التصـوف بـين الحـداثـة والـقِــدم
الحمدُ
للهِ الذي بنعمتِهِ تتمُّ الصالحات، وصلى اللهُ على سيدِنا محمدٍ
عبدِ الذاتِ ورسول الأسماء والصفات، ورضيَ اللهُ تعالى عنْ مشايخِنا
وشفعائِنا في الحياةِ وبعدَ المماتِ لقد نَبَّهَ سيدي فخرُ الدينِ
أنَّ التصوفَ بلفظِهِ لمْ يكنْ في زمنِ النبيِّ أمّا ماهيتُهُ
ومضمونُهُ ومَدارُهُ واستمدادُهُ وهيئتُهُ فليسَ إلاَّ الدينُ
الكاملُ الذي جاءَ بهِ الرسولُ الأعظمُ وإلاَّ لَما سارَ على نهجِهِ
أئمةٌ عِظامٌ يُشارُ إليهمْ بالبَنانِ ولا يخلو منهمْ جَنانٌ حتى
أنَّكَ أيُّها المقبِلُ على اللهِ إذا استقصَيْتَ أسماءَ علماءِ
الشريعةِ الغرّاءِ الذينَ اعتمدَتْهمُ الأُمَّةُ واتَّفَقَتْ على
عدالتِهمْ وقبولِهمْ فلا تكادُ ترى واحداً منهمْ إلاَّ وقدْ تصوَّفَ
وسارَ على طريقِ الصوفية، وسيأتي إنْ شاءَ اللهُ بيانُ ذلكَ.. ولقدْ
قرَّرَ شيخُنا عندَما سُئِلَ عنِ الصوفيةِ فقال: هُمْ أَهْلُ
اللَّهِ. فسَمِّهِمْ ما شئتَ بعدَ ذلكَ فالمهمُّ أنَّ هذا حالُهمْ
ومآلُهمْ. فإنْ قالَ قائل: ومِنْ أينَ جاءَ لفظُ التصوفِ؟ وما
اشتقاقُهُ؟
فالجواب:
إنَّكَ أولاً افترضْتَ جدلاً ومِنْ غيرِ قصدٍ منكَ أنَّ العلومَ التي
انتهيْتَ إليها وبمُسمّياتِها معلومةٌ كذلكَ في زمانِ النبيِّ
وصحابتِه، والأمرُ ليسَ كذلك؛ ففي زمنِ النبيِّ كانَ العلمُ إجمالاً
وهوَ مِنْ معاني لفظِ (القرآن) أمّا تفصيلاتُ العلومِ وأسماؤُها فقدِ
استحدَثَها الناسُ كلٌّ في زمانِهِ وفي مكانِهِ.. ولا عجبَ في ذلك؛
ففي زمنِ الصحابةِ لمْ يعرفِ الناسُ علومَ النحوِ والبلاغةِ والبيانِ
والبديعِ والصرفِ والنقدِ والفلكِ والكيمياءِ والكومبيوتر بلْ وعلومَ
الفقهِ وأصولَه، وإنَّما دَعَتْ أحوالُ الناسِ إلى ظهورِ هذهِ
الأسماءِ على أيدي علماءَ حفظَ اللهُ بهمْ كتابَهُ الجامعَ لِكلِّ
علومِ الدنيا والآخرة، وما لفظُ التصوفِ إلاّ اسمٌ لِعلمٍ نشأَ
عندَما دعَتِ الحاجةُ إلى تخصيصِهِ باسمِهِ ورسمِهِ..
وفي ذلكَ
يقولُ سيدي أحمدُ زروقٌ : قدْ حُدَّ التصوفُ ورُسِمَ وفُسِّرَ بوجوهٍ
تبلغُ الألفَيْنِ ترجعُ كلُّها لِصدقِ التوجهِ إلى اللهِ تعالى.
تنازَعَ
الـناسُ في الصـوفيِّ واختلَفــوا وظَنَّهُ الـبـعـضُ مشـقّاً
مِنَ الصـوفِ
ولسْـتُ
أمنـحُ هـذا الاســمَ غيرَ فتىً صـافى فصُـوفِيَ حـتى سُمِّيَ
الصـوفي
فهوَ
إذاً مشتقٌّ مِنَ الصفاء، ولا عجبَ في ذلكَ فقدْ وردَ عنْ رسولِ
اللهِ : (آلُ مُحَمَّدٍ آلُ الصَّفَا وَالْوَفَا) ومَنْ يكونُ
الصوفيةُ إلاَّ آلُ محمدٍ ؟. فإنْ قالَ قائل: هلْ مِنْ حديثِ رسولِ
اللهِ ما يدلُّ على ظهورِ مثلِ ذلكَ بعدَهُ مِنْ بابِ الإنباءِ
بالغيبِ ؟ فالجواب: إنْ شاءَ الله؛ إنَّ الآياتِ القرآنيةَ
والأحاديثَ النبويةَ هيَ بكلِّيتِها ما يراهُ ويذهبُ إليهِ أهلُ
اللهِ أوِ الصوفية، فالدينُ دينٌ تحتَ أيِّ اسمٍ أوْ صفةٍ حيثُ لا
يتعارضُ الاسمُ معَ نصٍّ أوْ عُرْفٍ أوْ خُلُق، ولكّنا إذا شئْتَ
تحديدَ نصوصٍ دالةٍ على مضمون علمِ التصوفِ فنُذَكِّرُ ـ وباللهِ
التوفيقُ ـ بما رواهُ مسلمٌ عنْ سيدِنا عمرَ لَمّا دخلَ عليهمْ
سيدُنا جبريلُ في صورةِ صحابيٍّ بحضرةِ رسولِ اللهِ فسألَهُ عنِ
الإسلامِ وعنِ الإيمانِ ثمَّ قالَ له: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَان.
قال
..(أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاه، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك) ثمَّ قالَ النبيُّ لِسيدِنا عمر
(أَتَدْرِي مَنِ السَّائِل) فقال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم. قال
(فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)، وهكذا
الصوفيةُ لا يقفونَ عندَ حدِّ الثلثِ الأول ـ وهوَ الإسلامُ ـ أوِ
الثلثِ الثاني ـ وهوَ الإيمانُ ـ بلْ غايتُهمْ مقامُ الإحسانِ
والثابتُ أنَّهُ لا يصحُّ بلا إسلامٍ وإيمانٍ
وهاكَ ما
رواهُ الديلميُّ في مسندِ الفردوسِ عنْ أبي هريرة مِنْ قولِهِ (إِنَّ
مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ
أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ
إِلاَّ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللَّه) وهذا ما اشتهرَ في الواقعِ مِنْ
أحوالِ الصوفيةِ وعلومِهمْ
وهاكَ
قولُهُ لِسيدِنا عمرَ (كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ
فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي فَعُمَرُ مِنْهُم) والتحديثُ هوَ ما
عَرَّفَهُ الصوفيةُ بالإلهامِ أوِ التنويرِ أوِ الكشفِ
وهاكَ
قولُهُ لِسيدِنا حارثةَ بنِ مالكٍ الأنصاريّ (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا
حَارِثَة) قال: أَصْبَحْتُ مُؤْمِناً حَقّا. فقالَ (لِكُلِّ حَقٍّ
حَقِيقَة، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِك) فقال: عَزَفْتُ نَفْسِي عَنِ
الدُّنْيَا فَاسْتَوَى عِنْدِي ذَهَبُهَا وَمَدَرُهَا، وَكَأَنِّي
أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ
وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ يُعَذَّبُون، وَكَأَنِّي أَرَى
عَرْشَ رَبِّي بَارِزا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَسْهَرْتُ لَيْلِي
وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي. فقالَ لهُ الرسولُ (يَا حَارِثَةُ..عَرَفْتَ
فَالْزَم) ثمَّ قال (عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ
الإِيمَان) رواهُ البيهقيُّ والبزارُ وابنُ المباركِ وذكرَهُ سيدي
ابنُ عجيبةَ في (إيقاظِ الهمم) بشرحٍ عجيبٍ
وهذهِ هي
أحوالُ الصوفية، وبالجملةِ فإنَّ جميعَ أقوالِهمْ وأفعالِهمْ
وأحوالِهمْ إنَّما هيَ مِنْ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِ اللهِ ، وما
الخلافُ أوِ الشبهةُ مِنْ غيرِهمْ إلاَّ لِجهلٍ عارضٍ أوْ أصيلٍ كما
سيأتي بيانُهُ مِنْ كلامِ الشيخِ تاجِ الدينِ السبكيِّ في كتابِه
معيدِ النعمِ ومبيدِ النقم. مسألة: هلْ هناكَ مِنَ العلماءِ الأفذاذِ
المشاهيرِ مَنْ سلكَ طريقَ الصوفيةِ الأخيارِ؟ والجواب: إنَّ مشكلةَ
عصرِنا تكمنُ في المستوى الذي وصلَ إليهِ الناسُ بلْ وطلاّبُ العلمِ
في هذهِ المسألة، فمجملُ الناسِ يَرَوْنَ أنَّ أكابرَ العلماءِ مِنَ
السلفِ الصالحِ لا يمكنُ أنْ يكونوا مِنَ الصوفيةِ وهذا دليلٌ على
الجهلِ بتراجمِهمْ أصلاً فضلاً عنِ الجهلِ بمذهبِ الصوفية، ويكفي
لِلإجابةِ على هذا السؤالِ وببساطةٍ شديدةٍ أنْ تذكرَ مجموعةً مِنَ
السلفِ الصالحِ الذينَ اعتمدَتْهمْ جموعُ المسلمينَ فكانوا أئمتَهمْ
ثمَّ تبحثَ في سِيَرِهِمْ فهمْ ولا شكَّ مِمَّنْ سلكَ طريقَ الصوفيةِ
أجمعينَ أوْ مِمَّنْ أَقَرُّوا لِلصوفيةِ بالفضلِ والمعرفةِ
والولايةِ.. وإلاَّ فما ظنُّكَ بأئمةِ المذاهبِ الأربعةِ أبي حنيفةَ
ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ! وما ظنُّكَ بسلطانِ العلماءِ سيدي عزِّ
الدينِ بنِ عبدِ السلامِ وبمحتسِبِ العلماءِ والأولياءِ سيدي أحمدَ
زروقٍ وسيدي كمالِ الدينِ الْقِسْطَلاّنِيِّ المالكيِّ وسيدي أبي
عبدِ اللهِ الشاطبيِّ صاحبِ الشاطبيةِ في القراءاتِ وسيدي قطبِ
الدينِ القسطلانيِّ وسيدي عبدِ اللهِ بنِ أبي جمرةَ صاحبِ بهجةِ
النفوسِ في شرحِ مختصرِ البخاريِّ وسيدي ابنِ دقيقِ العيدِ الذي كانَ
أُمَّةً في مصطلحِ الحديثِ وغيرِهِ والإمامِ النوويِّ صاحبِ شرحِ
صحيحِ مسلمٍ والأذكارِ ورياضِ الصالحينَ وغيرِها والإمامِ الحسنِ
البصريِّ أحدِ أعلامِ التابعينَ والإمامِ الجنيدِ إمامِ الطائفةِ
الذي كانَ عَلَماً مِنْ أعلامِ الشريعةِ والحقيقةِ وسيدي أبي
البركاتِ الدرديرِ صاحبِ شروحِ فقهِ المالكيةِ وسيدي جلالِ الدينِ
السيوطيِّ صاحبِ المؤلفاتِ العجيبةِ والإمامِ الصاويِّ الخلوتيِّ
المالكيِّ والإمامِ ابنِ حجرٍ العسقلانيِّ وابنِ حجرٍ الهيثميِّ
المكيِّ والإمامِ الشعرانيِّ الذي كانَ عَلَماً مِنْ أعلامِ الأزهرِ
الشريفِ وما قولُكَ في المعاصرينَ مِنْ أمثالِ الدكتورِ عبدِ
الحليمِ محمود والشيخِ الجليلِ محمدِ متولي الشعراويِّ ومَنْ سبقَهمْ
مِنْ أمثالِ الشيخِ مخلوفٍ الكبيرِ صاحبِ الكتابِ البديع شجرةِ
النورِ الزكيةِ في طبقاتِ المالكية؟ والحشدُ الهائلُ مِنَ العلماءِ
والأولياءِ المشاهيرِ المعتمَدين لا يستطيعُ القولُ أنْ يَفِيَ
عددَهمْ ومَددَهم، وسنذكرُ بعضَ أقوالِ بعضِهمْ وذلكَ لِلتدليلِ على
ما ذكرْناهُ آنفاً مِنَ اضمحلالِ مستوى الثقافةِ الدينيةِ عندَ مَنْ
ينتسبونَ لِلدينِ أنفسِهمْ.. وهاكَ واحدٌ مِنْ أئمةِ علمِ مصطلحِ
الحديثِ صاحبُ المقدمةِ العالِمُ الجليلُ الذي تتلمذَ على كتبِهِ
كلُّ مَنْ أرادَ هذا العلمَ وهوَ العلمُ الذي يُدقِّقُ في الحديثِ
روايةً ورجالاً ومتناً وإسناداً ـ وهوَ كما قالَ عنهُ سيدي عزُّ
الدينِ بنُ عبدِ السلامِ إمامُ الشافعيةِ والمحدِّثينَ في عصرِهِ
الإمامُ الحافظُ الشيخُ تقيُّ الدينِ بنُ الصلاحِ قالَ عنْ خرقةِ
الصوفية: لُبْسُ الخرقةِ مِنَ الْقُرَب، وقدِ استخرجَ لها بعضُ
المشايخِ أصلاً مِنْ سُنَّةِ النبيِّ وهوَ حديثُ أمِّ خالدٍ بنتِ
خالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللهِ أتى بكسوةٍ فيها
خميصةٌ فقال (مَنْ تَرَوْنَ أَحَقَّ بِهَذِه) فسكتَ القومُ فقال
ا(ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِد) فأُتِيَ بها فأَلْبَسَها إيّاها ثمَّ قال
(أَبْلِي وَأَخْلِقِي) مرتَيْنِ.. (أخرجَهُ البخاري).. وقالَ
أيضا:
ولي في لبسِ الخرقةِ إسنادٌ عالٍ جيد. وهوَ مِنْ مصطلحاتِ الحديثِ
الشريفِ ثمَّ ذكرَ الإسنادَ بطولِهِ إلى سيدِي الحسنِ البصريِّ الذي
أَخَذَها مِنْ سيدِنا عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وجهَهُ وهوَ أَخَذَها مِنَ
النبيِّ .
ولقدْ
حكمَ الحافظُ ضياءُ الدينِ المقدسيُّ بصحةِ سماعِ سيدِنا الحسنِ
البصريِّ مِنْ سيدِنا عليٍّ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ لِتصريحِهِ بنفسِهِ
بهِ حيثُ قال: سمعْتُ عليّاً يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (مَثَلُ
أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ
آخِرُه) والحديثُ رجالُهُ ثقات
الإمامُ
الشافعي قالَ: (صحبْتُ الصوفيةَ فلمْ أَسْتَفِدْ منهمْ سوى حرفَيْنِ
وفي رواية: سوى ثلاثَ كلماتٍ قولَهم: الوقتُ سيفٌ إنْ لمْ
تَقْطَعْهُ قَطَعَك، وقولَهم: نفسُكَ إنْ لمْ تشغلْها بالحقِّ
شَغَلَتْكَ بالباطل، وقولَهم: العدمُ عصمةٌ...) انظرْ رعاكَ اللهُ
إلى قولِ الإمامِ الشافعيِّ (صحبْتُ الصوفية)
ةَ)
الشيخُ
تاجُ الدينِ السبكي مِنْ أقوالِهِ: (الصوفيةُ حَيّاهمُ اللهُ
وبَيّاهمُ وجَمَعَنا في الجنةِ نحنُ وإيّاهم، وقدْ تشعبَتِ الأقوالُ
فيهمْ تَشَعُّباً ناشئاً عنِ الجهلِ بحقيقتِهمْ لِكثرةِ المبتلينَ
بها)بها)
الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل، حكى ابنُ أيمنَ في رسالتِهِ عنِ الإمامِ
أحمدَ: (أنَّهُ كانَ في أولِ أمرِهِ ينهى ولدَهُ عنْ مجالسةِ
الصوفيةِ حتى نَزَلَ عليهِ جماعةٌ منهمْ في الليلِ مِنَ الهواءِ
فسألوهُ عنْ مسائلَ في الشريعةِ حتى أَعْجَزُوهُ ثمَّ صعدوا في
الهواء؛ فمِنْ ذلكَ الوقتِ كانَ يقولُ لِولدِه عليْكَ بمجالَسةِ
الصوفيةِ فإنَّهمْ أَدْرَكُوا مِنْ خشيةِ اللهِ وأسرارِ الشريعةِ ما
لمْ نُدْرِكْه
ُ)ما)
الإمامُ
الغزالي: قالَ في سيرتِهِ الذاتيةِ في كتابِ المنقِذِ مِنَ الضلال:
ثمَّ إنِّي لَمّا فرغْتُ مِنْ هذهِ العلومِ أَقْبَلْتُ بِهِمَّتِي
على طريقِ الصوفية، وعلمْتُ أنَّ طريقتَهمْ إنَّما تَتِمُّ بعلمٍ
وعمل؛ وكانَ حاصلُ عملِهمْ قَطْعَ عقباتِ النفوسِ والتنزهَ عنْ
أخلاقِها المذمومةِ وصفاتِها الخبيثةِ حتى يتوصلَ بها إلى تخليةِ
القلبِ عنْ غيرِ اللهِ وتحليتِهِ بذكرِ اللهِ
سلطانُ
العلماءِ عزُّ الدينِ بنُ عبدِ السلام:كانَ يقول: كلُّ الناسِ
قَعَدُوا على رسومِ الشريعةِ (أيْ صورِها) وقَعَدَ الصوفيةُ على
قواعدِها التي لا تتزلزل؛ ويؤيِّدُ ذلكَ ما يقعُ على أيديهمْ مِنَ
الكراماتِ والخوارق، ولا يقعُ ذلكَ على يدِ عالِمٍ ولوْ بلغَ في
العلمِ ما بلغَ إلاَّ إنْ سلكَ طريقَهمْ
الإمامُ
مالك:كانَ يقول: مَنْ تَصَوَّفَ ولمْ يَتَفَقَّهْ فقدْ تَزَنْدَق،
ومَنْ تَفَقَّهَ ولمْ يتصوفْ فقدْ تَفَسَّق، ومن جمع بينهما فقد
تحقق. وهو قول مروي بالأسانيد الصحيحة المتواترة عن الامام مالك.
وللحديث
بقية
لجنة
التأليف والترجمة
شــراب الوصـــــل
ومــا
أينـــعت إلا لأني تربة أنا السـاق والساقي لها و هي زهرتي
إن لله
عباداً اختصَّهم بأن جعلهم موضع سرِّه ومحلَّ كرامته ويشبِّه الشيخ
رضي الله عنه هاهنا الوليَّ المرشد بالتربة الصالحة والأرض الطيِّبة
تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (مثل ما بعثني به الله
تعالى من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة
قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير).. وهذا هو مثل العالم الذي
ينتفع بهدي النبي صلى الله عليه وسلَّم وبعلمه وينفع الناس. وقد
شبَّه المولى عزَّ وجلَّ المؤمن بالبلد الطيب فقال في محكم التنزيل
{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} قال الآلوسي رضي الله عنه: البلد
الطيب مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين.
وفيه
أيضاً إشارة إلى كونه منسوبا إلى البيت النبويِّ الشريف بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلَّم وشجرته خير الشجر وعِترته خير العِتر..
وقد جعل المولى عزَّ وجلَّ الشيخ موضعاً للعلم الإلهي وداعياً إلى
سبيل ربِّه بإذنه، لطيب تربته وقد قال رضي الله عنه:
أنا
بيمـــين الله أطـوار خلقــتي من الحمـأ المسنـون حـتى النهاية
وقد شبَّه
المولى عزَّ وجلَّ أيضاً المؤمنين بالزرع في قوله {ذلك مثلهم في
التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على
سوقه يعجب الزرَّاع}،وإذا أعجب الزرَّاع كان أولى أن يعجب غيرهم لأن
الزرَّاع أصحاب معرفة ودرايةٍ بعيوب الزرع.
والشيخ
رضي الله عنه هو ساق هذه الشجرة وعمودها الذي ترتكز عليه والشجرة هي
الطريقة، وساق الشجرة هو الأصل الذي منه تتفرَّع الأغصان ثمَّ ذكر
رضي الله عنه أنه ساقي هذه الشجـرة والفــلاح الذي يتعهَّدها، ولا
بدَّ للفلاح المـاهر أن يكـون ذا معرفة بأنــواع المياه التي تصلح
للسقيا كما قال: سقيتُ مريدي من شرابٍ معتَّق وأن يكون ذا معرفة
بمقادير المياه الازمة للرِّي،
فزيادة
المياه ضارة للشجرة كما أنَّ نقصانها كذلك ضارٌّ كما دعا صلى الله
عليه وسلَّم في الاستسقاء نافعاً غير ضار وهذا كناية عن الأوراد فلا
بدَّ للمريد من الشيخ المرشد. وعلى الفلاح أيضاً أن يقتلع من حول
الشجرة الأعشاب الضارَّة التي تنمو حولها، وهي الأخلاق الذميمة مثل
الكِبر والحسد والطمع وحبَّ الشهوات،
وأن يزرع
حولها عشب الأخلاق الحميدة مثل السخاء والزهد وسلامة الصدر والصفح عن
المسيء،
مثل شجرة
الصــندل التي يمكن أن تنمـو ويشتدَّ عودها ولكن لا تكــون لها تلك
الرائحـة الزكيَّة إلا إذا زُرع حولها نوعٌ من العشب الخاص هو الذي
يكسبها هذه الرائحة الزكية وهذا كناية عن الإرشاد. أما الزهرة فهي
تعرف بطيب رائحتها وحسن منظرها ولولا شذاها ما اهتدى الناس لطيبها
الذي هو روائح العرفان وعواطر العـلوم الإلـهية وقد قال سيدي ابن
الفــارض رضي الله عنه:
ولولا
شذاها ما اهتديـت لحانهــا ولولا سـناها ما تصورها
الوهــم
د.
عبدالله محمد أحمد |