بـالـحـقـائـق
نـاطـقـيـن
سعة المغفرة
إن كثيرا من الوعاظ اليوم يشددون على الناس فـي أمور دينهم ويقنطونهم
من رحمة الله تعالى، فإذا رأوا رجلا يشرب الخمر لعنوه فزادوه بعدا من
الدين وليس لهم دراية بالموعظة الحسنة التي تعتمد على الكلمة الطيبة
التي تفعل فعل السحر فـي القلوب، ومنهج ساداتنا الصوفية فيما رأيناه
من مولانا الشيخ محمدعثمان عبده والشيخ إبراهيم يعتمد على الرفق
بالعباد مسيئهم ومحسنهم فلم يطردوا أحدا من بابهم لأنه ارتكب ذنباً
أو اقترف فاحشة، بل دعوا له الله مُخلصين ليعافيه. ونحن نسوق هاهنا
قصتين فيهما عظة وعبرة تبيِّنان سعة فضل الله تعالى وعظم مغفرته
قيل كان هناك رجل كثير الشرب للخمر، فجمع ذات يوم قوماً من ندمائه،
ودفع إلى غلامه أربعة دراهم، وكان الغلام صالحاً يستنكر منه ذلك،
فأمره أن يشتري فواكه للمجلس، فمرَّ الغلام بباب منصور بن عمار
الزاهد، فوجده يسأل الناس لرجلٍ فقير عنده، ويقول: من دفع له أربعة
دراهم دعوت له أربع دعوات، قال فدفع الغلام الدراهم للفقير، لأنّه
ظنَّ بأن سيِّده يرضى بذلك، أو لأنَّه رأى أنَّ هذا أولى مما أمره به
سيِّده، وهان عليه مشقَّة الضرب والألم، وظنَّ منصور الزاهد أنه صاحب
الدراهم فقال له: بم أدعو لك؟ فقال: أن يخلِّصني الله من هذا الرجل،
فدعا له، وقال: ما الأخرى؟ قال: أن يخلف الله علي دراهمي، فدعا له،
ثمَّ قال: وما الأخرى؟ قال: أن يتوب الله على سيِّدي،فدعا، ثمَّ قال:
وما الأخرى؟ فقال: أن يغفر الله لي ولك ولسيِّدي وللقوم. فدعا منصور،
ثمَّ رجع الغلام إلى سيّده فقال له: لم تأخَّرت؟ فقصَّ عليه القصص،
فقال: وبم دعا؟ قال سألت لنفسي العتق، قال: أنت حرٌّ لوجه الله،
والثاني؟ قال: أن يخلف الله عليَّ الدراهم، فقال: لك أربعة آلاف
درهم، والثالث؟ قال: أن يتوب الله عليك، قال: تبت لوجه الله تعالي.
والرابع؟ قال:أن يغفر الله لي ولك وللقو م، قال: ليس ذاك إلي، فنام
فرأى فـي المنام كأنَّ قائلا يقول له: أنت فعلت ما كان عليك، تراني
لا أفعل ما إليَّ ! قد غفرت لك ولمنصور بن عمّار وللقوم الحاضرين.
والقصة الثانية قال بعض المريدين: كنا قعوداً مع معروف الكرخي على شطِّ
دجلة إذ مرَّ بنا قومٌ شبان فـي زورق، يضربون بالدف ويغنون ويشربون
الخمر،، فقلنا لمنصور: أما تراهم كيف يعصون الله تعالى مجاهرين، إدع
الله عليهم، فرفع يديه ودعا فقال: اللهمَّ فرِّحهم فـي الآخرة كما
فرَّحتهم فـي الدنيا، قلنا له: إنما سألناك أن تدعو عليهم،، قال: إذا
فرَّحهم فـي الآخرة تاب عليهم، وإذا تابوا زال عنكم ما تكرهونه فيحصل
مطلوبكم من الدعاء عليهم.
وقيل للسيِّدة رابعة العدوية: من تاب تاب الله عليه، قالت: لا، ولكن من
تاب الله عليه
هادية محمد الشلالي
درب السـالكـين
كثيرا ما يخطر ببال الإنسان أن يترك ما فـي هذه الدنيا من أسباب، بل قد
يخطر بباله أن ينقطع عن الخلق بالكلية وعن كلِّ ما يشغله عن طاعة
الله تعالى، ولكن لا بدَّ لصاحب هذا الخاطر من صدق التوجه والإخلاص
فـي ذلك، بينما نجد صنفاً من الناس مشتغلا بالأسباب ومخالطا للناس قد
أقامه الله تعالى فـي ذلك، ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها، فمن أقامه الله
تعالى متجرِّدا مع انقطاع العلائق والاشتغال بطاعته فينبغي ألا ينظر
إلى الأسباب ولا يلتفت إليها بقلبه، ومن أقامه الله تعالى فـي
الأسباب ينبغي ألا يتجرَّد إلا إذا علم من نفسه الإخلاص والصدق، يقول
الشيخ ابن عطاء الله السكندري:(إرادتك للتجريد مع إقامة الله تعالى
إياك فـي الأسباب من الشهوة الخفيَّة، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله
إياك فـي التجريد انحطاط فـي الهمة العلية)، وللشيخ ابن عطاء الله
تجربة فـي هذا إذ يحكي عن نفسه ويقول:(دخلت على الشيخ أبي العباس
المرسي وفـي نفسي العزم على التجريد (يعني اعتزال الناس) قائلا فـي
نفسي: إنَّ الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة التي أنا عليها
بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر ووجود المخالطة للناس. فقال الشيخ
أبو العباس من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بهذه العلوم الظاهرة
ومتصدر فيها، فذاق من هذا الطريق شيئاً فجاء إلي فقال لي: يا سيدي
أأخرج عما أنا فيه وأتفرَّغ لصحبتك؟ فقلت له: ليس الشأن ذا ولكن امكث
فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو لك واصل، ثمّ نظر إلي
وقال: هكذا شأن الصديقين لا يخرجون من شيء حتى يكون المولى عزَّ
وجلَّ هو الذي يتولى إخراجهم) قال ابن عطاء الله: فخرجت من عنده وقد
غسل الله قلبي من هذه الخواطر، ووجدت الراحة والتسليم إلى الله
تعالى. وهكذا ينبغي علينا أن نرضى بما قسمه الله تعالى لنا فـي هذه
الدنيا حتى تطمئنَّ قلوبنا فلا ننازع فـي أحكام الحق وقال:
سلِّم لسلمى وسر حيث سارت واتبع رياح
القضا ودر حيث دارت
محمد بابكر البدوي |