هل من سائل فيجاب؟

أدق الدقائق

من قصص المثنوى لسيدي جلال الدين الرومي

 

هل من سائل فيجاب؟

الأستاذ فتحي السبعي من باريس - فرنسا يسأل عن مقام التوكل وعلاقته بالرضا والصبر؟

إنَّ التوكل عند السادة الصوفية مقام شريف، ومعناه اعتماد القلب على الله تعالى ثقة بوعده {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} ففي هذه الآية الكريمة ردَّ سبحانه وتعالى المتوكلين إليه ولم يردَّهم إلى غيره، وقد أمر عزّوجل بالتوكل أحب أحبائه وأصفى أصفياه سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت} كما قال تعالى {وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم} وقال أيضاً {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}.

والسادة الصوفية حين يدعون إلى التوكل لا يعنون به ترك الأسباب، بل هم يأخذون في الأسباب معتمدين على فضل الله في ثمراتها، وراضين بالنتائج مهما كانت، رادين الأمر له سبحانه، فإن أعطوا شكروا، وإن لم يُعطوا صبروا، لأن التوكل عندهم يقتضي الرضا والتسليم، ومن ثم يتركون اختيار نفوسهم إكتفاء باختيار الله لهم، فهم مع القضاء كالهباء في الهواء يحركه كيف يشاء. ويساعدهم على التوكل قوة يقينهم بالله تعالى، واليقين نور في القلوب يشاهدون به أنه لا فاعل إلا الله تعالى، والأسباب أدواته في العطاء وليست هي الرازقة، بل أنه سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، ولذلك نرى سيدنا الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يردُّ أمره كله في الدنيا والآخرة إلى الله تعالى الذي قال حاكياً ما كان منه في سورة الشعراء {الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي أنه كان من الضالين، ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}. فأنت ترى من ذلك أن سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام رد أمره كله في الدنيا والآخرة إلى ربه جل وعلا، وسأله سؤال المحتاج إليه في الدارين، ولا تعجب أن يكون هذا شأنه فقد ألقاه أعداؤه في النار، فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم ؟ فقال: أما إليك فلا، وأما لربي فحالي يغني عن سؤالي. فكان سبحانه عند يقينه به وثقته فيه فقال جل وعلا {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فنجاه الله من حر النار ببرد اليقين والتوكل على الله رب العالمين، وقد قال العلماء لو لم يقيد الله ببردها بالسلام لقتلته من شدة بردها.

وهذا ما يفسر لنا قول سيدي الشيخ عبد السلام رضي الله عنه: فمنه وإليه أمري، فهو الرب المجيد القادر، وقد كتب الإمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه إلى بعض اخوته: من أشار إلى الله وسكن إلى غيره إبتلاه الله تعالى، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع ممن سكن إليه، كشف الله ما به من المحن والبلوى، وإن دام على سكونه لغير الله نزع الله تعالى من قلوب الخلق الرحمة عليه وأُلبس لباس الطمع فتزداد مطالبه منهم، مع فقدان الرحمة من قلوبهم فتصير حياته عجزا، وموته كمدا، ومعاده أسفا، ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غير الله،ونحن نحمد الله أن قيض لنا شيوخاً صالحين، رأينا فيهم ومنهم مشرب السابقين الأولين من عباد الله المتقين، في التوكل على الله وحسن الظن به، والاعتماد على الله، والاتجاه في السر والعلن إليه، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهوبكل شيء عليم، وصدق الإمام سهل التستري في قوله: لا معين إلا الله ولا دليل إلا رسول الله ولا زاد إلا التقوى ولا عمل إلا بالصبر. وفي قوله: ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليها في ساعات الليل والنهار، فأيما قلب رأى فيه حاجة إلى سواه سلط الله عليه إبليس. وفي قوله: البلوى من الله على وجهين: بلوى رحمة وبلوى عقوبة، فبلوى الرحمة تبعث صاحبها على إظهار فقره إلى الله وترك التدبير، وبلوى العقوبة تبعث صاحبها على إختياره وتدبيره.

ويعلمنا السادة الصوفية أن التوكل ينتهي بنا إلى الرضا، والرضا هو أعلا مقامات اليقين، وقد جاء في الحديث الشريف: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا. وهم يقولون أن الشكوى إلى الله تعالى مما يصيب المؤمن لا تنافي الرضا، لأن الرضا معناه إلا تعترض على حكم القضاء، ويستدلون على ذلك بأن سيدنا أيوب عليه السلام شكا إلى الله مما أصابه فقال {رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} ولكنه مع ذلك كان صابراً على البلاء وراضياً بالقضاء وشهد الله له بذلك فقال {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} فشكواه إلى الله لم تنف عنه الصبر أو الرضاوالله المطلع على سريرته الذي أثنى عليه ومدحه،وقضاء الله تعالى نافذ لا محالة، رضي العبد أو كره، إذ أنه لا معقب على حكم الله تعالى، ويقول سيدي الإمام عبد القادر الجيلاني: إن شرط الرضا أن يكون بعد وقوع القضاء، أما قبل وقوع القضاء فإنه يكون من باب العزم على الرضا،وقد فرقوا بين العبادة والعبودية فقالوا: إن العبادة هي الإئتمار بأوامر الله تعالى والإنتهاء بنواهيه سبحانه، أما العبودية فهي الرضا بما يجري به قضاؤه، وقد قالوا: الرضا بمواقع المقدور نعم الوسيلة إلى درجات المعرفة، كما قالوا: رضاء العوام بما قسم الله وأعطى، ورضاء الخواص بما قدره وقضاه، ورضاء خواص الخواص بالله تعالى عن كل ما سواه، وقد حكى لنا سيدي الشيخ عبد السلام رضي الله عنه مثلاً مما وقع له في توكله فقال: أنه إحتاج للمال يوماً ولم يرد أن يسأل الناس شيئاً فأمسك بورقة وكتب فيها: من كان رزقه على الله فلا يحزن، قال ثم طويت الورقة ووضعتها في جيبي، وبعد وقت قصير جاءه زائر على غير ميعاد وقدم له مبلغاً من المال معتذراً له في تأخر أدائه، وكان ذلك الزائر قد اقترض المال من سيدي الشيخ ولم يتيسر له أداؤه إلا في ذلك اليوم، وكان سيدي الشيخ يعلمنا كثيراً بالأمثلة العملية التجريبية فذلك أوقع في تربية النفوس، وأبلغ أثراً في التوجيه لمكارم الأخلاق، والسادة الصوفية حين يقولون باسقاط التدبير، لا يقصدون به ترك إتخاذ الأسباب، بل يقصدون به الراحة النفسية التي تؤدي إلى أن يتفرغ المؤمن عن الشواغل فيتمكن من الإقبال على الله تعالى حتى يصل إلى الله بأن ينسب الفضل إلى الله فيما يوفق إليه من الأعمال الصالحة مع الرضا بحكمه سبحانه، فإن تمَّ له ما يريد فمن فضل الله، وإن لم يتم فذاك من قدر الله لحكمة يعلمها سبحانه ويجهلها العبد، وعند السادة الصوفية لا يجوز أن ييأس مذنب من رحمة ربه، بل يجب أن يحسن المذنب ظنه بربه، ويحسن التوكل عليه في غفران ذنبه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويقول سيدي عطاء الله السكندري في ذلك: لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله تعالى، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه، كما يقول رضي الله عنه: إذا وقع منك ذنب فلا يكن سبباً ليأسك من حصول الاستقامة مع ربك، فقد يكون ذلك آخر ذنب قدر عليك. وجاء في الحكم العطائية:عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته، وقابلتك رعايته، لم يكن في أزله اخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الافضال، وعظيم النوال.

والسادة الصوفية في حسن توكلهم على الله سبحانه ورضاهم بما يجري به قضاؤه، إنما يتأسون في ذلك بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أنس رضي الله عنه فقال: خدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ولا لشيء فعلته لِمَ فعلته ولا لشيء تركته لِمَ تركته، بل كان يقول لي ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وعلى مثل هذا الرضا جرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان كل من عبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحب إليّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان، وإذا أصاب أحد الصوفية هم أو غم لجأ إلى الله تعالى في كشف همه وغمه، وقد أخذوا أدبهم هذا من الحديث الشريف: (من أصابه هم أو غم فليقل: الله الله، لا أشرك به شيئا، فإن الله يذهب همه وغمه) وهم يقولون إن سبب القبض إنما يأتي للعبد من الغفلة عن الله والنظر إلى ما سواه، ونختم بنصيحة لسيدي فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله عنه من ديوانه شراب الوصل:

فكن يا مريـدي للكرام مقـلدا�������� فليس أمان في جـناح البعوضة

فإن جنحت للسلم فاجنح لسلمها�������� وإن جمحت فالذكر عين الحماية

محمد صفوت جعفر

 

أدق الدقائق

هناك مذهب فلسفي يُسمَّى مذهب المتعة هذا المذهب يقول إن الملذَّات الدنيوية هي الخير الأوحد في هذه الحياة ويفهمون القول السائر (ولك الساعة التي أنت فيها) على غير الوجه الصحيح فيغترفون من ملذات الدنيا من أكل وشرب ولهو ولعب قد أهملوا الماضي ونسوا المستقبل. وقد أعانتهم الحضارة الحديثة بما وفَّرت من متع الحياة على هذا الفهم، فانتشرت دور اللهو والمطاعم التي تقدِّم الأفانين من ضروب الطعام ذات الطعوم المختلفة والأشربة ذات النكهات المتنوِّعة. إن القول بأن الحياة لهوٌ ولعبٌ وأن الخير كلَّ الخير في استمتاع المرء بيومه غير حاسبٍ حساب غدِهِ أوأمسه مبدأ خطير مدمِّر، إنَّ الناس الذين يعيشون هذا النمط من الحياة يعيشون شيخوخة تعيسة فإذا كبروا وضعفت أجسادهم وخوت جيوبهم فلم يعودوا يستطيعون أن يرتادوا أماكن اللهو انزووا في ركنٍ قصي من المجتمعٍ يتجرَّعون غصص الأسف والندم ويبكون شبابهم الضائع، هؤلاء هم أصحاب الطبع السؤوم والوقت المضيَّع والحياة الهازلة، لفظتهم الحياة إلى هامش الوجود فليس لهم في الحياة مكانٌ مرموق ولا شأنٌ يذكر فلو كانوا راضوا أنفسهم في شبابهم على المتع الروحية والنفسية لادَّخروا منها لأيام شيخوختهم ما يملأها بهجة وضياء، إن ازدراء الروح وعدم إشباع حاجاتها هو السبيل المؤدي إلى هذا الشقاء والتعاسة.

انظر إلى شابٍّ قضى شبابه في العبادة وفعل الخيرات أو الدرس وطلب العلم فنفع وانتفع، فأنت تلقاه في أيام شيخوخته ووجهه يتلألأ نوراً وكلما ذكر أيام شبابه أشرق وجهه وسمت روحه فيعيش شيخوخة بهيجة لا همَّ فيها ولا تنغيص.

أحمد البدوي

 

من قصص المثنوى لسيدي جلال الدين الرومي

(قصة ولد الفيل 1 )

قال سيدي جلال الدين الرومي رضي الله عنه: هيِّءْ صحائفك يا حسام الدين واملأها حكمةً وعلما، إن الحكمة أغلى من الجوهر، أروِ عني هذا النظم بما فيه من قصص يحمل في طياته العبرة الشافية والفكرة الهادية.إن الحكمة شعلة مضيئة لا تستمد وقودها من إحتراق الزيت، إن مصدرها الإلهام وحده والمؤمن كذلك لا يستمد قوة روحه من طعام وشراب، بل مما تفيضه نعم الكريم الوهاب. إن الذين صفت قلوبهم حتى أصبحوا ملائكة من البشر من يد المنِعم عزَّ وجل، ومن كان في قوة إيمان الخليل إبراهيم عليه السلام يجعل الله له نار النمرود برداً وسلاما.

إن الله يسخر العناصر لمن أراد ولو شاء لوهب الأحجار مَلَكةً تقبل الحكمة وتدركها. انظر إلى الطور عند التجلي كيف تجاوب مع رهبة الجلال {فلما تجلَّى ربه للجبل جعله دكاً وخرَّ موسى صعقا}. تستطيع أن تهب الحكمة ولكنك لا تستطيع أن تخلق الأذن التي تسمعها والقلب الذي يعيها والله هو الذي يمنح القلوب وعيها وإدراكها فاعمل على أن يتفق ظاهرك مع باطنك حتى تشبع الغذاء الروحي والقوت المعنوي، فإن كل ما في الكون آكل مأكول، فالتراب يأكل رزقه من السحاب والهواء فينبت الزرع، والنبات يأكل رزقه من الأرض فإذا نما وترعرع كان رزق الحيوان ثم يصبح الحيوان طعام الإنسان ثم يأكل التراب بعد ذلك هيكل الإنسان {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} أما ما تأكله الذرَّة فإن تفصيله يقصر عنه البيان.

إن السحاب تربي الأشجار وتنميها لتخرج الثمرات من أكمامها إلى حين، أما مزرعة الباقيات الصالحات فلا تفنى ولا تصيبها الآفات. إن هذا العالم وسكانه متفرق منتشر والعالم الثاني باقٍ مستقر هذا مخلد مجتمع وذاك زائل منقطع {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.

إن عصا النبوة راحت تلقف ما يأفكون فالتقمت حبال السحرة وعصيهم وبقيت كما هي لم تتغير ولم تتبدل. إذا فطمت الطفل من الرضاع وجد مئات الفواكه في مئات البساتين في مكان اللبن الذي حرم منه. أذكر عهداً كنت فيه جنينا، لقد كان غذاؤك قاصراً على ما يتحول من الدم في ظلمات ثلاث ولو قلت للجنين قبل أن يخرج إلى الدنيا أن هناك أرضاً فيها بحار وجبال وعليها أشجار كالعرائس حليها الأزهار وعقودها الثمار، تنيرها شمس وقمر ونجوم أكان يصدق ؟

هكذا حال كثير من الأمم فكم نبههم المرسلون إلى أن وراء هذا العالم المحدود عالماً غير محدود وداراً أخرى فيها من الثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وفيها عقاب للمنحرفين وعذاب للمفسدين فأعرضوا وقالوا: {من يُحي العظام وهي رميم، قل يُحيها الذي أنشأها أول مرة}. إن الاستسلام إلى غرور الدنيا يربط الأذن عن الاستماع ويحجب العين عن الشهود والاطلاع.

إن أمام الإنسان بعد طور الأجنة مراحل الكسب والبرزخ والبعث، وكل مرحلة منها أكثر اتساعاً من سابقتها. إن الله أمر النبيين بما أمر به المرسلين وجعل الأرض مائدة عامة للرزق وقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} ثم قال {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبا}.

فاحرص على طيب مطعمك فإنك واجد في الدنيا آثاره وفي الآخرة ثماره. وقد أخـرج أهل الحـديث أن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج منها بكى حتى إذا رأى الصور ورضـع اللبن لم يحبَّ أن يرجع إليها.

بعد أن يبين الشيخ جلال الدين رضي الله عنه ذلك ساق قصة جعلها أساساً لموعظته وقد اقتبس موجزها من الحلية لأبي نعيم الأصبهاني على نحو ما أشار إليه (ملاجاي) في نفحات الأنس. يقول أبو نعيم (في حلية الأولياء) ما ملخصه: أن أبا عبد الله القابس ركب البحر فعصفت الريح بسفينته واضطربت بمن معه فابتهلوا إلى الله بدعائهم ونذورهم وألحوا على أبي عبد الله أن يدعو لهم فنطق بما أجراه الله على لسانه وقال: إن خلصنا الله ونجانا لا نأكل لحم الفيل. فنجاهم الله ووصلوا إلى الساحل سالمين وأقاموا أياماً بغير زاد وإذا هم بفيل صغير سمين فأزمعوا ذبحه فحذرهم أبو عبد الله وقال لهم: اصبروا {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فأبوا وذبحوه وأكلوا جميعاً سوى أبي عبد الله، فلما ناموا جاءت الأمُّ تتلمس رائحة ولدها وكل من وجدت منه ريحه قتلته ثم شمت أبا عبد الله فلم تجد فيه شيئاً فوقفت إلى جانبه وامتطى ظهرها وسارت به الأيام والليالي حتى وصلت إلى أرض خصبة انتهى إليها سفره وأمن المكاره وقص على من لقيه من القوم قصته.

أملى الشيخ على تلميذه حسام الدين هذه القصة قال: هل أتاك حديث الموجه الناصح الأمين حين اتجه إلى أصحابه يعظهم وكانوا على سفر شاق طويل قال لهم: حسبكم ما أحل الله لكم فاقنعوا بالطيبات من الرزق ولا تقربوا الحرام ولو بقيتم جياعاً بلا زاد. أحذروا فتنة أكل الحرام بكل ألوانه، إنها كربلاء، الشدة العظمى والمحنة الكبرى.

فإذا أنقذكم الله مما أنتم فيه وغدوتم سالمين كرموا أنفسكم عن الإسفاف في الدنيا واذكروا قوله سبحانه {ولقد كرمنا بني آدم}. إني أخاف عليكم أن تهوي بكم مرارة الجوع فتذبحوا ولد الفيل وتأكلوه وهو مما لا يحل لكم أكله. لقد تعودتم صيد الفيلة في الهند ولكم في صيده متعة ورياضة وقد نذرنا ألا نذبحه ولا نقرب لحمه، إن وراءه أما جسوراً مفترسة تكمن وتختبئ متربصة حارسة لولدها على بعد تعدو من أجله مئات الأميال. وهي عند فراقه تغضب وينتابها الفزع وفي غضبها ترسل من خرطومها النار والدخان وتزلزل الأرض بجسمها الضخم كالجبل الأعصم، كونوا كالذين {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} إنكم حين تستمرئون شِلواً من لحم ولدها سينبعث من شفقتها الغيظ ويتقدُّ من رحمتها الغضب وكذلك من يأكل لحوم أولياء الله باغتيابهم ويؤذي المُصلحين وهم عيال الله وهو الذي يغار عليهم وينتقم لهم وهو في رحمته أبر بهم من الأم بوحيدها، وهم لا يلجأون إلى غيره ولا يتوكلون إلا عليه ولا يطمئنون إلا بذكره {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.

تجنبوا الحرام ولا يستهن أحدكم بغضب الله الذي {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا}. إن حرص الإنسان وطمعه يحجبان عن عينيه وجه الحقيقة ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب فتراه يشح على الخير ويمسك عن المعروف.

ولو كان قرص الشمس فوق خوانه رغيفاً لما لاح النهار إلى الأبد وصدق الله {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي اذن لأمستكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا}. إن المستعبد للمادة يقضي أيام حياته راقصاً كالدببة بلا مقصد ويتحرك بلا إرادة ولا هدف {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}.

داو جراح الرغبات بمَرهم الرياضات والطاعات لتجد العافية المعنوية وقد يرقص المؤمن ويختال ولكن في صفوف القتال والمخاطرة في مواجهة الأبطال لإعلاء كلمة الحق الكبير المتعال. أولئك الذين سعدوا ببيع أنفسهم لله دون تراجع ولا تردد ولا مساومة وقالوا في ثقتهم بوعد الله حين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل)، إن هؤلاء المحبين قد أجروا البحار في دموع أشواقهم وأهتزت أوراق الشجر متجاوبة مع تسبيحاتهم.

وكما أن أم الفيل تشم رائحة ولدها فإن الملائكة الكرام الكاتبين يشمون رائحة العمل الصالح ولا ينجو من العذاب إلا الصادقون سراً وعلانية. ولو كان ثمة ما يحجب رائحة الطعام فلا شيء يحجب رائحة العمل وما أشد حساب من استهان بأكل الحرام. يتبع.

لجنة التراث