أدق
الدقائق
هناك
مذهب فلسفي
يُسمَّى مذهب
المتعة هذا المذهب
يقول إن
الملذَّات
الدنيوية هي
الخير الأوحد
في هذه الحياة
ويفهمون
القول السائر (ولك
الساعة التي
أنت فيها) على
غير الوجه
الصحيح
فيغترفون من
ملذات الدنيا
من أكل وشرب
ولهو ولعب قد
أهملوا
الماضي ونسوا
المستقبل. وقد
أعانتهم
الحضارة
الحديثة بما
وفَّرت من متع
الحياة على
هذا الفهم،
فانتشرت دور
اللهو
والمطاعم
التي تقدِّم
الأفانين من
ضروب الطعام
ذات الطعوم
المختلفة
والأشربة ذات
النكهات
المتنوِّعة. إن القول
بأن الحياة لهوٌ ولعبٌ وأن الخير كلَّ الخير في استمتاع المرء بيومه غير حاسبٍ حساب
غدِهِ أوأمسه مبدأ خطير مدمِّر، إنَّ الناس الذين يعيشون هذا النمط من الحياة
يعيشون شيخوخة تعيسة فإذا كبروا وضعفت أجسادهم وخوت جيوبهم فلم يعودوا يستطيعون أن
يرتادوا أماكن اللهو انزووا في ركنٍ قصي من المجتمعٍ يتجرَّعون غصص الأسف والندم
ويبكون شبابهم الضائع، هؤلاء هم أصحاب الطبع السؤوم والوقت المضيَّع والحياة
الهازلة، لفظتهم الحياة إلى هامش الوجود فليس لهم في الحياة مكانٌ مرموق ولا شأنٌ
يذكر فلو كانوا راضوا أنفسهم في شبابهم على المتع الروحية والنفسية لادَّخروا منها
لأيام شيخوختهم ما يملأها بهجة وضياء، إن ازدراء الروح وعدم إشباع حاجاتها هو
السبيل المؤدي إلى هذا الشقاء والتعاسة.
�انظر إلى
شابٍّ قضى شبابه في العبادة وفعل الخيرات أو الدرس وطلب العلم فنفع وانتفع، فأنت
تلقاه في أيام شيخوخته ووجهه يتلألأ نوراً وكلما ذكر أيام شبابه أشرق وجهه وسمت
روحه فيعيش شيخوخة بهيجة لا همَّ فيها ولا تنغيص.
أحمد
البدوي
من قصص
المثنوى
لسيدي جلال
الدين الرومي
(قصة
ولد الفيل 1
)
قال سيدي جلال الدين
الرومي رضي الله عنه: هيِّءْ صحائفك يا حسام الدين واملأها حكمةً وعلما، إن الحكمة
أغلى من الجوهر، أروِ عني هذا النظم بما فيه من قصص يحمل في طياته العبرة الشافية
والفكرة الهادية.� إن
الحكمة شعلة
مضيئة لا
تستمد وقودها
من إحتراق
الزيت، إن
مصدرها
الإلهام وحده
والمؤمن كذلك
لا يستمد قوة
روحه من طعام
وشراب، بل مما
تفيضه نعم
الكريم
الوهاب. إن الذين صفت قلوبهم حتى أصبحوا
ملائكة من البشر من يد المنِعم عزَّ وجل، ومن كان في قوة إيمان الخليل إبراهيم عليه
السلام يجعل الله له نار النمرود برداً وسلاما.
إن الله
يسخر العناصر
لمن أراد ولو
شاء لوهب الأحجار
مَلَكةً تقبل
الحكمة
وتدركها. انظر
إلى الطور عند
التجلي كيف
تجاوب مع رهبة
الجلال {فلما
تجلَّى ربه
للجبل جعله
دكاً وخرَّ
موسى صعقا}. تستطيع أن تهب الحكمة
ولكنك لا تستطيع أن تخلق الأذن التي تسمعها والقلب الذي يعيها والله هو الذي يمنح
القلوب وعيها وإدراكها فاعمل على أن يتفق ظاهرك مع باطنك حتى تشبع الغذاء الروحي
والقوت المعنوي، فإن كل ما في الكون آكل مأكول، فالتراب يأكل رزقه من السحاب
والهواء فينبت الزرع، والنبات يأكل رزقه من الأرض فإذا نما وترعرع كان رزق الحيوان
ثم يصبح الحيوان طعام الإنسان ثم يأكل التراب بعد ذلك هيكل الإنسان {منها خلقناكم
وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} أما ما تأكله الذرَّة فإن تفصيله يقصر عنه
البيان.
إن
السحاب تربي
الأشجار
وتنميها
لتخرج الثمرات
من أكمامها
إلى حين، أما
مزرعة
الباقيات الصالحات
فلا تفنى ولا
تصيبها
الآفات. إن هذا العالم وسكانه متفرق منتشر
والعالم الثاني باقٍ مستقر هذا مخلد مجتمع وذاك زائل منقطع {ويبقى وجه ربك ذو
الجلال والإكرام}.
إن عصا
النبوة راحت
تلقف ما
يأفكون
فالتقمت حبال
السحرة
وعصيهم وبقيت
كما هي لم
تتغير ولم تتبدل.
إذا فطمت
الطفل من
الرضاع وجد
مئات الفواكه
في مئات
البساتين في
مكان اللبن
الذي حرم منه. أذكر
عهداً كنت فيه
جنينا، لقد
كان غذاؤك
قاصراً على ما
يتحول من الدم
في ظلمات ثلاث
ولو قلت
للجنين قبل أن
يخرج إلى
الدنيا أن
هناك أرضاً
فيها بحار
وجبال وعليها
أشجار
كالعرائس
حليها
الأزهار وعقودها
الثمار،
تنيرها شمس
وقمر ونجوم
أكان يصدق ؟
هكذا حال
كثير من الأمم
فكم نبههم
المرسلون إلى
أن وراء هذا
العالم
المحدود
عالماً غير
محدود وداراً
أخرى فيها من
الثواب ما لا
عين رأت ولا
أذن سمعت ولا
خطر على قلب
بشر وفيها
عقاب
للمنحرفين
وعذاب
للمفسدين
فأعرضوا وقالوا:
{من يُحي
العظام وهي
رميم، قل
يُحيها الذي
أنشأها أول
مرة}. إن الاستسلام إلى غرور الدنيا يربط الأذن عن الاستماع
ويحجب العين عن الشهود والاطلاع.
إن أمام
الإنسان بعد
طور الأجنة
مراحل الكسب والبرزخ
والبعث، وكل
مرحلة منها
أكثر اتساعاً
من سابقتها. إن الله أمر
النبيين بما أمر به المرسلين وجعل الأرض مائدة عامة للرزق وقال {يا أيها الرسل كلوا
من الطيبات واعملوا صالحاً} ثم قال {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبا}.
فاحرص
على طيب مطعمك
فإنك واجد في
الدنيا آثاره
وفي الآخرة
ثماره. وقد أخـرج أهل الحـديث أن مثل
المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج منها بكى حتى إذا رأى الصور
ورضـع اللبن لم يحبَّ أن يرجع إليها.
بعد أن
يبين الشيخ
جلال الدين
رضي الله عنه
ذلك ساق قصة
جعلها أساساً
لموعظته وقد
اقتبس موجزها
من الحلية
لأبي نعيم
الأصبهاني
على نحو ما
أشار إليه (ملاجاي)
في نفحات
الأنس. يقول
أبو نعيم (في
حلية
الأولياء) ما
ملخصه: أن أبا
عبد الله
القابس ركب
البحر فعصفت
الريح
بسفينته
واضطربت بمن
معه فابتهلوا
إلى الله
بدعائهم
ونذورهم
وألحوا على
أبي عبد الله
أن يدعو لهم
فنطق بما
أجراه الله
على لسانه وقال:
إن خلصنا الله
ونجانا لا
نأكل لحم
الفيل. فنجاهم الله ووصلوا إلى الساحل سالمين
وأقاموا أياماً بغير زاد وإذا هم بفيل صغير سمين فأزمعوا ذبحه فحذرهم أبو عبد الله
وقال لهم: اصبروا {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فأبوا وذبحوه وأكلوا جميعاً سوى
أبي عبد الله، فلما ناموا جاءت الأمُّ تتلمس رائحة ولدها وكل من وجدت منه ريحه
قتلته ثم شمت أبا عبد الله فلم تجد فيه شيئاً فوقفت إلى جانبه وامتطى ظهرها وسارت
به الأيام والليالي حتى وصلت إلى أرض خصبة انتهى إليها سفره وأمن المكاره وقص على
من لقيه من القوم قصته.
أملى
الشيخ على
تلميذه حسام
الدين هذه
القصة قال: هل
أتاك حديث
الموجه
الناصح
الأمين حين
اتجه إلى أصحابه
يعظهم وكانوا
على سفر شاق
طويل قال لهم: حسبكم
ما أحل الله
لكم فاقنعوا
بالطيبات من الرزق
ولا تقربوا
الحرام ولو
بقيتم جياعاً
بلا زاد. أحذروا فتنة أكل الحرام بكل ألوانه،
إنها كربلاء، الشدة العظمى والمحنة الكبرى.
فإذا
أنقذكم الله
مما أنتم فيه
وغدوتم سالمين
كرموا أنفسكم
عن الإسفاف في
الدنيا واذكروا
قوله سبحانه {ولقد
كرمنا بني آدم}.
إني أخاف
عليكم أن تهوي
بكم مرارة
الجوع فتذبحوا
ولد الفيل
وتأكلوه وهو
مما لا يحل
لكم أكله. لقد
تعودتم صيد
الفيلة في
الهند ولكم في
صيده متعة
ورياضة وقد
نذرنا ألا
نذبحه ولا
نقرب لحمه، إن
وراءه أما
جسوراً
مفترسة تكمن
وتختبئ
متربصة حارسة
لولدها على
بعد تعدو من
أجله مئات
الأميال. وهي عند فراقه تغضب وينتابها
الفزع وفي غضبها ترسل من خرطومها النار والدخان وتزلزل الأرض بجسمها الضخم كالجبل
الأعصم، كونوا كالذين {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} إنكم حين
تستمرئون شِلواً من لحم ولدها سينبعث من شفقتها الغيظ ويتقدُّ من رحمتها الغضب
وكذلك من يأكل لحوم أولياء الله باغتيابهم ويؤذي المُصلحين وهم عيال الله وهو الذي
يغار عليهم وينتقم لهم وهو في رحمته أبر بهم من الأم بوحيدها، وهم لا يلجأون إلى
غيره ولا يتوكلون إلا عليه ولا يطمئنون إلا بذكره {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ
عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة}.
تجنبوا
الحرام ولا
يستهن أحدكم
بغضب الله الذي
{تكاد السموات
يتفطرن منه
وتنشق الأرض
وتخر الجبال
هدا}. إن حرص الإنسان وطمعه يحجبان عن عينيه وجه الحقيقة ولا
يملأ عين ابن آدم إلا التراب فتراه يشح على الخير ويمسك عن المعروف.
ولو كان
قرص الشمس فوق
خوانه رغيفاً
لما لاح النهار
إلى الأبد
وصدق الله {قل
لو أنتم
تملكون خزائن
رحمة ربي اذن
لأمستكتم
خشية الإنفاق
وكان الإنسان
قتورا}. إن المستعبد للمادة يقضي أيام حياته راقصاً
كالدببة بلا مقصد ويتحرك بلا إرادة ولا هدف {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير
الحق وبما كنتم تمرحون}.
داو جراح
الرغبات
بمَرهم
الرياضات
والطاعات
لتجد العافية
المعنوية وقد
يرقص المؤمن
ويختال ولكن
في صفوف
القتال
والمخاطرة في
مواجهة الأبطال
لإعلاء كلمة
الحق الكبير
المتعال. أولئك الذين سعدوا ببيع أنفسهم
لله دون تراجع ولا تردد ولا مساومة وقالوا في ثقتهم بوعد الله حين اشترى منهم
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل)، إن هؤلاء المحبين
قد أجروا البحار في دموع أشواقهم وأهتزت أوراق الشجر متجاوبة مع تسبيحاتهم.
وكما أن
أم الفيل تشم
رائحة ولدها
فإن الملائكة
الكرام
الكاتبين
يشمون رائحة
العمل الصالح
ولا ينجو من
العذاب إلا
الصادقون
سراً وعلانية.
ولو كان ثمة
ما يحجب رائحة
الطعام فلا شيء
يحجب رائحة
العمل وما أشد
حساب من
استهان بأكل
الحرام. يتبع.
�لجنة
التراث
|