهد المحبين وهم العارفون فلا يكون لهم رغبة إلا فى الله وفى لقائه، وقد يخرج مافيه الزهد (المتروك) عن الحصر، وقد ذكر الله تعالى فى آية واحدة سبعة منها، فقال تعالى ﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الدنيا﴾ ثم رده فى آية أخرى إلى خمسة فقال عز وجل ﴿اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد﴾ ثم رده فى موضع أخر إلى اثنين فقال ﴿إنما الحياة الدنيا لعب ولهو﴾ ثم رد الكل إلى واحد فى موضع آخر فقال ﴿ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى﴾ فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس من الدنيا فينبغى الزهد فيه، فلا تفرح بموجود ولا تحزن على مفقود ولا تلتفت لذام لك أو مادح واجعل أنسك بالله تعالى.

ويقول سيدى فخر الدين رضى الله عنه:

ومن اكتسى حلل الرضا من ربه        فالزهد خز والقشيـــب رقاع

احمد نور الدين عباس

بالحقائق ناطقين

الدرر الخمس

قال سيدنا على كرم الله وجهه: أيها الناس احفظوا عنى خمسا، فلو شددتم إليها المطايا حتى تقضوها لم تظفروا بمثلها، ألا لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحيى أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل العالم عما لا يعلم قال لا أعلم، ألا وإن الخامسة الصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ومن لا صبر له لا إيمان له، ومن لا رأس له لا جسد له، ولا خير فى قراءة إلا بتدبر، ولا فى عبادة إلا بتفكر، ولا فى علم إلا بحلم، ألا أنبئكم بالعالم كل العالم من لم يزين للناس معاصى الله ولم يؤمنهم مكره ولم يؤيسهم من روحه.

هذه الدرر من باب مدينة العلم وهى عين الحقائق وزين الرقائق فالخوف باب الرجاء وهما صنوان فإذا عرف العبد ربه خافه خوف الإجلال وهذا يذكرنا بقول سيدى فخر الدين رضى الله عنه حينما قال: أنتم تخافون العقرب أكثر من خوفكم لله، فإن العبد أذنب فى مكان لا يأبه لجناب الله ولكن إذا علم أن هناك عقربا فى هذا المكان لا يستطيع أن يقرب الذنب فى ذات المكان، ولذا يجب على المسلم الحق أن لا يكتفى بالفرائض من العبادات ولكن يبحث عن شيخ يفتح له طريق النوافل وباب التقوى لكى يتعرف على ربه، فإذا فتح له باب المعرفة فتح معه باب الخوف من الله ألا وهى التقوى وكما قال الحق ﴿إتقوا الله ويعلمكم الله﴾ كما أوضح الإمام على فى وصاياه الدرية أنه لا حياء فى طلب العلم، فالحق أن تستحى من جهلك ليكون لك دافعا لطلب العلم الذى به يعرف الرب وينال به المأرب، كما أن الدعاة إلى الله عليهم بتوخى الحذر فى فتواهم لأنه إذا زل العالِم زل بزلته عَالم وكما قال الإمام مالك رضى الله عنه (العلم إما آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة أو لا أدرى).

هاديه الشلالى

إلى من نحب ونرضى

صدق الله العظيم حيث يقول فى سورة الأنبياء ﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين﴾ ويستقى الإمام فخر الدين رضى الله عنه من هذه الآية بيته:

وآتيت إبراهيم من قبل رشده��� فما هو إلا فلذتى وعطيتى

فإتيان الرشد قبل الرشد لا يعلم حقيقته إلا من يتم الرشد لأهل الرشد.. لأنه فلذة كبد وقطعة لحم نبتت فى جسد شريف وشذرة ذهب لمعت فى كنف عفيف وحبة قلب بزغت فى صدر منيف وعطية رب عالم علام لأهل العلم بالإنسان.. إنه الإبن البكر لأهل البكر، وصاحب فكر لأهل الذكر، فإتيان الرشد إن شئت قلت من الصغر وإن شئت قلت من البداية وإن شئت قلت من قبل أن يُخلق وإن شئت قلت من تمام الهداية وإن شئت قلت من تمام العطايا، فكلها مرائى جلية قد حنت إلى صاحب العطية لكى تنال من صاحب الأوانى طهارة وتزكية. وقد قالوا أن من عظمة إتيان الرشد (من قبل) أن يكون حجة للقوم أو عليهم، وقيل أيضا من الرشاد والهداية، بل يكون صاحبها ملهم بقول الحق من عند الحق لأنه أهل لذلك وليست منة أو منحة، لأنه حقا أهل لذلك، أما تنظر لآية صاحب الهداية فى كتاب صاحب العناية ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ فسواء كانت هذه الرسالة نبوية لأهل الرسل أم كانت رسالة ولاية لأهل المحبة والاصطفاء، أما ترى أن من كرم الكريم أنه أوحى إلى النحل فكيف لا يوالى أهل محبته من البشر السوى.

فرشده كان تتمة قد أكمل المولى أجزل العطايا، لأن العطايا اسم جامع للعطاء ومنه تكون العطية ومن هذه العطية عطاء لأهل محبته ولعل الله أن يصيبهم منها نصيب. ولم تكن هذه التتمة نقصان قد أتمه ولكن ليعلم أهل العلم أين هم، وقد تمت العطية والاصطفاء، وانظر من أين؟ من صافى العطايا، لماذا؟ لكى يجمع به الشمل وتعم به الرحمة ويحمل به الكَل ويمد به الهمم.

أيها الحبيب القريب..

مهما عظمت الكلمات وعذب الحديث وحنت القلوب وارتقت المعانى فليس ببالغين ما أنت فيه، لعجز اللسان عن التبيان ولكنها فصاحة لسان من قصير يد، غير أن بلوغ الكمال فيكم محال، لأنه ليس بعد المدح الإلهى مدح، حيث ذكركم الحق بقوله ﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ وليس بعد الثناء النبوى ثناء حيث قال الرحـمة المهداة صـلوات ربى وسلامه عليه (وأشواقى إلى أحـبابى) ولكننا نطمع من المولى العظـيم صاحب أجزل العطايا أن يجعلنا حشدا تحت رايته وبلا جفاء، بل بكل حب ومودة له ولمن يسعى بتبرئة الذمة فى نصح هذه الأمة.

محمد سيد

﴿أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾

عن السيدة عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى (من آذى لى وليا فقد استحل محاربتى وما تقرب إلىّ العبد بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه وما ترددت فى شئ أنا فاعله كترددى فى قبض روح عبدى المؤمن لأنه يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه).

قال الأستاذ للشيخ: للولى معنيان:

أحدهما: فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولى الله أمره، قال تعالى ﴿وهو من يتولى الصالحين﴾ فلا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحق سبحانه وتعالى رعايته.

والثانى: فعيل مبالغة من الفاعل وهو الذى يتولى عبادة الله تعالى وطاعته.

فعبادته تجرى على التوالى من غير أن يتخللها عصيان وكلا الوصفين واجب، حتى يكون الولى وليا يجب قيامه بحقوق الله تعالى على الاستقصاء والاصطفاء ودوام حفظ الله تعالى إياه فى السراء والضراء، ومن شروط الولى أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبى أن يكون معصوما، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخدوع.

اتجه سيدى أبو يزيد البسطامى إلى رجل يتصف بالولاية فلما وافى مسجده جلس ينتظر خروجه، فخرج الرجل وتنخم فى المسجد، فانصرف سيدى أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا الرجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة فكيف يكون أمينا على أسرار الحق.

واختلفوا فى أن الولى هل يجوز أن يعلم أنه ولى أم لا؟ فمنهم من قال لا يجوز ذلك، فالولى يلاحظ نفسه بعين التصغير وإن ظهر عليه شئ من الكرامات خاف أن يكون مكر وهو يستشعر الخوف دائما أبدا، وإنما يخاف سقوطه عما هو فيه وأن تكون عاقبته بخلاف حاله وهؤلاء يجعلون من شرط الولاية وفاق المآل.

ومنهم من قال يجوز أن يعلم الولى أنه ولى وليس من شرط تحقيق الولاية فى الحال الوفاء فى المآل.

ثم أن ذلك من شرطه أيضا فيجوز أن يكون هذا الولى قد خص بكرامة وهى تعريف الحق إياه أنه مأمون العاقبة إذ القول بجواز (كرمات الأولياء واجب).

قيل إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل أتحب أن تكون لله تعالى وليا؟ فقال: نعم، فقال لا ترغب فى شئ من الدنيا والآخرة وفرغ نفسك لله تعالى واقبل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك. قال يحيى بن معاذ فى صفة الأولياء: هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة واعتنقوا الروح بعد المجاهدة بوصولهم إلى مقام الولاية.

ويقول سيدى أبو يزيد البسطامى: أولياء الله تعالى عرائس الله تعالى ولا يرى العرائس إلا المحرمون فهم مخدّرون عنده فى حجاب الأنس، لا يراهم أحد فى الدني.

وقال أبو على الجوزجانى: الولى هو الفانى فى حاله، الباقى فى مشاهدة الحق، تولى الله تعالى سياسته فتوالت عليه أنوار التولى، لم يكن له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله تعالى قرار. قال الخراز: إذا أراد الله تعالى أن يوالى عبدا من عبيده فتح عليه باب ذكره، فإذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب، ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسى التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هوى، فإذا سار العبد زمنا فانيا فوقع فى حفظ الله وبرأ من دواعى نفسه.

أيمن العربى