الكوثر المورود
فحوضى مورود ونحرى فدية وشانئى المبتور يوم القيامـة
ما أجمل هذا النظم وما أجمل معانيه
نحن أمام البيت الرابع والسبعين من تائية الإمام فخر الدين رضى الله عنه والذى
يتألف من إثنين وأربعين حرفا عدد حروف سورة الكوثر كما ورد بالمصحف الشريف الذى
جعله سيدنا عثمان بن عفان لأهل المدينة والمصحف الذى اختص به نفسه والمصحف الذى بعث
به إلى البصرة والمصحف الذى بعث به إلى الكوفة والمصحف الذى بعث به إلى الشام وأيضا
المصحف الذى بعث به إلى مكة المكرمة، وبهذا يشير الإمام فخر الدين إلى أسرار من
معانى هذه السورة الكريمة فقد نسب الخطاب الموجه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
إلى شخصه رضوان الله عليه وهذا ليس بغريب إلا على من لا يعرف، فقد أورد صاحب تفسير
القرآن المجيد سيدى ابن عجيبة المنتقل سنة إحدى وستين ومائة وألف هجرية حيث قال فى
الإشارة: يقال لخليفة الرسول، الذى تخلق بخُلقه وكان على قدمه ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾
لأن من ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله
(ماذا فقدَ من وجدك).
وقد أورد الإمام الجليل النخجوانى فى تفسيره الفواتح الإلهية
والمفاتح الغيبية فى معنى ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ حيث قال هو التوحيد الذاتى المعبر
عنه بالحوض الكوثر الذى هو عبارة عن كثرة الخير والبركة وما تيسر هذا الشأن وما
اتفق حصوله بحقيقته لجماهير الأنبياء والرسل إلا للحضرة الختمية المحمدية صلوات
الله عليه وسلامه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وأى خبر أعلى من أن يكون الإنسان
موحداً حقيقياً قائماً بحقوق ربه عليه فيسخر الله له كل من فى الكون ويكون له سمعا
وبصرا ويداً ولا شك أن أمتنا الإسلامية لا تخلوا طرفة عين من رجل صالح يسير خلف
رسولنا الكريم حذو النعل بالنعل لينعم من ينعم من هذه الأمة بالسير خلفه والاقتداء
به فيقال لهذا الصالح من قبل رب العزة (إنا أعطيناك الكوثر) لتعلم الناس أمور دينهم
حتى يصلوا إلى توحيد الله الحقيقى جل وعل.
لذا نجد سيدى فخر الدين رضى الله عنه يقول زفحوضى مورودس بنسب
الحوض له ولا عجب فى هذا فقد نسب المولى تبارك وتعالى الصراط بأنه صراط الذين
أنعمت عليهم لذلك يقول شيخنا رضى الله عنه
فإن صراطى مستقيم وتابعــى على أثرى يسعى إذ الناس ضلت
ثم يقول زونحرى فديةس أى أننى
عندما أنحر نفس المريد من الأمارة بالسوء وغيرها عن طريق الإرشاد وغيره حتى يتمكن
من قتل الأنفس عن طريق الجهاد الأكبر كما ورد فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفس) أو كما قال صلى
الله عليه وسلم فهذا النحر فدية للمرء من عذاب الله عز وجل.
ثم يقول بعد ذلك زوشانئى المبتور
يوم القيامةس أى مبغضى لأن من أبغض رسولنا الكريم فبالضرورة قد أبغض خليفته والسائر
خلفه وعلى نهجه لذلك فهو أبتر لا عقب له ذِكْرُه مقطوع وأما الرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم وخلفائه فذكرهم دائم لا ينقطع إلى يوم القيامة ونسلهم باق ما بقيت
الحياة.
فإن موت أهل التقى حياة لا فناء
بعدها كما صرح لنا المولى فى كتابه الكريم ﴿ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات
بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ وذلك أن الموت حضرهم وهم يجاهدون أنفسهم فى طريق القرب
الإلهى (أى فى سبيل الله) نفعنا الله بهم وجمعنا معهم على طريق الحياة الخالدة
وجزاك عنا أطيب الجزاء يا سيدى فخر الدين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
محمد مقبول
ولي نظم
در
فى مدح الرسول الأكرم
�صلى الله عليه وسلم
واصـل سالك مقـيـم مـجـد مبتـغ نـائـل حـلـيـم ودود
كلنـا عـاجـز ومـا أنـت إلا غايـة المنتهى وعبد يـسـود
أول آخـر ولـكـن بـبــدء أنت للأولـيـات ظـل وعـود
عودا على بدء.. تدور الأبيات حول
وصف لهؤلاء القوم وكذلك بيان مكانته صلى الله عليه وسلم التى عجز هؤلاء عن الوصول
إليه.
والمقتفى لمواطن الجمال بالبيت
الأول يجد حسن التقسيم في كلماته وما يتبع ذلك من تناغم في الوزن والموسيقى، كما أن
ألفاظ البيت تعتبر تفصيلا لما أجمل بالبيت السابق (قوم).
وفى البيت الثانى نجد لفظة (كلنا)
تؤكد عجز الجميع من أن يصلوا إلى مكانته، وبالبيت تذكير برحلة المعراج والوصول إلى
سدرة المنتهى.
أما قوله رضى الله عنه (وما أنت
إلا غاية المنتهى) أسلوب توكيد عن طريق القصر فهو وحده صلى الله عليه وسلم المختص
بتلك المنزلة.
والتعبير بالضمير (أنت) يعبر عن
مشاهدة الإمام فخر الدين رضى الله عنه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك
المرتبة بل ومخاطبته إياه.
ومن البديع: المطابقة بـ (عبد
يسود) لتأكيد المعنى وإقراره.
وفى البيت الثالث نجد الإيجاز بحذف المبتدأ والإبقاء على الخبر في (أول
آخر) فالتقدير.. أنت أول أنت آخر، ما يؤكد تأصل تلك الحقيقة لدى الإمام فخر الدين
رضى الله عنه، وهذا ما يوضحه ذكر الضمير في أول الشطر الثانى (أنت) والمطابقة بين
(أول وآخر) مما يفيد الشمول، كما قالوا: (فكل ما في كل شئ منك يا جد الحسين).
كما نجد الاطناب بالبيت نفسه عن
طريق الجملة الاعتراضية (ولكن ببدء) فهى احتراس وتنبيه حتى لا ينسحب الكلام إلى ذات
المولى تبارك وتعالى حيث أنه تعالى الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية.
كما نجد تقديم الجار والمجرور
(للأوليات) على الخبر (ظل) للاختصاص.
ومن المصاحبات اللغوية: الجمع بين
(أول) و(آخر) وكذلك بين (ظل) و(عود) وما يتبع ذلك من تصوير بيانى حيث التشبيه
البليغ في (أنت للأوليات ظل وعود).
سيد عبد اللطيف
الـرزق
رفع إلى هارون الرشيد أن بدمشق
رجلا من بنى أمية عظيم المال والجاه، كثير الخيل والجند، وقد يخشى على مملكة الرشيد
منه، وكان الرشيد يومئذ بالكوفة.
قال خادم الرشيد واسمه منارة:
فاستدعانى الرشيد وقال: اركب الساعة إلى دمشق وخذ معك مئة غلام وائتنى بفلان
الأموى، وهذا كتابى إلى العامل لا توصله له إلا إذا امتنع عليك، فإذا أجاب فقيده
وعادله بعد أن تحصى جميع ما تراه وما يتكلم به، واذكر لى حاله ومآله، وقد أجلتك
لذهابك ستا ولمجيئك ستا ولإقامتك يوما، أفهمت؟ قلت: نعم، قال: فسر على بركة الله.
فخرجت أطوى المنازل ليلا ونهارا لا
أنزل إلا للصلاة أو لقضاء حاجة حتى وصلت ليلة السابع باب دمشق، فلما فتح الباب دخلت
قاصدا نحو دار الأموى، فإذا هى دار عظيمة هائلة، ونعمة طائلة، وخدم وحشم، وهيبة
ظاهرة، وحشمة وافرة، ومصاطب متسعة وغلمان فيها جلوس، فهجمت على الدار بغير إذن،
فبهتوا وسألوا عنى، فقيل لهم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فلما صرت في وسط الدار
رأيت أقواما محتشمين، فظننت أن المطلوب فيهم، فسألت عنه، فقيل لى: هو في الحمام،
فأكرمونى وأجلسونى، وأمروا بمن معى ومن صحبنى إلى مكان آخر، وأنا أتفقد الدار
وأتأمل الأحوال، حتى أقبل الرجل من الحمام ومعه جماعة كثيرة من كهول وشبان وحفدة
وغلمان، فسلم على وسألنى عن أمير المؤمنين، فأخبرته أنه بعافية، فحمد الله تعالى،
ثم أحضرت له أطباق الفاكهة فقال: تقدم يا منارة كل معنا، فتأملت تأملا كثيرا إذ لم
يمكننى، فقلت: ما آكل، فلم يعاودنى، ورأيت ما لم أره إلا في دار الخلافة، ثم قدم
الطعام، فو الله ما رأيت أحسن ترتيبا، ولا أعطر رائحة، ولا أكثر آنية منه، فقال:
تقدم يا منارة، فكل، قلت: ليس لى به حاجة، فلم يعاودنى، ونظرت إلى أصحابى فلم أجد
أحدا منهم عندى، فحرت لكثرة حفدته، وعدم من عندى، فلما غسل يديه أحضر له البخور
فتبخر، ثم قام فصلى الظهر، فأتم الركوع والسجود، وأكثر من الركوع بعدهما، فلما فرغ
استقبلنى وقال: ما أقدمك يا منارة؟ فناولته كتاب أمير المؤمنين، فقبله ووضعه على
رأسه، ثم فضه وقرأه، فلما فرغ من قراءته استدعى جميع بنيه وخواص أصحابه وغلمانه
وسائر عياله، فضاقت الدار بهم على سعتها، فطار عقلى، وما شككت أنه يريد القبض على،
فأوصاهم، ثم استقبلنى وقدم رجليه، وقال: هات يا منارة قيودك، فدعوت الحداد فقيده
وحمل حتى وضع في المحمل وركبت معه في المحمل، وسرنا، فلما صرنا في ظاهر دمشق ابتدأ
يحدثنى بانبساط ويقول: هذه الضيعة لى تعمل في كل سنة بكذا وكذا، وهذا البستان لى
وفيه من غرائب الأشجار وطيب الثمار كذا وكذا، وهذه المزارع يحصل لى منها كل سنة كذا
وكذا.
فقلت: يا هذا ألست تعلم أن أمير
المؤمنين أهمه أمرك حتى أنفذنى خلفك وهو بالكوفة ينتظرك، وأنت ذاهب إليه ما تدرى ما
تقدم عليه، وقد أخرجتك من منزلك ومن بين أهلك ونعمتك وحيدا فريدا، وأنت تحدثنى
حديثا غير مفيد ولا نافع لك ولا سألتك عنه وكان شغلك بنفسك أولى بك.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون،
لقد أخطأت فراستى فيك يا منارة مما ظننت أنك عند الخليفة بهذه المكانة إلا لوفور
عقلك، فإذا أنت جاهل عامى لا تصلح لمخاطبة الخلفاء.
أما خروجى على ما ذكرت فإنى على
ثقة من ربى الذى بيده ناصيتى وناصية أمير المؤمنين، فهو لا يضر ولا ينفع إلا بمشيئة
الله تعالى، فإن كان قد قضى على بأمر فلا حيلة لى بدفعه ولا قدرة لى على منعه، وإن
لم يكن قد قدرعلى بشئ فلو اجتمع أمير المؤمنين وسائر من على وجه الأرض على أن
يضرونى لم يستطيعوا ذلك إلا بإذن الله تعالى، وما لى ذنب فأخاف، وإنما هذا واش وشى
عند أمير المؤمنين ببهتان، وأمير المؤمنين كامل العقل، فإذا اطلع على براءتى فهو لا
يستحل مضرتى، وعلى عهد الله لا كلمتك بعدها إلا جوابا، ثم أعرض عنى وأقبل على
التلاوة وما زال كذلك حتى وافينا الكوفة بكرة اليوم الثالث عشر، وإذا النجب قد
استقبلتنا من عند أمير المؤمنين تكشف عن أخبارنا، فلما دخلت على الرشيد قبلت الأرض،
فقال: هات يا منارة أخبرنى من يوم خروجك عنى إلى يوم قدومك على، فابتدأت أحدثه
بأمورى كلها مفصلة والغضب يظهر في وجهه، فلما انتهيت إلى جمعه لأولاده وغلمانه،
وخواصه وضيق الدار بهم، وتفقدى لأصحابى، فلم أجد منهم أحدا أسود وجهه، فلما ذكرت
يمينه عليهم تلك الإيمان المغلظة تهلل وجهه، فلما قلت إنه قدم رجليه أسفر وجهه
واستبشر، فلما أخبرته بحديثى معه في ضياعه وبساتينه وما قلت له وما قاله لى، فقال
أمير المؤمنين: هذا رجل محسود على نعمته ومكذوب عليه، وقد أزعجناه وأرعبناه وشوشنا
عليه وعلى أولاده وأهله، اخرج إليه وانزع قيوده وأدخله على مكرما، ففعلت، فلما دخل
قبل الأرض، فرحب به أمير المؤمنين وأجلسه، واعتذر إليه، فتكلم بكلام صحيح، فقال له
أمير المؤمنين: سل حوائجك.
فقال الرجل: سرعة رجوعى إلى بلدى
وجمع شملى بأهلى وولدى.
فقال أمير المؤمنين: هذا كائن، فسل غيره؟
فقال الرجل: عدل أمير المؤمنين في
عماله ما أحوجنى إلى سؤال، فخلع عليه أمير المؤمنين، ثم قال: يا منارة اركب الساعة
معه حتى ترده إلى المكان الذى أخذته منه، قم في حفظ الله وودائعه ورعايته ولا تقطع
أخبارك عنا وحوائجك، فانظر حسن توكله على خالقه، فإنه من توكل عليه كفاه ومن دعاه
لباه، ومن سأله أعطاه ما تمناه.
حكم
يحكى أن بعض النحويين دخل مجلس
الحسن بن سمعون ليسمع كلامه فوجده يلحن فانصرف ذاما له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب له:
إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، اعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك،
وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم، فانقطعت عن المقصود، هلا لا رفعت إلى الله
جميع الحاجات وخفضت المنكرات وجزمت على الشهوات ونصبت بين عينيك الممات؟ والله يا
أخى ما يقال للعبد لمَ لم تكن معربا وإنما يقال له لم كنت مذنبا، ليس المراد فصاحة
المقال وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل فى فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون
أولى بالرسالة من سيدنا موسى حيث يقول ﴿وأخى هارون هو أفصح منى لسان﴾ وقد يتكلم
الإنسان بحكم وحقائق، مع فصاحة وبلاغة وشقاشق، لكنها مكسوفة الأنوار مكموسة
الأسرار، ليس منها حلاوة، ولا عليها طلاوة، سبب ذلك عدم الإذن فيها، إذ لو أذن له
فى التعبير لظهر عليها كسوة التنوير، وينبغى لأهل التعبير أن يخاطبوا الناس بقدر ما
يفهمون، فليس التعبير لأهل البداية كأهل النهاية وفى الحديث
(خاطبوا الناس بقدر
عقلوهم).
من كتاب إيقاظ الهمم
أحمد نور الدين عباس
|