رؤيا السيدة عاتكة بنت عبد المطلب�
رضي الله عنها
أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وموسى بن عقبة قالا''مكث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في
عير لقريش من الشام ومعها سبعون راكبا من بطون قريش كلها وفيهم مخرمة بن نوفل،
وعمرو بن العاص، وكانوا تجارا بالشام ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال: كانت عيرهم ألف
بعير ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن
عبد العزى، فلذلك كان تخلف عن بدر فلم يشهده، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وقد كانت الحرب بينهم قبل ذلك، وقتل ابن الحضرمي وأسر الرجلين عثمان
والحكم، فلما ذكرت عير أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عدي بن أبي الزغباء الأنصاري من بني غنم وأصله من جهينة وبسبس -
يعني ابن عمرو - إلى العير عينا له، فسارا حتى أتيا حيا من جهينة قريبا من ساحل
البحر، فسألوهم عن العير وعن تجار قريش، فأخبروهما بخبر القوم، فرجعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبراه فاستنفر المسلمين للعير وذلك في رمضان.
وقدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوف من رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه، فقال: أحسوا من محمد فأخبروه خبر الراكبين عدي بن أبي الزغباء
وبسبس، وأشاروا له إلى مناخهما فقال أبو سفيان: خذوا من بعر بعيرهما ففته فوجد فيه
النوى، فقال: هذه علائف أهل يثرب وهذه عيون محمد وأصحابه، فساروا سراعا خائفين
للطلب، وبعث أبو سفيان رجلا من بني غفار يقال له ضمضم بن عمرو إلى قريش أن انفروا
فاحموا عيركم من محمد وأصحابه فإنه قد استنفر أصحابه ليعرضوا لنا، وكانت
السيدةعاتكة بنت عبد المطلب ساكنة بمكة وهي عمة رسول الله، وكانت مع أخيها العباس
بن عبد المطلب، فرأت رؤيا قبل بدر وقبل قدوم ضمضم عليهم ففزعت منها، فأرسلت إلى
أخيها العباس بن عبد المطلب من ليلتها، فجاءها العباس فقالت: رأيت الليلة رؤيا قد
أشفقت منها وخشيت على قومك منها الهلكة. قال: وماذا رأيت؟ قالت: لن أحدثك حتى
تعاهدني أنك لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فلما عاهدها
العباس فقالت: رأيت راكبا أقبل من أعلى مكة على راحلته يصيح بأعلى صوته: يا آل غدر
اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فأقبل يصيح حتى دخل المسجد على راحلته، فصاح ثلاث صيحات
ومال عليه الرجال والنساء والصبيان، وفزع له الناس أشد الفزع قال: ثم أراه مثل على
ظهر الكعبة على راحلته، فصاح ثلاث صيحات فقال: يا آل غدر ويا آل فجر اخرجوا في
ليلتين أو ثلاث، ثم أراه مثل على ظهر أبي قبيس كذلك يقول: يا آل غدر ويا آل فجر حتى
أسمع من بين الأخشبين من أهل مكة، ثم عمد إلى صخرة فنزعها من أصلها، ثم أرسلها على
أهل مكة فأقبلت الصخرة لها حس شديد حتى إذا كانت عند أصل الجبل ارفضت، فلا أعلم
بمكة دارا ولا بيتا إلا وقد دخلتها فلقة من تلك الصخرة، فقد خشيت على قومك.
ففزع العباس من رؤياها، ثم خرج من عندها فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة
من آخر تلك الليلة - وكان الوليد خليلا للعباس - فقص عليه رؤيا عاتكة وأمره أن لا
يذكرها لأحد، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، وذكرها عتبة لأخيه شيبة، فارتفع الحديث
حتى بلغ أبا جهل بن هشام واستفاض في أهل مكة، فلما أصبحوا غدا العبـاس يطوف
بالبيت، فوجد في المسجد أبا جهل، وعتبة، وشيبة بن ربيعة، وأمية، وأبي بن خلف، وزمعة
بن الأسود، وأبا البختري، في نفر من قريش يتحدثون، فلـما نظروا إلى العباس
ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل إذا قضيت طوافـك فهـلم إلينا، فلما قضى
طوافـه جاء فجلس إليهم فقال له أبو جهل: ما رؤيـا رأتها عاتكة؟ ! فقال: ما
رأت من شيء. فقال أبو جهل: أما رضيتم يا بني هاشم كذب الرجال حتى جئتمونا بكذب
النساء، إنا وإياكم كفرسي رهان فاستبـقنا المجد منذ حين، فلما تحاكت الركب قلتم منا
نبي فما بقي إلا أن تقـولوا منا نبية، فأنا أعلم في قريش أهل بيت أكذب امرأة ولا
رجل منكم، وأذاه أشد الأذى وقال أبو جهل: زعمت عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في
ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثلاث تبيـنت قريش كذبكم وكتـبت سجـلا أنكـم أكذب
أهل بيت في العرب رجلا وامرأة، أما رضيتم يا بني قصي إن ذهبـتم بالحجـابة والندوة
والسقاية واللواء والوفادة حتى جئتمونا بنبي منكم؟ فقال العباس: هل أنت منته فإن
الكذب منك ومن أهل بيتك؟ فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا خرقا، ولقي
العباس من عاتكة فيما أفشى عليها من رؤياها أذى شديدا.
فلما كان مساء الليلة التي رأت عاتكة فيها الرؤيا، جاءهم الراكب الذي
بعث أبو سفيان، وهو ضمضم بن عمرو الغفاري فصاح وقال: يا آل غالب بن فهر انفروا فقد
خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان فاحرزوا عيركم، ففزعت قريش أشد الفزع
وأشفقوا من رؤيا عاتكة، وقال العباس: هذا زعمتم كذا وكذب عاتكة فنفروا على كل صعب
وذلول، وقال أبو جهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة، سيعلم أنمنع عيرنا أم
لا، فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقوا مائة فرس، ولم يتركوا كارها للخروج
يظنون أنه في قهر محمد وأصحابه، ولا مسلما يعلمون إسلامه، ولا أحدا من بني هاشم
إلا من لا يتهمون إلا أشخصوه معهم، فكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل
بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب في آخرين، فهنالك يقول طالب بن
أبي طالب:
إما يخرجــن طــالــب بمقنب من هذه المـقـانــب
في نفر مقاتل يــحـــارب وليكن المسلوب غيـر السالب
والراجع المغلوب غير الغالب
فساروا حتى نزلوا الجحفة، نزلوها عشاء يتزودون من الماء، ومنهم رجل من
بني عبد المطلب بن عبد مناف يقال له جهيم بن الصلت بن مخرمة، فوضع جهيم رأسه فأغفى
ثم فزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا؟ فقالوا: لا، إنك مجنون. فقال:
قد وقف علي فارس آنفا! فقال: قتل أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وزمعة، وأبو البختري،
وأمية بن خلف، فعد أشرافا من كفار قريش. فقال له أصحابه: إنما لعب بك الشيطان،
ورفع حديث جهيم إلى أبي جهل فقال: قد جئتم بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم سيرون
غدا من يقتل. ثم ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عير قريش جاءت من الشام وفيها
أبو سفيان بن حري، ومخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاصي، وجماعة من قريش، فخرج إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلك حين خرج إلى بدر على نقب بني دينار، ورجع حين
رجع من ثنية الوداع، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نفر ومعه ثلاثمائة
وسبعة عشر رجلا، وفي رواية ابن فليح: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وأبطأ عنه كثير من
أصحابه وتربصوا، وكانت أول وقعة أعز الله فيها الإسلام، فخرج في رمضان على رأس
ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة ومعه المسلمون لا يريدون إلا العير، فسلك على نقب
بني دينار والمسلمون غير معدين من الظهر، إنما خرجوا على النواضح يعتقب الرجل منهم
على البعير الواحد، وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومرثد
بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة فهم معه ليس معهم إلا بعير واحد، فساروا حتى إذا
كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب من قبل تهامة - والمسلمون يسيرون - فوافقه نفر من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أبي سفيان؟ فقال: لا علم لي به.
فلما يئسوا من خبره فقالوا له: سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. قال: أيكم هو؟ فأشاروا له إليه فقال الأعرابي: أنت
رسول الله كما تقول؟ قال: نعم. قال: إن كنت رسول الله كما تزعم فحدثني بما في بطن
ناقتي هذه؟ فغضب رجل من الأنصارمن بني عبد الأشهل يقال له سلمة بن سلامة بن وقش
فقال للأعرابي: وقعت على ناقتك فحملت منك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
قال سلمة حين سمعه أفحش، فأعرض عنه ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقاه
خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علينا في
أمرنا ومسيرنا؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله أنا أعلم الناس بمسافة الأرض، أخبرنا
عدي بن أبي الزغباء أن العير كانت بوادي كذا وكذا، فكانا وإياهم فرسخان إلى بدر. ثم
قال: أشيروا علي؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إنها قريش وعزها، والله ما ذلت
منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته وأعدد له عدته. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي؟ فقال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك
كما قال أصحاب موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (المائدة الآية
24) ولكن
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون. فقال رسول الله: أشيروا علي؟ فلما رأى سعد
بن معاذ كثرة استشارة النبي أصحابه، فيشيرون فيرجع إلى المشورة ظن سعد أنه يستنطق
الأنصار شفقا أن لا يستحوذوا معه على ما يريد من أمره، فقال سعد بن معاذ، لعلك يا
رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك ولا يرونها حقا عليهم إلا بأن
يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: يا رسول
الله فاظعن حيث شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ثم أعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب
إلينا مما تركت، وما ائتمرت من أمر فأمرنا بأمرك فيه تبع، فوالله لو سرت حتى تبلغ
البركة من ذي يمن لسرنا معك. فلما قال ذلك سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
سيروا على اسم الله، فإني قد رأيت مصارع القوم فعمد لبدر.
وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وكتب إلى قريش حين خالف مسير رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورأى أن قد أحرز ما معه، وأمرهم أن يرجعوا فإنما أخرجتم
لتحرزوا ركبكم فقد أحرز لكم فلقيهم هذا الخبر بالجحفة. فقال أبو جهل: والله لا
نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم فيها ونطعم من حضرنا من العرب، فإنه لن يرانا أحد
فيقاتلن. فكره ذلك الأخنس بن شريق فأحب أن يرجعوا وأشار عليهم بالرجعة، فأبوا وعصوا
وأخذتهم حمية الجاهلية، فلما يئس الأخنس من رجوع قريش أكب على بني زهرة فأطاعوه
فرجعوا فلم يشهد أحد منهم بدرا، واغتبطوا برأي الأخنس وتبركوا به فلم يزل فيهم
مطاعا حتى مات، وأرادت بنو هاشم الرجوع فيمن رجع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: والله
لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل أدنى شيء من بدر، ثم بعث
علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وبسبسا الأنصاري، في عصابة من أصحابه فقال
لهم: اندفعوا إلى هذه الظراب وهي في ناحية بدر، فإني أرجو أن تجدوا الخبر عند
القليب الذي يعلى الظراب، فانطلقوا متوشحي السيوف، فوجدوا وارد قريش عند القليب
الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا غلامين أحدهما لبني الحجاج بن
الأسود، والآخر لأبي العاصي يقال له أسلم، وأفلت أصحابهما قبل قريش فأقبلوا بهما
حتى أتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معرشة دون الماء، فجعلوا يسألون
العبدين عن أبي سفيان وأصحابه لا يرون إلا أنهم لهم، فطفقا يحدثانهم عن قريش ومن
خرج منهم وعن رؤوسهم فيكذبونهما وهم أكره شيء للذي يخبرانه، وكانوا يطمعون بأبي
سفيان وأصحابه ويكرهون قريشا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي يسمع
ويرى الذي يصنعون بالعبدين، فجعل العبدان إذا أذلقوهما بالضرب يقولان نعم هذا أبو
سفيان (والركب) كما قال الله تعالى (أسفل منكم) قال الله (إذ أنتم بالعدوة الدنيا
وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي
الله أمرا كان مفعولا) (الأنفال الآية
42) قال فطفقوا إذا قال العبد إن هذه قريش قد
جاءتكم كذبوهما، وإذا قالا هذا أبو سفيان تركوهم.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعهم بهما سلم من صلاته وقال:
ماذا أخبراكم؟ قالوا: أخبرانا أن قريشا قد جاءت. قال: فإنهما قد صدقا، والله إنكم
لتضربونهما إذا صدقا وتتركونهما إذا كذبا، خرجت قريش لتحرز ركبها وخافوكم عليهم،
ثم دعا رسول الله العبدين فسألهما؟ فأخبراه بقريش وقالا: لا علم لنا بأبي سفيان. فسألهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم كم القوم؟ قالا: لا ندري، والله هم كثير. فزعموا أن
رسول الله قال: من أطعمهم أمس؟ فسميا رجلا من القوم. قال: كم نحر لهم؟ قالا: عشر
جزائر. قال: فمن أطعمهم أول أمس؟ فسميا رجلا آخر من القوم. قال: كم نحر لهم؟ قالا:
تسع. فزعموا أن رسول الله قال: القوم ما بين التسعمائة والألف يعتبر ذلك بتسع جزائر
ينحرونها يوما وعشر ينحرونها يوما.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشيروا علي في المسير؟ فقام
الحباب بن المنذر أحد بني سلمة فقال: يا رسول الله أنا عالم بها وبقلبها، إن رأيت
أن تسير إلى قليب منها قد عرفتها كثيرة الماء عذبة، فتنزل إليها ونسبق القوم إليها
ونغور ما سواها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا فإن الله قد وعدكم إحدى
الطائفتين أنها لكم، فوقع في قلوب ناس كثير الخوف وكان فيهم من تخاذل من تخويف
الشيطان، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون مسابقين إلى الماء، وسار
المشركون سراعا يريدون الماء، فأنزل الله عليهم في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على
المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين ديمة خفيفة لبد لهم المسير
والمنزل، وكانت بطحاء فسبق المسلمون إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل، فاقتحم القوم
في القليب فما حوها حتى كثر ماؤها، وصنعوا حوضا عظيما ثم غوروا ما سواه من المياه،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه مصارعهم إن شاء الله بالغداة.
وصدقت رؤيا السيدة عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم فما من بيت من
بيوت قريش إلا وقد فقد أحد أبناءه أو آباءه.
لجنة التراث
|