رحيق  أزهاري

فضل التوبة

بالحقائق ناطقين

رحيق  أزهاري

 

بين الشريعة والحقيقة

ربما فهم بعض الناس أن من يلجأ إلى الباطن، أو إلى الحقيقة بعيداً عن الشريعة، أى عن الظاهر. وقد ثار جماعة الصوفية على من يخالف الشريعة، فهى نور طريقهم الأول لبلوغهم المراتب فبدونها لا يبلغون من أمرهم شيئاً،ذلك أن الشريعة فـي أبسط صورها هى:أمر للشخص بالتزام العبودية، بحيث لا يُرى حيث نُهى، ولا يُفقد حيث أُمر، لأن الشريعة هى ما شرّعه الله سبحانه وتعالى من الأحكام أمراً ونهياً، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الحقيقة فهى مشاهدة الربوبية فـي جميع الكائنات، بحيث أنه يرى الخلق بالحق على معنى القيام به. ومن ذلك مراقبته لله تعالى فـي عبادته بالتحقق بمقام الإحسان فـي قول النبي صلى الله عليه وسلم(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)،فالشريعة: ظاهر السلوك الأخلاقى فـي العبادة. والحقيقة: دوام النظر فـي صحة هذا السلوك لمالك الملك،فلا تفريق بين الشريعة والحقيقة، فالشريعة ظاهر الحقيقة، والحقيقة باطن الشريعة، وهما متلازمان لا يتم أحدهما إلا بالآخر. فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة غير مقبولة، وكل حقيقة غير مؤيدة بالشريعة غير حاصلة، فمن لا حقيقة له، لا شريعة له، والجمع بينهما هو الجمع بين ظاهر سلوك الإنسان، بمعنى أخلاقه، ومعاملاته، وعبادته، وبين باطنه. فكيف يصح الظاهر إن لم يؤيد بباطن نقى، وكيف يطلب نقاء هذا الباطن إن لم يتم مجاهدته من جولات النفس والهوى وتصحيح مستمر لهما، وهناك من القصص المشهورة بين الفقهاء والصوفية، والتى تدل فـي أحد جوانبها على علاقة الشريعة بالحقيقة والفهم بينهما. فقد روى:أن الإمام أحمد بن حنبل كان عند الشافعى يوماً، فمر شيبان الراعى الصوفى، فقال الإمام أحمد: أريد أن أنبه هذا على نقصان علمه، ليشتغل بتحصيل العلوم. فقال الشافعى: لا تفعل. فلم يقتنع الإمام أحمد، وقال لشيبان:ما تقل فيمن نسى صلاة من خمس صلوات فـي اليوم والليلة، ولا يدرى أى صلاة نسيها، ما الواجب عليه يا شيبان؟ فقال شيبان:يا أحمد هذا قلب غفل عن ذكر الله، فالواجب أن يُؤدب حتى لا يغفل عن مولاه، فغُشى على الإمام أحمد، فلما أفاق، قال الشافعى:ألم أقل لك لا تحرِّك هذا.

رانيا الشيخ

 

فضل التوبة

كما تمحو الشمس سواد الليل وتجعل آية النهار مبصرة وتضئ الدنيا وكما يجلي القمر ظلمة الليل ويشيع ضوءه في الكون فكذلك التوبة تمحو السيئات وتنير القلوب وترشد البصائر وتهدي الضمائر إلى طاعة الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وكما أن من خواص الماء مع الصابون إزالة الأوساخ وتطهير الأثواب، فكذلك التوبة مع الاستغفار تزيل المعاصي وتأتي على الآثام فتأكلها كما تأكل النار الحطب، وتطهر القلوب وتغسلها من الذنوب، قال الله تعالى {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} آية 25 سورة الشورى.

وقال صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له، ثم تلا قوله تعالى {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} آية 110 سورة النساء. وقالت العلماء: التوبة نوعان، توبة الإنابة، وتوبة الاستجابة، فتوبة الإنابة أن تخاف الله عزّوجل من أجل قدرته عليك لأنه تعالى إن شاء عذبك وقت ارتكابك المعصية حتى تتركها خوفاً من عذابه، وتوبة الاستجابة هي أن تستحي من الله لقربه منك وتخشاه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك.

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مكتوب حول العرش قبل أن يخلق الله الخلق بأربعة آلاف عام {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} آية 28 سورة طه.، والتوبة في لغة العرب الرجوع عن ما هو مذموم إلى ما هو محمود وفي الشرع الندم على المعصية ورجوع العبد إلى الله عزّوجل مع دوام الندم والاستغفار لأن العاصي يعتبر هارباً من ربه وأعظم أركان التوبة الندم قال عليه الصلاة والسلام (الندم توبة) وأعلى مراتب التوبة وأشرفها التوبة النصوح لأنها من أعمال السرائر والضمائر وهي تنزيه القلب والضمير عن المعاصي فيكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال ولا تمرُّ لها ذكرى في خاطره أصلاً قال تعالى {يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} آية 8 سورة التحريم، والتوبة النصوح هي أن يكون الإنسان نادماً على ما كان ومضى منه مصمماً على ألا يعود إلى المعصية أبداً وأن يتجنبها ويتخذ طريق الله ويبتعد عن طريق الشيطان وتحصل بانتباه القلب من غفلته فيفيق العبد على معاصيه فيحترق قلبه ويندم على ارتكابه الآثام ومخالفته وعصيانه للديان فيثوب إلى رشده ويهرب من ذنوبه طارقاً باب الرحمة الذي لا يغلق في وجه التائبين متضرعاً إليه طالباً رضوانه راضياً بعبوديته مطيعاً لأوامره ونواهيه التي أمر بها على لسان نبيه الكريم الذي أرسله هدى ورحمة للعالمين {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} آية 186 سورة البقرة.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أراد الله أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعاً والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فأقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر ذنوبي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يُصيبني إلا ما كتبت لي، وأرضني بما قسمت لي، فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا قد غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني). والتوبة والاستغفار من فضائل الإيمان ومن صفات المؤمنين العابدين الراكعين الذاكرين الله بكرةً وأصيلا.

ومما جاء في فضل التوبة والرجوع إلى الله والندم على المعصية قول الشاعر:

يــا ويلنـا من موقف بــابه         أخــوف من أن يعـدل الحاكم

أبـارز الله بعصيــــــانه            وليـس لـي من دونه راحـم

يـا رب غفـرانك عن مذنب         أسـرف إلا أنه نــــــادم

ولقد فتح الله عزّوجل باب التوبة على مصراعيه ولم يقفله في وجه العباد ولو كانت ذنوبهم من الأرض إلى عنان السماء وملء البحار والأنهار. عن ابن عباس رضي الله عنه: أن وحشياً قاتل حمزة عم النبي عليه السلام كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إني أريد أن أسلم ولكن يمنعني من الإسلام آية نزلت عليك وهي قوله تعالى {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماv يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} آية 68،69 سورة الفرقان وإني قد فعلت هذه الثلاثة، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى {إلا من تاب وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما} آية 70 سورة الفرقان فكتب بذلك إلى وحشي، فكتـب إليه أن فـي الآية شرطاً هو العمل الصالح ولا أدري هل أقدر على العمـل الصالح أم لا؟ فنزل قول الله عزّوجل {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفـر ما دون ذلك لمن يشاء} آية 84 سورة النساء. فكتب بذلك إلى وحشـي، فكتـب إليه: أن في الآية شـرطاً فلا أدري أيشاء الله أن يغفر لي أم لا ؟ فنزل قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} آية 53 سور الزمر.

فهل بعد ذلك يتخلف عبد أذنب أو أسرف على نفسه في ارتكاب المعاصي أو أن يتخوف من ان الله لن يغفر له، لقد رغب الرؤوف الرحيم رب الناس ملك الناس إله الناس في التوبة وحث على العمل والإقبال على طاعته قال تعالى {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} آية 39 سورة المائدة.

وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عزّوجل حتى يضع عليه كنفه - أي ستره وعفوه وصفحه - فيقرره بذنوبه فيقول أي ربي أعرف، فيقول فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته).

وجاء في عيون التاريخ أن المسيح عليه السلام مرّ على قوم يبكون فقال لهم: ما يبكيكم، قالوا: نبكي على ذنوبنا، قال: أتركوها تغفر لكم. ويجب الإسراع والتعجيل بالتوبة.

قال صلى الله عليه وسلم (هلك المسوفون - والمسوف هو من يقول سوف أتوب حتى يأتيه الموت وهو حامل ذنبه). وقال علي بن أبي طالب: أني لأعجب لمن يهلك ومعه النجاة، قيل: وما هي ؟ قال: التوبة والاستغفار. وعن النبي عليه السلام قال (لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومه ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)

أحـمد عبد المالك

بالحقائق ناطقين

الله قد خلق العباد بحكمة

إذا تأملنا بعين النظر في خلق الانسان لوجدنا أن الله قد خلقه فـي أحسن تقويم وأفضل تكوين فقد خلقه الله تعالى من جسد ونفخ فيه من روح أمره وربط الروح بالجسد بعقال العقل وملأ قلبه بالنفس وماحواها وخاب فدساها. واليوم نغوص معا فـي بحر ذلك الكائن الغريب عناالأقرب لنا لنستكشف تلك التركيبة الغريبة من جسد وعقل وروح ونفس وبالتالى أصبح الانسان عالماً قائماً بذاته يتألف من هذه المقومات الأربعة بحكمة إلهية فائقة، قال الإمام على كرم الله وجهه (اتحسب أنك جرم أصغر وفيك انطوى العالم الاكبر). وقال الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى:

فالله قد خلق العباد بحكمـة          جعلت عجائب خلقه أصنافا

فالعقل يميل للذكاء ويأبى الغباء، والجسد به القوة التى تقوده للحوجاء الماسة للغذاء والملبس والمسكن أما النفس التى تحمل فـي طياتها عدة أنفس تحب المدح وتجيده ولاتميل للذم الا للغير ــ هنا لابد لنا ان نشير الى ــ وجوب وضرورة التخلص من سيطرة الانفس السبعة قال الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى:

فهو الشهيدُ على براءة قاتل          فالنفس سبعُ قتلهن مـبـاحُ

وما تبقى من التركيبات الانسانية هى الروح وهى المحك الحقيقى لإنسانية الفرد وإيمانيته فالروح تتشوق وتحتاج دوما للذكر الذى يسمو بها ونستشهد هنا بقول الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى عن الروح والعقل:

وإن أردتم نوال القصد من مِنحى          فأعقلوا العقل إن الروح تأتينى

وقال أيضا رضى الله عنه:

والله قد كتب الصيام بفضله          كى لاتضيق الروح بالأبدان

من كل هذا يتضح لنا جليا بأن المقوِّم الحقيقى للإنسان من خلال الروح فهو الذكر الذى ينير القلب ويقوى الروح وبالتالى تنعم الروح بسمو المحبة ورقة الذوق فعندها تسمو الروح بالذكر الذى يهذِّب الغريزة البشرية التى طوتها الروح البهيمية والتى إذا ماترك اليها العنان لصيرت الفرد أشبه بالحيوانية الا اذا ترقى بالذكر الذى يقلل الكثافة الجسدية ويزيد اللطافة الروحية وذلك بالتدرج الممرحل فـي درجات المحبة الكامنة فـي القلب الذى استنار بسمو الروح المستمد من كثرة الذكر وقوة مفعوله،أما فـي حالة عدم الذكر فنجد الغالب على الإنسان حبه لنفسه وبقائه ودوام وجوده وبغضه لهلاكه ونقصانه وعدمه فهذه جبلة كل حى ولكن اذا ما غمرته نفحات الذكر الذى هو غذاء للروح المتعطشة له على الدوام تترقى تلك المحبة وتزداد رفعة فيصير الفرد محبا لكل من أحسن إليه بدلا من حبه الشديد لنفسه ثم تتحول إلى محبة كل محسن من حيث أنه محسن فقط لا لطمع فـي إحسانه وهكذا حتى تصير المحبة لحبِّ كل جميل لذات الجمال لا لحظ يناله من وراء إدراك الجمال هنا تكون المحبة حقيقة واقعة لاجدال فيها فكل محبوب هو جميل عند مدرك الجمال سواء أكان جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس أو جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة. فلامحبوب بالحقيقة عند ذوى البصائر إلا الله تعالى ومن عرفه من أهل الله وأحبهم. أعزائى القراء ألا ترون أننا فـي قمة الحاجة لرنوى ظمأ ارواحنا المتعطشة لريان الذكر فهيا معا لنرتوى من بحره.

هادية محمد الشلالي