لمحات صوفية من رحلة ابن بطوطة

اشتهرت البلاد العربية عبر التاريخ بكثرة الجوَّابين الذين جابوا أنحاءها، سفراءً للملوك والأمراء أو تجارأ أو دعاةً للإسلام أو رحَّالةً باحثين عن التجربة ومشاهدة عجائب الخلق في الكون ولكنهم كلهم أصبحوا في النهاية دعاة للإسلام بفضل ما اتَّفوا به من الخلق الذي كان يميِّزهم على سائر أهل الأديان الأخرى و قاموا بدور أكبر مما قامت به الجيوش الإسلامية. ونذكر منهم على سبيل المثال: اليعقوبي والبلخي وابن حوقل وابن فُضلان وابن جُبير وابن بطوطة وقد خلَّفوا آثاراً باقية خالدة، وصفوا فيها أحوال البلاد التي شاهدوها وكان جلُّ هؤلاء يروون أخبار أهل التصوُّف الذين عرفوهم وذكروا كراماتهم ووصفوا أحوالهم وصف الموقنين المصدِّقين بعلوم التصوُّف.

ونحن نرى أن الرحالة غالباً ما يكون رجلا واسع الأفق كبير التجربة يرى من عجائب الله في ملكه ومخلوقاته ما يمنعه أن يستعجل على أحد بالإنكار. وكان هؤلاء الرحالة ينزلون على المتصوِّفة في الزوايا والتكايا فيكرمونهم ويشاهدون أحوالهم العجيبة وكراماتهم الباهرة، ولا تجد رحالة واحداً ينكر على الصوفية أحوالهم وغالباً ما يأتي الإنكار على المتصوِّفة من ضيقي الأفق من الذين يمكثون في مكان واحد لا يبارحونه ويعكفون على كتابٍ واحد يقرأونه ولا يقرأون سواه وقديماً قيل:

تغرَّب عن الأوطانِ في طلبِ العلا          وسافرْ ففي الأسفـارِ خمسُ فوائدِ

تـفرُّج همٍّ واكـتـسـابُ معـيشةٍ          وعــلمٌ وآدابٌ وصحـبةُ مـاجدِ

وسنبدأ في هذا العدد برحلة الشيخ أبي عبد الله شمس الدين المعروف بابن بطوطة. رحمه الله تعالى.

سيرته

 اسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم وكان مولده في طنجة سنة 703 هـ لم يكن يخطر بباله أن يفارق أهله إلى أن دعاه داعي الحجِّ فلبَّاه. وقد بلغت رحلات ابن بطوطة ثلاث رحلات: استغرقت الأولى 24 عاما فخرج من طنجة في عام 1325 م فمرَّ بالجزائر وتونس وطرابلس ومصر وأراد أن يحجَّ عن طريق البحر الأحمر فصدَّته الحروب، فذهب فحجَّ حجَّته الأولى عن طريق الشام ومنها سافر إلى آسيا الوسطى ثمَّ عاد فحجَّ حجَّته الثانية ثم زار عمان والبحرين والأحساء والخليج الفارسي ثمَّ رجع إلى مكَّة فحج حجَّته الثالثة ثم زار بلاد آسيا حتى بلغ الشرق الأقصى، ثمَّ عاد إلى بلاد العرب فحجَّ حجَّته الرابعة ثمَّ عاد إلى وطنه في عام 1349 ثمَّ قام برحلته الثانية التي زار فيها بلاد الأندلس. وبين عامي 1352 ـ 1354 زار بلاد السودان وغرب أفريقيا ثم عاد إلى وطنه.

كان مُعظِّما للأولياء، يزور قبورهم للتبرّك بهم، ويروي كثيراً من كراماتهم، وما ينسب إليهم من أعمال البر، كإقامة الزوايا والتكايا وحبس الأوقاف الكثيرة عليها وكان دائماً يذكر أن ما مُتِّع به في حياته من نعمة لأنه حجَّ أربع حجَّات، وقد أحبَّه الصالحون وكاشفوه بأحواله وأحوالهم ومنهم من كان يقدِّمه للصلاة لما حوى قلبه من الطهر والعفاف والإيمان. وكان وهو في رحلته هذه يطلب العلم، فذكر أنه سمع بجامع دمشق جميع صحيح الإمام البخاري رضي الله عنه على الشيخ المعمَّر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب، وولِّي القضاء في دهلي لفترة في بعض أسفاره. كما كان همُّه اللقاء بالعارفين المحققين من أهـل الحقيقة الذين لم يكد يدع أحداً إلا ذكر شيئاً من أخباره وكراماته.

ولم تخلُ هذه الأسفار من مخاطر كبيرة لقيها في طريقه من الحروب والمكائد واللصوص ولكنَّ الله سبحانه وتعالى حفظه ووقاه بصحبة هؤلاء الصالحين ودعائهم له، وقد قال عند زيارته للشيخ أبي عبد الله المرشدي : الذي دعا له بالتوفيق فذكر هذا وقال: ومنذ فارقته لم ألقَ في أسفاري إلا خيراً وظهرت عليَّ بركاته. وقد رأينا في هذا المقال التعرض لما ورد في كتابه من ذكر الصوفية وأخبارهم وكراماتهم. وقد سمَّى كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار .

تعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم

من الخلق الدال على كمال الإيمان وصحة العقيدة هي شدة التعلُّق برسول الله صلى الله عليه وسلَّم وتعظيمه وهو من خلق الصوفيَّة، وعندما زار أبو عبد الله ابن بطوطة المدينة المنوَّرة ـ على ساكنها الصلاة والسلام وصفها وصف المحبِّ المعظِّم لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: وفي عشيِّ ذلك اليوم دخلنا الحرم الشريف، وانتهينا إلى المسجد الكريم، فوقفنا بباب السلام مسلمين، وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم، واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ملصقةٌ بعمود قائم بين القبر والمنبر، عن يمين مستقبل القبلة، وأدينا حقَّ السلام على سيِّد الأولين والمرسلين، وشفيع العصاة والمذنبين، الرسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى الله عليه وسلم وشرُف وكرُم، وحُقَّ السلام على صاحبيه وضجيعيه أبي بكر الصديق وأبي حفص عمر رضي الله تعالى عنهما. ، وانصرفنا إلى رحالنا مسرورين بهذه النعمة الكبرى، مستبشرين بنيل هذه المنَّة الكبرى، حامدين الله تعالى على البلوغ إلى معاهده الشريفة، ومشاهده العظيمة المنيفة، داعين ألا يجعل هذا آخر عهدنا بها، وأن يجعلنا ممن قبلت زيارته.

أدبه رحمه الله

لم يذكر ابن بطوطة أحداً من آل البيت أو الصوفية إلا أتبع ذكره بقوله عليه السلام أو رضي الله عنه ولم يذكر أحداً من الخلفاء الأمويين أو العباسيين إلا سمَّاه أمير المؤمنين كقوله أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أو أمير المؤمنين الوليد أو أمير المؤمنين الرشيد وهذا من كمال الأدب والورع.

لبسه خرقة التصوُّف

ذكر ابن بطوطة فضلاء القدس فقال: ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى، من أهل أرز الروم، وهو من تلاميذ تاج الدين الرفاعي، صَحِبتُه ولبستُ منه خرقة التصوُّف.

حكاية أبي يعقوب يوسف

قال ابن بطوطة رحمه الله: قيل كان أبو يعقوب يوسف من الأمراء بالمغرب، فتزهَّد وترك الإمارة وصار يطوف بالبلاد، وحاله شبيه بحال الشيخ إبراهيم بن أدهم يحكى أنه دخل دمشق، فمرض بها مرضاً شديدا، وأقام مطروحاً بالأسواق، فلما بريء من مرضه، خرج إلى ظاهر دمشق، ليلتمس بستاناً ليكون حارساً له، فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين، وأقام في حراسته ستة أشهر، فلما كان في أوان الفاكهة، أتى السلطان إلى ذلك البستان، فأمر وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برُمَّان، يأكل منه السلطان، فأتاه برمانٍ فوجده حامضا، فأمره أن يأتي بغيره، ففعل ذلك فوجده أيضاً حامضا. فقال له الوكيل، أتكون في حراسة هذا البستان ستة أشهر ولا تعرف الحلو من الحامض ؟ فقال له: إنما استأجرتني على الحراسة لا على الأكل. فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك (وكان قد رأى في المنام أنه يجتمع مع أبي يعقوب يوسف وتحصل له منه فائدة) فتفرَّس فيه أنه هو، فقال له: أنت أبو يعقوب ؟ قال: نعم، فقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه، ثمَّ احتمله إلى مجلسه، فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكدِّ يمينه. وأقام عنده أياماً ثمَّ خرج من دمشق فارَّا بنفسه في أوان البرد الشديد.

حكاية ابن تيمية الأصغر

كان ابن بطوطة رحمه الله معاصرا لابن تيمية الأصغر وسمع كلامه المُنكر في إثبات الجهة لله سبحانه وتعالى في جامع دمشق وذكر ما كان بينه وبين المالكية والشافعية من خلاف. قال ابن بطوطة:وكان في دمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية، يتكلَّم في الفنون إلا أن في عقله شيئا، وكان أهل دمشق يعظِّمونه أشدَّ التعظيم، ويعظُهم على المنبر، وتكلَّم مرَّةً بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر، فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء، بمجلس الملك الناصر فقال له قاضي القضاة: ما تقول ؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله، فأمر الملك الناصر بسجنه، فسُجن أعواما، ثمَّ إنَّ أمَّه تعرَّضت للملك الناصر وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه ذلك ثانيةً وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظُ الناس، على منبر الجامع ويُذكِّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجةً من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلَّم به، فقامت العامَّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال، حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها، واحتملوه إلى دار عزالدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه، وعزَّره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقداً شرعيَّا على ابن تيمية بأمور منكرة: منها أن المطلِّق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحد ة، ومنها أنَّ المُسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف ـ زاده الله طيباً ـ لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث بالعقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة فسجن بها حتى مات. وقد ردَّ محمد بهجت البيطار على كلام ابن بطوطة وأنكر أن يكون رأى ابن تيمية أو سمع منه هذا الكلام ولكنَّ ابن بطوطة رجلٌ رحالة جوَّاب آفاق يحكي ما رآه وما سمعه فقط، وليس هو بصاحب خلاف ديني ولا جدال.

قصة الباز الأشهب

قال في حديثه عن دمشق: وفيها قبر العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب وسبب تسميته بذلك أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة، وقيل إنَّ كلَّ واحد منهما كان يسلِّم على صاحبه صباحاً ومساءً فيردُّ علي الآخر، وكان للشيخ أحمد الرفاعي نُخيلات عند زاويته، فلمَّا كان في بعض السنين جذَّها على عادته وترك عِذقاً منها وقال: هذا لأخي شعيب.

فحجَّ الشيخ أبو مدين تلك السنة، واجتمعا بالموقف الكريم بعرفة، ومع الشيخ أحمد خادمه أرسلان فتفاوضا الكلام، وحكي الشيخ أحمد حكاية العذق، فقال له أرسلان: عن إذنك آتيك به ؟ فأذن له، فذهب من حينه وأتاه به، ووضعه بين أيديهما، فأخبر أهلُ الزاوية، أنهم رأوا عشيَّةَ يوم عرفة، بازاً أشهب انقض على تلك النخلة، فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء.

حكاية مباركة

الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوَّة وهي أعظم إذا رؤي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله: رأيت أيام مجاورتي بمكَّة شرَّفها الله ـ وأنا إذ ذاك ساكنٌ بالمدرسة المظفَّرية ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو قاعدٌ بمجلس التدريس من المدرسة المذكورة، بجانب الشباك الذي تشاهد منه الكعبة، والناس يبايعونه، فكنت أرى الشيخ أبا عبد الله محمد المدعو بخليل غمام المالكي بالحرم الشريف، قد دخل وقعد القرفصاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، وقال له: أبايعك على كذا وكذا، وعدَّد أشياء منها: وألا أرد مسكيناً خائبا، وكان هذا آخر كلامه. فكنت أعجب من قوله وأقول في نفسي: كيف يقول هذا ويقدر عليه مع كثرة فقراء مكَّة والقادمين إليها من فقراء المسلمين، فلما صليت الصبح غدوتُ عليه وأعلمته برؤياي، فسُرَّ بها وبكى، وما رأيته بعد هذا يردُّ سائلاً خائبا.

حكاية في الزهد

قال أبو عبد الله رحمه الله: مررتُ يوما بمدينة شيراز، فرأيت بها مسجداً مُتقن البناء جميل الفرش، وفيه مصاحف موجودة في خرائط حرير موضوعة فوق كرسي، وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مفتوح، وهناك شيخ جميل الهيئة واللباس وبين يديه مصحف يقرأ فيه، فسلَّمت عليه وجلست إليه، فسألني عن مقدمي فأخبرته، وسألته عن شأن هذا المسجد، فأخبرني أنه هو الذي عمَّره وأوقف عليه أوقافاً كثيرة للقراء وسواهم، وأن تلك الزاوية التي جلست إليه فيها هي موضع قبره إن قضى الله موته بتلك المدينـة، ثمَّ رفع بساطاً كان تحته، والقبر مغطى وعليه ألواح خشب، وأراني صندوقاً كان بإزائه فقال: في هذا الصندوق كفني وحنوطـي، ودراهـم كنت استأجرتُ بها نفسي في حفر بئر لرجل صالح، فدفع لـي هذه الدراهم، ة فتركتـها لتكون نفقة مواراتي، وما فضل منها يتصدَّق به.

السخاء في زوايا الصوفية

كانت زوايا الصوفية وما زالت في كثير من الأنحاء ملاذا يلجأ إليه الغريب والمحتاج ولا يسألونه من يكون ولا من أين أتى. قال أبو عبد الله: وصلنا في عشية اليوم الثاني إلى كازرون، فقصدنا زاوية الشيخ أبي إسحاق نفع الله به،،بتنا بها تلك الليلة، ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائنا من كان من الهريسة المصنوعة من اللحم والقمح، والسمن وتؤكل بالرقاق، ولا يتركون الوارد عليه في السفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة أيام، ويعرض بالشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء الملازمين للزاوية، وهم يزيدون على مائة، منهم المتزوِّجون ومنهم العزَّاب المتجرِّدون، فيختمون القرآن ويذكرون الذكر، ويدعون له عند ضريح الشيخ أبي إسحاق، فتقضى حاجته بإذن الله.

قصة السيد أبي الحسن الشاذلي

قال أبوعبد الله: اخبرني ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي رضي الله عنه أن أبا الحسن الشاذليرضي الله عنه كان يحجُّ في كلِّ مرة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف ويعود على الدرب الكبير إلى بلده، فللما كان في بعض السنين، وهي آخر سنة حجَّ فيها، قال لخادمه استصحب فأساً وقفَّة وحنوطا، وما يجهَّز به الميِّت، فقال له الخادم: ولماذا يا سيِّدي قال له: في حميثرا سوف ترى، وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماءٍ زعاق، وهي كثيرة الضباع، فلما بلغا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن الشاذلي وصلى ركعتين، وقبضه الله عزَّ وجلَّ في آخر ركعة من صلاته ودفن هناك وقد زرت قبره رضي الله عنه. ثمَّ تحدَّث عن أوراد سيِّدي أبي الحسن الشاذلي وذكر حزب البحر بتمامه في كتابه وهو لا يختلف في شيء عن حزب البحر الموجود في أوراد الطريقة البرهانية.

ذكره لمقامات مصر ودمشق

قال أبو محمد رحمه الله:ولمصر المزارات العظيمة الشأن في التبرُّك بها، وقد جاء في فضلها خبر أخرجه القرطبي وغيره أنها من جملة الجبل المقطَّم، الذي وعد الله أن يكون روضةً من رياض الجنة، ومن المزارات الشريفة المشهد المقدَّس العظيم الشان، حيث رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما، وعليه رباط ضخم عجيب البناء، على أبواب حلق الفضة وصحائفها، وهو موفَى الحق من الإجلال والتعظيم، ومنها تربة السيِّدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد بن علي رضوان الله عليهم، وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة وهذه التربة أنيقة البناء، مشرفة الضياء عليها رباطٌ مقصود. ومنها تربة الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وعليها رباط كبير وبها جراية ضخمة، وبها القبَّة المشهورة البديعة الإتقان، العجيبة البنيان، المتناهية الإحكام، المفرطة السمو.

ثمَّ وصف المشاهد بدمشـق فقال: وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجـد والزوايـا والمزارات والمشاهد وذكر مشاهد الصحابة فقال: وبغربــيِّ دمشق جبَّانة تعرف بقبور الشهداء فيها قبر أبي الدرداء وزوجة أبي الدرداء، وقبر فضالة بن عبيـد، وقبر واثلة بن الأسفع وقبر سهل بن حنظلة. من الذين بايعوا تحت الشجرة. وقد ذكر مشاهد كثيـر من الصحابة والأولياء في دمشق ووصف جامع دمشـق المعروف بجامع بني أمية وصفاً دقيقا.

غيرته على الدين

قال عند زيارته للسلطان محمد بن آيدين سلطان بركي: وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخٌ على رأسه عمامةٌ لها ذؤابة فسلَّم وقام له القاضي والفقيه وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقرَّاء أسفل منه فقلت للفقيه: من هذا الشيخ ؟ فضحك وسكت، ثمَّ أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهوديٌّ طبيب، وكلُّنا محتاجٌ إليه، فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له، فأخذني ما أخذني من الامتعاض، فقلت لليهودي: يا ملعون يا بن الملعون كيف تجلس فوق قرَّاء القرآن وأنت يهوديٌّ ؟ وشتمتُه ورفعتُ صوتي. فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي، فأخبره الفقيه به، وغضب اليهوديُّ فخرج من المجلس في أسوأ حال، ولما انصرفنا قال لي الفقيه: أحسنتَ بارك الله فيك، إنَّ أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بهذا ولقد عرَّفته بنفسه. والعجيب في الأمر أنَّ السلطان سكت وقد انتهر ابن بطوطة الرجل في حضرته وإن كان ابن بطوطة قد ذكر هذا السلطان وذكر أنه من الصلحاء.

طرائف

وقال عندما تحدَّث عن سـواحل مدينة جبلة التي بها قبر سيِّدي إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه: وأكثـر أهل هذه السواحل من الطائفة الباطنية، وهم لا يصلون ولا يتطهَّرون ولا يصـومون، وكان الملك الظاهر ألزمهم ببناء المساجد بقراهم، فبنوا بكلِّ قريةٍ مسجدا بعيداً عن العمارة، لا يدخلونه ولا يعمرونه، وربما أوت إليه مواشيهم ودوابُّهم، وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد، ويؤذن للصـلاة، فيقولون له: لآ تنهق علفك يأتيك.

وقال عند حديثه عن أحد سلاطين الأتراك وهو السلطان طرمشيرين: أنه حضرت صلاة العصر يوما ولم يحضر، فجاء أحد غلمانه بسجادة ووضعها قُبالة المحراب حيث جرت عادتُه أن يُصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي: إن مولانا يريد ان تنتظره بالصلاة قليلا ريثما يتوضَّأ،فقال له الإمام غاضباً: الصلاة لله أم لطرمشيرين ؟ ثمَّ أمر المؤذن بإقامة الصلاة، وجاء السلطان وقد صلَّى الإمام ركعتين فجاء وصلَّى معه ركعتين ثمَّ قضى ما فاته، وقام إلى الإمام يصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب والإمام إلى جانبه وأنا إلى جانب الإمام فقال لي: إذا ذهبتَ إلى بلادك فحدّث أنَّ فقيراً من فقراء الأعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك.

إن الأخبار التي وردت في تحفة النظَّار قد يعترض عليها البعض وقد يعتبرون ذكربعض الكرامات من المبالغات ولكنَّ المؤرخين المعروفين لم يكذِّبوا ابن بطوطة وقارنوا بين الأخبار التي ذكرها والتي ذكرها المؤرخون المعاصـرون له وتحققوا من صدقها، كان أبو عبد الله بن بطوطة رجلا أميناً صادقا في دينه، صادقاً في أقواله حتى لقِّبه بعض المؤرخين بالرحَّالة الأمين.

هادية الشلالي ، هدى عبد الماج