خُـدام المسجـد النبـوي الشريـف
تُطلق هذه الكلمة على خُدَّام الحرمين الشريفين المكي والمدني.وفي
اللغة الفارسية تعني كلمة آقا السيد وهي تكتب بالقاف وتنطق بالغين
وقد كانت تطلق في عهد الدولة العثمانية على الشيخ أو السيد وعلى
رئيس الخدم في المنزل وكان سلاطين الأتراك هم الذين يرسلون هؤلاء
الخدام فلعلَّ هذا يكون السبب في غلبة هذا الاسم عليهم، أما
إطلاقها في الحرمين على الخُدَّام فتعني السادة لأنهم شُرِّفوا
بهذه المنزلة وهي قيامهم بخدمة سيَّد المرسلين والأوَّلين والآخرين
محمد ، وهي سيادة دينية وهي أقوى من السيادة الدنيوية لأنَّ الناس
يسلِّمون بها طائعين مختارين. أما أوَّل من أحدث نظام الأغوات فمحل
اختلاف فيقول البعض إنه صلاح الدين الأيوبي ويقول البعض الآخر أنه
نور الدين زنكي عندما جاء إلى المدينةالمنورة في عام
557هـ
في حادثة محاولة تعدِّي النصارى على الحجرة الشريفة. وقد كان حكام
المسلمين في أفريقيا وغيرها من العالم العربي على مرِّ الأزمان
يتنافسون في خدمة الحرمين الشريفين ويرسلون الخُدَّام لخدمة
الحرمين.وكان هذا يُسعد الخدَّام الذين يرسلون بقدر سعادة السلاطين
الذين يُرسلونهم وهذا لأنهم كانوا يسعدون بخدمة الحرم الشريف
والروضة الشريفة ويحلون بروضةٍ من رياض الجنة. وكانت مهنة هؤلاء
الخُدَّام أو (الأغوات كما يُطلقون عليهم) محلَّ تقدير واحترام
وهذه المهنة قديمة ترجع إلى صدر الإسلام وإن كانت صورتها اكثر
بساطةً ففي عصر الخلافة الراشدة قسَّم سيِّدنا عمر رضي الله عنه
عوداً بين المهاجرين والأنصار وأفرد جُزءاً للمسجد النبوي وكان
يجمِّره كلَّ ليلة وفي رواية أخرى أنه دفع بمجمرةٍ إلى أحد
المؤذنين وأمره أن يجمِّر بها المسجد في كلِّ جمعةٍ وفي شهر
رمضان.وكان سيدنا عثمان بن عفان أول من أجرى رواتب لحرَّاس المسجد،
وقد استأجر سيدنا عمر بن عبد العزيز حُرَّاسا للمسجد كانوا يمنعون
الناس من الصلاة فيه على الجنائز. وفي عهد الدولة العباسية كان
العاملون في المسجد هم الخطباء ووكلاؤهم ومساعدوهم والمؤذنون
والفرَّاشون والكناسون وشيخ المحمل وشيخ الروضة ومعاونه وحافظ كتب
جهة باب السلام ومسؤول عن الإضاءة في الحرم ونجار ونقاش وقدِّر عدد
العاملين في المسجد النبوي في عام 7231هـ بحوالي ألف شخص وكان
سلاطين المغرب والسودان يرسلون أغوات للخدمة بالمسجد النبوي
الشريف، وقد اشترط الشهيد نور الدين زنكي أن يكون الأغوات من حفظة
القرآن الكريم ومُلمِّين بفقه العبادات ليراعوا الآداب الشرعية في
حضرته صلى الله عليه وسلم، تأدُّبا مع الحضرة النبوية الشريفة وأن
يكونوا أحباشاً أو رُوماً أو تكارنة وفي عام
1814م
انحصر في السود ثمَّ اقتصر على الأحباش والسودانيين وقد كان
السلطان علي دينار ممن يرسلون الأغوات لخدمة الحرم النبوي الشريف
من مماليكه.
ولأغوات المسجد النبوي مكان مخصوص يجلسون فيه يسمى بدكَّة الأغوات
وهي في يسار قبره صلى الله عليه وسلم والدكة عبارة عن مصطبة
مسطَّحة طولها حوالي اثني عشر مترا وعرضها ثمانية أمتار. وقد كانت
على عهد رسول الله مكاناً لأهل الصُّفَّة من فقراء المهاجرين. ولا
تزال هذه الدكَّة قائمة إلى اليوم.
وقد كانت رتب الأغوات كالرتب العسكرية ووظائفهم محددة تحديداً دقيقاً
وكان من يلي المشيخة في الحرم النبوي من هؤلاء الأغوات وأحيانا
أخرى من خارج هذه الطائفة. وكان من وظائف هؤلاء الأغوات حفظ المسجد
نهاراً وإضاءته ليلا. وكانوا بعد صلاة العشاء يحملون فوانيس مضيئة
ويأتون إلى الصفِّ الأوَّل فيقف بعضهم في أوَّله وآخرون في وسطه
وآخرون في آخره ويقولون بسم الله وهذا أمرٌ للناس بالانصراف فإذا
كان هناك إنسانٌ يجلس قرب الحجرة الشريفة خاطبوه بقولهم لا إله إلا
الله وكلُّ هذا تأدُّباً مع الحضرة النبوية الشريفة وتجنُّب
التحدُّث بحديث دنيوي قرب الحجرة الشريفة.فإذا انصرف الناس وتأكدوا
من خلوِّ المكان من الناس يطفئون المصابيح ما عدا التي في داخل
الحجرة الشريفة في مواجهة الوجه الشريف ويغلقون الأبواب كلَّها ولا
يتركون بالمسجد إلا من عليه النوبة في الحراسة.ثمَّ يقرؤون ورداً
يسمونه الكلباني المحمدي وهو دعاء منظوم. ومن الأشياء الغريبة التي
يحكيها الأغوات أنهم كانوا يسمعون بالليل أصواتا تصدر من السقوف
والشبابيك فيفتشون المسجد فلا يجدون شيئاً وقيل هؤلاء الأولياء
الذين يحضرون لزيارة النبيِّ ويشترك الأغوات مع الأشراف في
المدينة المنوَّرة في غسل الحجرة الشريفة ثلاث مرات في السنة:
الأولى في التاسع من ربيع الأوَّل والثانية في الحادي والعشرين من
رجب والثالثة في الثامن عشر من ذي القعدة يخصص اليوم الأوَّل لغسل
ونظافة القناديل وتعبئتها واليومان الآخران لنظافة الحجرة
وتعطيرها. ويلاحظ أن الغسل الأوَّل يكون قبل المولد النبوي الشريف
في الثاني عشر من ربيع الأول وأما الغسل الثاني فيكون قبل الرجبية
في 32 رجب حين تفد للمدينة ولمدة ثلاثة أيام جماهير غفيرة من مختلف
أنحاء الحجاز يجلسون في حلقاتٍ ليلا ونهارا لمدة ثلاثة أيام تجاه
الحجرة الشريفة يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأون المعراج
في احتفال كبير يحضره علية القوم في المدينة. وقبل يومٍ من هذه
الغسلة الثانية تقوم جواري الأغوات ونساء وجهاء المدينة بدقِّ
الصندل وغربلته بغرابيل من الذهب والفضة ثمَّ يعجن بالعنبر وماء
الورد ويوضع في أوانٍ ويخمَّر كالعجين ويوضع في بيت شيخ الحرم في
احتفال كبير وفي صباح اليوم التالي وبعد غسل الحجرة يدخل شيخ الحرم
ونائبه وأمين الخزينة ويخرجون إناء الصندل القديم ويضعون الجديد
ويؤخذ القديم ليتبرَّك به. أما الغسل الثالث فيتم قبل الحج عندما
تفد أعداد هائلة من الحجاج لزيارة النبي . ويحمل ألأغوات المياه
المستعملة في غسل الحجرة الشريف ويضعوها في قوارير ويهدونها إلى
بعض أشراف المدينة وأعيانها ويتلَّقون عليه هدايا قيِّمة.
وفي أول ذي القعدة كان يتمُّ تسليم المكانس للأغوات المسؤولين عن
النظافة فيفرحون بها فرحاً شديدا هو شرف عظيم لهم وعندما يستلم
الأغا المكنسة يذبح ويولم وليمة يدعو إليها الناس.فرحا بهذه
المنحة.
وكان من واجبات الأغوات أيضاً تغيير الكسوة القديمة ووضع الجديدة
على قبر النبي وغالباً ما تغيَّر الكسوة عندما يعتلي سلطان جديد
العرش ويبعث بالكسوة الجديدة ويقوم بهذه المهمة أكبرهم سنا فيرقى
بدرج مخصوص من وراء الستار على أعمدة جدار سيدنا عمر بن عبد العزيز
والمحيط بالقبة الشريفة فيقوم بفك أزرار الستار القديم ويضع الجديد
مكانه وعيناه معصوبتان حتى لا ينظر إلى القبور الشريفة العظيمة
تأدّباً منه.
ومن واجبات الأغوات إخراج المصحف العثماني المحفوظ في الحجرة
الشريفة ليقرأ فيه عالم مشهود له بالصلاح حين يحلُّ بالناس وباء أو
مجاعة أو حين يخوض السلطان حرباً وذلك لدفع ما حلَّ بالقوم ولطلب
النصر في الحرب ودفع الهزيمة.
وفي قوانين الأغوات ما ينصُّ على معاقبة المخطيء منهم ففي المدينة
المنورة يتمُّ ذلك بعد نظافة الحرم والحجرة الشريفة فيجتمع كلُّ
الأغوات بجميع الرتب ويحضر الأغا المذنب وتتمُّ محاكمته فإذا أدين
كانت عقوبته الجلد فيأخذه اثنان ويدخلونه في بيت بإزاء المصطبة
التي يجلسون عليها ويضعان قدميه في الفلقة أو الفلكة وهي عبارة عن
عصا مثقوبة ثقبين في الوسط على بعدين متساويين وتتدلى منها حلقتان
وحبل تثبت بها القدمان ويقوم رجلان بتثبيت القدمين ويقوم ثالث
بالضرب على القدمين بالعصا ويصيح المذنب الأمان يا رسول الله
الأمان يا نبيَّ الله ولكن الضرب يستمر إلى أن يشفع فيه أحد
الحاضرين فيتقدَّم ويقبِّل يد كبير الأغوات فيوقف الجلد ثمَّ تقرأ
الفاتحة في نهاية الأمر.وكان لشيخ الحرم وهؤلاء الأ غوات مكانة
كبيرة جداً داخل المدينة وخارجها. وذكر ابن إياس المصري بأن شيخ
الأغوات إذا قدم من المدينة على الملوك يقومون له ويجلسونه إلى
جانبهم ويتبرَّكون به لقرب عهده من تلك الأماكن الشريفة.وقد روي أن
رجلا من الأغوات دخل على السلطان قطب الدين بن خورزم شاه فعظَّمه
وأجلسه بجانبه وصار يأخذ بيده ويتبرَّك بها ويمرُّ بها على وجهه
وكانت حاجاتهم مقضية في كلِّ مكانٍ يذهبون إليه لخدمتهم لرسول الله
.وأصل أكثر الأغوات حالياً من مدينة (ولَّو) الواقعة في شمال غرب
أثيوبيا وقليل من مديرية دارفور غرب السودان وجميعهم مواطنون
سعوديون.ومن الأغوات العاملين حالياً بالمسجد النبوي عبد السلام
جمعة أغا شيخ وجاه الله أغا إبراهيم نقيب وهما سودانيان وبقيُّتهم
من اثيوبيا.
ويحظى هؤلاء الأغوات باحترام كبير وتقدير تام ويذكر المؤرِّخ العياشي
رئيس الأغوات في المدينة ويسميه شيخ الحرم فيقول: له كلمة نافذة
وتصرُّف تام ويدٌ مبسوطة وهو أحد عظماء الولاة بالمدينة تنفذ
أحكامه وتمضى تصرُّفاته في القويِّ والضعيف والشريف والمشروف.
والعساكر يطيعون أوامره وينفِّذون أحكامه.
وقد وصفهم العياشي بأنهم أهل خير وبركة وقد شاهد منهم أناساً يُعدُّون
مضرب المثل في العبادة منهم الأغا عبد النبي.وكثير من المتشددين
يعترضون على اسم عبد النبي ويقولون هذا نوعٌ من الشرك، وقد وضَّح
مولانا الشيخ في دروسه أن العبوديَّة نوعان عبودية ربوبية وهي
عبوديَّتنا لله سبحانه وتعالى كما في قوله تعالى {ذكر رحمة ربِّك
عبده زكريا} وعبودية سيادة وهي عبودية العبد لمن يملكه كما في قوله
تعالى {ضرب الله مثلا عبداً مملوكاً} وعلى هذا فلا حرج في التسمية
بعبد النبي.
ملابس الأغوات
عندما أوقف صلاح الدين الأيوبي أغوات لخدمة الحرم النبوي كساهم ملابس
بيضاء وعلَّق عليها الشارات الخاصة بهم وقد وصف ابن جبير أغوات
الحرم المدني بأنهم ظراف الهيئات نظيفو الملابس والشارات. ووصفهم
ابن بطوطة فقال: هم على هيئات حسان وصورٍ نظاف وملابس ظراف وكبيرهم
يُعرف بشيخ الحرم وهو في هيئة الأمراء. يلبس الأغوات حاليا زياً
مُخصَّصاً يُعرفون به ويتكوَّن هذا الزِّي من الرداء وغطاء للرأس
مستدير يسمَّى قاووق وعلى هذا القاووق شارة منسوجة من حرير أخضر
اسمها شوشة وشال يوضع على الكتفين يسمى الحزام ويتدلى طرفاه من
الأمام على الفخذ الأيمن والفخذ الأيسر.
وقد تقلَّص عدد هؤلاء الأغوات وتقلَّصت مهامُّهم خاصَّة بعد المدِّ
الوهابي ومحاولة التقليل من شأن الحرم النبوي الشريف. فقد أوكلت
مهمة النظافة في المسجد النبوي لشركتين متخصصتين وأصبح يشارك
الأغوات في فصل الرجال عن النساء عاملون في هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
ومن القصص الغريبة التني يرويها الأغوات أن حمامة دخلت إلى الحجرة
الشريفة وماتت فيها فاختار الأغوات صبياً يافعا كان مشهوداً له
بالصلاح ليدخل من كوةٍ في القبر وهو على طهارة تامة فدخل الصبي
ثمَّ خرج وفي يده الحمامة الميتة ولكنه خرج أعمى أبكم أصم. وكبر
الصبي حتى صار شيخاً عجوزاً وهو على هذه الحالة وحين دنا أجله
ارتدَّ إليه بصره وسمعه وقدرته على الكلام وتحدَّث بما رآه وقال
إنه لما دخل القبر وجده مضيئاً إضاءة ساطعة وكان النبي يجلس
في وسطه والمصحف على ركبتيه ويجلس ملكان عن يمينه ويساره يقرآن له
القرآن وعندما دخل الصبي نهض الملك الجالس عن يمين النبي
وعرَّف نفسه بأنه جبرائيل وأخذ يد الصبي اليسرى ووضعها على الحمامة
الميتة ثمَّ أرشده لطريق
الخروج فخرج فوجد نفسه في الظلمة غير قادر على الإبصار أو السمع أو
الكلام.
أحمد البدوي
|