فـي حديث الذكريات:
ســيد
أحمد قرافـي يــروي حــكاية بدايتــه فـي الطريقــة
الاسم:
سيد احمد محمد أحمد واللقب قَرَافـي
متى
دخلت الطريقة البرهانية؟
دخلت الطريقة البرهانية في حلفا القديمة
1945م على يد الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني.
كيف
كان دخولك للطريقة؟
دخلت
الطريقة في حلفا القديمة وكان عمري أربعة عشر عاماً في عام
1945 وكانت قصة دخولي أنني كنت أغنى في زفَّة عرس
أغنية تسمى (أسمر اللون) من الأغاني الشائعة والمحبوبة في السودان
وكنت محمولاً وأنا أغني لصغر سني. ومرَّت الزفَّة بجانب بيت أحد
أعمامي وكانوا يقيمون في تلك الليلة حولية لمولانا الحسين رضي الله
عنه والحولية عند الصوفية هي احتفال سنوي يقام لإحياء ذكرى آل البيت
أو المشايخ الكبار وكانت هناك مجموعة من الطرق الصوفية، وعندما مرَّت
الزفة بجانب حلقة الذكر الخاصة بالبرهانية وكان الشيخ محمد عثمان
عبده رضي الله عنه يجلس في صدر الحلقة وكان ينشد قصيدة الشيخ
النابلسي رضي الله عنه:
هبَّـت
سحــراً فيــــنا أنفــاسٌ رُبي نـجــدِ
والمُهْجَــةُ قــد ذابــت بالشــوقِ وبالوجـــدِ
ولما
رآني الشيخ وأنا أغنِّي أمر أحد أتباعه واسمه متولي وكان به شيْ من
الدروشة والجذب وقال له: إذهب وأحضر ذلك الولد فجاء الرجل يركض وقال
للناس الذين يحملونني: شيخ محمد عايزه، أنزلوه وظل يكررها وهو يجذبني
من جلبابي حتى رضخوا له في آخر الأمر وأنزلوني ـ وللناس في السودان
احترام خاص للصوفية وأتباعهم وكان من الممكن أن يرفضوا ـ فنزلت وسرتُ
معه فذهب إلى الشيخ وكان يجلس في صدر الحلقة وهو ينشد القصيدة وقال
له: يا شيخ محمد؛ هذا هو الولد فأشار إليَّ الشيخ بيده، فدنوت منه
فأخذ بيدي وأجلسني بجانبه في حلقة الذكر ولمَّا وقف الناس للذكر
أوقفني بجانبه، وظللت إلى جانبه طيلة الذكر، وعند الفراغ من الذكر
سألني وكنا لا نعرف بعضنا من أنت؟ قلت له سيد احمد (وسيد احمد في
السودان اسم واحد مُركًّب). فسألني عن اسم أبي فقلت له: محمد أحمد
قرافي . فقال هو من أقربائي ثمَّ قال:
لابد أن تأتيني غدا في منزلي . قلت:وأين
منزلك قال: بجوار مسجد المجراب ويلاحظ أن الشيخ محمد عثمان عبده كان
قلبه معلقاً بالمساجد وكثيراً ما كان يختار مكان سكنه بجوار المسجد،
ورجعت إلى البيت وقضيتُ بقيَّة الليلِ كلِّه ساهراً أسأل نفسي ما
الذي يريده مني هذا الرجل؟ ورغم خوفي وترددي توجهت في الصباح إلى
منزل الشيخ كان هناك شيءٌ ما يشدَّني للذهاب إليه. ووقفت عند الباب
وطرقته، فسمعت صوته يأذن لي بالدخول وكان قد جعل بيته قسمين: قسم
للرجال وقسم للنساء0ففتحت الباب ودخلت فابتسم لما رآني وقال: أراك قد
حضرت ولما دنوت منه أمرني بالجلوس على الأرض وهو جالس على السرير
فجلست وصار هو يقرأ فوق رأسي كأنما يَرْقِيني (يقرأ رُقية) ثم قال
لي: يا سيد احمد أعطيتك الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية. فاذهب
وأخبر أباك بهذا. وكان أبي من أتباع
الطريقة الختمية. ثم أعطاني بعض المال وقال: إذهب إلى الدكان واحضر
نوتة أو كراسة فذهبت فأحضرتها فكتب لي فيها جميع الأوراد وطريقة
أدائها بقلم البوص والدواة وما زالت هذه النوتة معي،ثم أهدى لي مسبحة
جميلة. (كوك) أخذت المسبحة وذهبت إلى البيت فلما رآني أبي أحمل
المسبحة أعجبته وقال لي: من أين أتيت بهذه المسبحة الجميلة؟ فأخبرته
بأني أخذت الطريقة البرهانية من الشيخ محمد عثمان عبده فسرَّ ولم
يعترض وقال: أخذتها من أدَنْدَوي؟ وأثنى عليه وكان هذا الاسم قد لازم
الشيخ منذ الصغر .وكان سببه أنه كان يخرج
كلَّ يوم في المساء إلى الغابة أو الصحراء المحيطة بمنطقتهم وكانت
مليئة بالوحوش والثَّعابين والهوام،وكان يعود إلى البيت في الصباح
التالي بعد شروق الشمس. والناس ذاهبون إلى
المزارع وكانت جدته تناديه أدَنْدَوي عندما تراه داخلا وهذه اللفظة
بلهجة الحلفاويين معناها (الضبع العجوز) وللتسمية سبب فقد كانت
الضباع والذئاب تأتي من الغابة والجبل ليلاً لتشرب الماء فتشرب حتى
ترتوي ثم تعود قبيل الفجر إلى مساكنها في الغابة أو الجبل أما الضبع
العجوز فلا يستطيع السير لكثرة ما شرب من الماء فيرقد إلى طلوع الفجر
ثم يسير ببطء فيراه الناس بعد شروق الشمس في الطريق فيضحكون ويقولون
(أدَنْدَوي) أي ضبع عجوز فكان هذا سببَ التسمية لأنَّه يعود إلى
البيت مع الصباح كما يفعل الضبع العجوز. وكان يفعل هذا على سبيل
السياحة. وكان الناس يعجبون عندما يرونه عائداً كلَّ صباح من الغابة
لم يمسسه سوء، وبعد أن أخبرت أبي بأني قد أخذت الطريقة البرهانية
. قال لي: إنَّ طريقة السيد إبراهيم
الدسوقي ليست بهذه السهولة فعليك أن تسلك الطريق القويم وتحرص على
الأوراد وعليك بالطاعة وإلا كنت من الهالكين.
أنت من
المنشدين المعروفين في الطريقة البرهانية ومن الذين يحفظون الروايات
التي كان الشيخ ينشد فيها القصائد.
كيف كانت
بدايتك مع الإنشاد؟
عندما
انتظمت في الطريقة البرهانية كان الشيخ معجبا جدا بصوتي فبدأ بتلقيني
قصائد الصوفية من أشعار الشيخ النابلسي والشيخ ابن الفارض والشيخ
المجذوب الكبير والشيخ قريب الله وغيرهم من أصحاب الأحوال العالية ثم
بدأ يلقنني طريقة الإنشاد حتى برعت فيها وصرت من المنشدين الذين
يعتمد عليهم في إحياء ليالي الذكر والحضرات وكان الشيخ أحيانا يبعث
ني بدلا عنه للإنشاد في الحضرات،(ما زال الشيخ سيد أحمد قرافي بفضل
الله تعالى ينشد في الحضرات في الخرطوم وفي غيرها متَّعه الله بالصحة
والعافية).
طبعاً
الطريقة البرهانية كانت طريقة جديدة ولم تكن معروفة.
هل كانت
هناك صعوبات تقابلكم أو أي نقد يوجه إليكم؟
من
الحوادث الطريفة التي مرَّت بي أنَّ بعض النسوة في الحي كنَّ غير
راضيات عن سلوكي الطريقة البرهانية وانقطاعي للشيخ ولزومي له فمررت
بجماعة منهن ذات يوم فشتمتني واحدة وقذفتني بحفنة من التراب (وهذا
كناية عن كونه شخصا فاشلا لا خير فيه) فغضبت غضباً شديداً ودخلت على
الشيخ وأنا متغبِّرُ الوجه، فسألني عما بي، فأخبرته فقال لي معاتبا
(يا سيد احمد هل يمكن لنقيق الضفادع أن يوقف السفن في البحار)
فاطمأنت نفسي ونزل عليَّ قوله برداً وسلاماً، ولم أعد منذ ذلك اليوم
أتأثر بما يقوله الناس.
وكان
الشيخ يتولاَّنا بالرِّعاية في كل أمورنا الدينية والدنيوية فإذا كان
المريد مريضا تولاه الشيخ بالرعاية والعلاج حتى يشفى وإذا كان فقيراً
حرص على أن يجد له عملا أو ينفق عليه حتى يجد عملا. وإذا غاب تفقده
حتى يعلم سبب غيابه.
ما هي
المصادر المالية التي كان الشيخ يعتمد عليها في الإنفاق على أسرته
وعلى الطريقة؟
كانت
الطريقة فقيرة في ذلك الوقت وكان للشيخ مخبز ينفق منه على نفسه
وأولاده وعلى المريدين
كيف كان
الشيخ في علاقاته الاجتماعية خارج نطاق الطريقة؟
كان الشيخ
يشارك في كل المناسبات الاجتماعية من أعراس وأفراح وأتراح لا يتخلف
عن دعوةٍ قط وكان وصولاً لرحمه.
كيف كان
الشيخ في عاداته؛ من منام وطعام وكيف كان يقرأ أوراده؟
هناك شيء
عجيب شهدته في الشيخ وهو أنِّي لم أره نائما قط طيلة الفترة التي
صحبته فيها وكنا ننام ونستيقظ في النهار أو الليل فنجده جالسا على
كرسيه أو على السرير أو قائماً يصلِّي ولم يكن ممن يضيعون الوقت وكان
وقته كلُّه للعمل أو العبادة. ولم أره
يأكل وحده قط. وكانت عنايته بنا مثل عنايته بأولاده شديد العطف علينا
شديد الرأفة بنا.
كان الشيخ
مشهوراً بمداواة الجنون والأمراض المستعصية.
هل تذكر
حادثة معينة كنت شاهدا فيها؟
رأيت
كثيراً من الحوادث الغريبة وأنا في صحبته لو أردتُ أن أسردها كلها
لأفنيت كتبا كثيرة وأقلاما ولكنني سأختصر على واحدة منها.
جاء جماعة
ومعهم شاب موثق ودخلوا به إلى الشيخ وقالوا هذا أبننا وقد أصابه مس
من الجن قال أطلقوه ولا تخافوا ففكوا وثاقه فوقف مكانه ولم يتحرك
فأمرني أن أحضر كوز ماء من الزير (جرة المياه وكان أهل السودان وما
زالوا يحفظون ما الشرب في الجرار) فملأت الكوز وأحضرته له فقرأ فيه
ثم قال لي: أُدن من الشاب ومدَّ واطلب أن يشرب فإذا التفت إليك
فرُشِّ الماء على وجهه فخفت خوفا شديدا وقلت للشيخ: إنه ربما يؤذيني
فابتسم الشيخ وطمأنني فذهبت وفعلت مثلما أمرني الشيخ ولما رششت الماء
على وجهه صدر منه صوت يدل على الفزع ثم رقد على الأرض ونام وقام
الشيخ بواجب الضيافة نحو أهله. جلس يحادثهم إلى أن استيقظ الشاب وجعل
ينظر إلى نفسه وإلى ما حوله في عجب، ثم نظر إلى أمه وقال لها: أين
نحن وما هذا المكان وما هذه الملابس التي عليّ، وبدا عليه أنه ثاب
إليه عقله. وشكروا الشيخ وانصرفوا وهم
سعداء وقد نال ابنهم الشفاء.ومثل هذه الأمثلة كثيرة جداً ويضيق
المجال عن ذكرها في هذا المقام
رضي الله
عن شيخنا محمد عثمان عبده البرهانى وأرضاه.
وللحديث
بقية
هادية
الشلالي
|