خطاب مولانا الشيخ محمد الشيخ إبراهيم لحولية سنة 2004

بسم الله الرحمن الرحيم

إخواني وأخواتي... الجمع الكريم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمدُ لله على مُوجِباتِ حمدِه والشكرُ للهِ نعملُ به بأمرِه القائل فـي مُحكمِ تنزيلِه فـي ســورة يونس {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ،الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون لَهُمُ الْبُشْرَى فـي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّه، ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} والصلاةُ والسلامُ على عبدِ الذاتِ ورسولِ الأسماءِ والصفات، صاحبِ الذاتِ المحمديَّة اللطيفةِ الأحديَّة منْ منِه انشقتِ الأسرارُ وانفلقتِ الأنوارُ وفيهِ ارتقتِ الحقائق وتنزَّلت علومُ آدمَ فأعجز الخلائق، فصلِّ اللهم به مِنهُ فيهِ عليهِ وسلَّم الذي قال وقوله الحق بغيرِ شكٍّ بروايةِ البُخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى قال: (من عادى لي وَليَّا فقد آذنتُهُ بالحربِ ومَا تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليهِ وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبَّه فإذا أحْببتُه كُنتُ سمعَهُ الذي يَسمعُ به وبَصرَه الذي يُبصرُ به ويَدَه التي يَبطِشُ بها ورِجلَه التي يَمشي بها ولَئِنْ سأَلني لأُعطينَّهُ ولئنْ استعاذني لأُعيذَنَّهُ وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فَاعلُه تردُّدي عن قَبضِ نَفسِ المُؤمن يَكرهُ الموتَ وأنا أَكرهُ مساءتَه) وقال أيضا (الدُّنيا سِجنُ المؤمنِ وجَنةُ الكافـر) (مسلم) فالأولياءُ من أمَّة الحبيبِ صلى الله عليه وسلَم يُمضون حياتهم مَطيَّةً للآخرة ويتشوَّقون إلى لقاءِ المولى تباركَ وتعالى تشوَّق الصادي إلى الماءِ والعليلِ إلى الشفاءِ ولذا يقول الإمام فخر الدين رضي الله عنه:

 قضيت  سِنيَّاً أَرتَجي ساعةَ اللِّقا�������  لِذاكَ تَعانقَنا عِنـاقَ الأحـبـَّةِ

وإنَّ من أشراطِ الإيمان، الإيمانُ الكاملُ بالقضاءِ والقَدرِ خيرِه وشرِّه، حُلوِهِ ومُرِّهِ

وعِندَ زَوالِ الحِسِّ فالْجُرحُ فَرحةٌ�������  فِذي رُتبٌ فيها اتَّساعَّ المـَداركِ

فلقد كان انتقالُ الحبيبِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أشدِّ المصائب على أصحابه رضوان الله عليهم فمِنهم من ثَبتَ وتَمسَّك بإيمانِه ومِنهم مَن تَعلَّق بالحبيبِ ولم يصدِّق عينيه، فسيِّدنا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه وهو أشدُّ الناس عريكةً وأكثرُهم فراسةً حَملَ السيفَ على كلِّ من قالَ بموتِ حبيبِه، حتى جاء الصدِّيقُ الذي كان يتحرَّق كبدُه بنار الشوق إلى حبيبِه حتَّى ولَو فرًّقت بينهم المضاجع وأوقاتُ الراحاتِ ليُعلنَ قولَ الحقِّ ويُعيدُ الناسَ إلى رُشدهم وصوابِهم وتلا عليهم قولَ الحقِّ من سورة آل عمران {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِل انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين} 144 وهنا يقول الفاروقُ رضي الله عنه: كأني أسمعُها لأول مرة. ويقف الصدِّيق رضي الله عنه ويقول (يا أيها الناسُ من كانَ يَعبدُ محمدا فإنَّ مُحمدا قد ماتَ ومن كانَ يَعبدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لايموت).

ولنا فـي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه الكرامِ رضوانُ اللهِ عليهم الأسوةُ والقدوة فـي مَصابنا الجللِ بانتقال سيِّدِنا ومولانا الإمام الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني رضي الله تعالى عنه الذي تشوَّق وأحبَّ لقاءَ اللهِ فأَحبَّ اللهُ لقاءَه، ثم تبعَهُ من أحبَّهم وأحبُّوه من أهلِ البيت إلى الرَّفيق الأعلى فكان أوَّلَ لاحقٍ به الشيخ محمد عثمان خيري ابنُ السيدة فاطمة الشاذلية أختِ مولانا الشيخ إبراهيم رضوان الله عليهما، ثم لَحِقتْ بهم الصدِّيقةُ الطَّاهرةُ الحاجة زينب أحمد عثمان زوجةُ الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني ذاتُ الأيادي البيضاءِ على كلِّ من انْتسَبَ للطريقةِ أو أتاها زائراً رضي الله عنهم ونَفعَنا اللهُ ببركَتِهم وزِيارتِهم فإنَّك قريبٌ مُجيب ياأرحم الراحمين اللهم آمين.

والطريقةُ البُرهانية الدُّسوقية الشاذلية صاحبُها وسرُّها هو سيدي إبراهيم الدسوقي أبو العينين، أبوالعونين،أبوالشرفين، أبـو السَّيفين والرمحيـن رضي الله عنـه، صاحـب الدعوة المستجابة (البيضةُ منَّا بفرخٍ والفرخُ منِّا لا يُقوَّم) صاحبُ الراية البيضاء رايةُ الشريعة السمحاء.

ولواءُ الرحمةِ فيها الإمامُ الشاذلي أبو الحسن رضي الله عنه الذي دعا لأعدائه بأن يكونوا أولياءَ كاملين لما فوَّضه اللهُ عزَّ وجلَّ فيهم ولذا قال (لايستكمل وليٌّ إلا إذا تشذَّل) صاحبُ الرايةِ الصفراءِ رايةِ العلومِ اللدنيَّة.

وشيخُ المشايخِ فيها سيدي عبد السلام بن بشيش رضي الله عنه القائل لربِّه وراجيه (اللهمَّ لا تجمعْ بنا شقيَّاً وإذا جمعتَنا به فشفِّعْنا فيهِ).

ثم جاء الابن البكر لسيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه ألا وهو الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبه البرهاني رضي الله عنه القائل:

أُكنَّى بفَخرِ الدين بين أحبَّتي        ولي في سماواتِ الغيوبِ مناقبُ

الذي أعاد الذكر بعد فواتٍ فأحيا اللهُ به الأرضَ بعد مواتٍ فأحيا الطريقَ وأبانَ معالمَه واضحةَ جليَّة، وترك ميراثاَ من العِلم أحياهُ بعد أن بَلغ عتيَّا، ثم أرسلَ إلينا فَرائدَه البرزخيَّة نَطربُ لسماعِها ونَسْكرُ من رَشفِ سُلافها، دَحضَ الباطلَ بحُجَّته ونصرَ الحقَّ بدعوتِه، هادياً إلى صراطِ اللهِ المستقيم بالتمسُّك بكتابِ الله العظيمِ وبسنَّة نبيِّه الكريم ثم اختار جِوار ربِّه مطمئناً لوصيِّه وفَلذةِ كَبِده.

ووصَّيتُ إبراهيمَ أنِّي اصطفيتُه �������  وكلُّ نجاةٍ كَتمُ سِرِّ النـجـيَّـةِ

فكان رضي الله عنه خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ حَملَ الرايةَ ورَفعَ القواعدَ وَوَضعَ الأحبابَ تحتَ جَناحيهِ وأَرشدَّهم بلسانيهِ ووقاهَمْ بيمينيهِ.

في يَمينيهِ قوَّتي ومِراسـي         بلِسانيهِ عَــالمٌ وعَليــمُ

في جَناحيهِ رَحمتي ولدَيـهِ        عِوضَ الوَالدينِ يَلقى اللطيمُ

وضع قواعد الإرشاد فـي مَحلِّها من العمل بها، وكان الأُسوةَ والقدوةَ فقد طافَ الأرضِ مَشرقا ومَغربا ليَروي الحِنطة التي بذرَها سيدي فخر الدين فـي الشرق والغرب وكان حظُّ المريدين من وقتِه أكثرَ من حظِّ أهلِ بيته، رفعَ القواعدَ من ظاهرِ الأمرِ وباطنِه، فقد شيَّد أكبرَ المساجدِ والساحات فـي السودان وهي تربو على العشراتِ من المساجدِ والمئاتِ من الزوايا ودورِ العبادة فـي إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا وكندا واستراليا.

كما أشرف على انتشار علوم السادة الصوفية بالمواظبةِ على طباعةِ كتبِ الأوراد وكتابي تَبرئةِ الذمَّة وانتصار أولياءِ الرحمن على أولياء الشيطان وديواني بطائن الأسرار وابتسام المدامع ، كما أَعدَّ الدارسينَ لعلومِ الفِقهِ والتصوَّفِ وانتشر بهم فـي الساحات والمساجد لإرشاد الناس إلى إحياءِ السُّنَن النبوية التي قد أُميتت ومقاومةِ الفئاتِ التي بالدين قد عاثت.

ثم انعطف إلى إرشاد من سمَّاهم الشاردين إلى الله وقال: ليس لنا إلا ما وضعه سيدي فخر الدين من أساس فـي الإرشاد من ترك الكلام فـي المناقب والإقبال على الذكرِ والصلاةِ على الحبيبِ المصطفي صلى الله عليه وسلَّم وقال: إنَّ واجبات المرشد فـي الطريق أنْ يُعلِّم أخَاهُ الذي يخدمُه بعد الفرائض:

v ذكرَ القلب بعد ذكرِ اللسانِ حتى يَحصلَ له الاطمئنان.

v الإنفاق فـي سبيلِ اللهِ من مالِه ووقتِه بكلِّ رخيصٍ وغال.

v دوامَ المحافظةِ على المُراقبة فـي كلِّ الأحوال.

وعلًّمَنا أنَّ المشكلاتِ اليوميَّة ما هي إلا نقص فـي الأوراد والعبادات فبدلا من اشتغال المريد بأمورِه الخاصَّةِ عليه الاشتغالُ بأوراده فكما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ربِّ العزة جل وعلا (من شَغلَه ذكري عنْ مسألتي أَعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين) أخرجه البخاري عن سيدنا عمر رضي الله عنه.

فكـنْ يا مُريـدي للكـرامِ مـُقلـِّـدا����� �  فليـسَ أمان فـي جـناحِ البَعوضةِ

فإنْ جنحتْ للسَّلمِ فاجنـحْ لسَلمـِهـا         وإنْ جَمحتْ فالذكرُ عينُ الحمـايـةِ

وقد قال سيدي فخر الدين رضي الله عنه: إنَّ الجهاد فـي اللهِ هو الجهادُ الأكبر فالمُجاهد فـي سبيل الله وهو الجِهادُ الأصغرُ يَحتاجُ إلى درعٍ يَحميهِ وسيفٍ يَضربُ به وحِصانٍ يَمتطيهِ وقد أُعطينا بفضلِ اللهِ الإذنَ الأعلى بالحزبِ السَّيفي والقِدْحِ المُعَلَّى بذكر الاسمِ الله فأين خيلُكم وهي هِممُكم وقد قال الحبيب المصطفى وكان سيِّدُنا سلمانُ الفارسي يجلس بجوارِه فضرب على فَخِذهِ وقال (والذي نفسي بيده لو كانَ الإيمانُ مَنوطاَ بالثُّريا لنالَهُ هؤلاء) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما أرجوا ألا تكونوا كمن قيل فيهم:

أيا هممٌ كلَّت عنِ السير في الضُّحى��       يَخيبُ بها من يَرتضـي بـرقادِكِ

كما علًّمنا أنَّ قراءةَ الأورادِ خيرٌ من القيلِ والقال وكثرةِ السؤال فإنَّ كثرةَ السؤال قد أهلكتِ الأممَ من قبلِنا كما قال الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلَّم فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أنه سمعَ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فاجْتَنِبُوهُ، وَما أمَرْتُكُمْ بِهِ فافْعَلُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ فإنَّما أهْلَكَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسائِلِهِمْ وَاخْتِلافهُمْ على أنْبِيائِهِمْ).

وماغَيري بدُنياكُمْ عليمٌ       وماقُمتُمْ بأُخراكُم مَقاَمي

ومن هذا الحديث نفهم أنَّ على الأحباب السعيُ الدائم فـي إنجازِ ما كُلِّفوا به من العملِ وليس عليهمْ إدراك النَّجاح لأنه بيدِ الله جل وعلا، وألاَّ يُكثِروا من الاستفسار فـي المسألة الواحدة لأنَّه يُضيِّق عليهم ويُصعِّب مَهامَهم وهو دأبُ بني إسرائيل فـي أمرِ البَقرة فـي أوائلِ سُورِ القرآن. كما أنَّ القيلَ والقالَ هو دأبُ خاوي القلبِ من الذكرِ، وقد تعلَّمنا من مشايخِنا أنَّ الفرقَ بين التصديقِ والتكذيبِ هو ما تراهُ بعينِك لاما تَسمعُه بأُذْنِكَ كما قال سيدي فخر الدين رضي الله عنه:

وأَلسُنُ أهلِ القيلِ والقــالِ إنَّما ������     تُكَبُّ على النِّيرانِّ بئسَ الحَصائد

أمَّا بالنسبةِ للخدمة فـي الطريقةِ فمن كُلِّفَ بشيء أُعِينَ عليه، والخِدمةِ تكليفٌ وليستْ تشريفا، وعلى المُكلَّفِ أنْ يَخدِمَ إخوانَه لا أنْ يتمَشيخَ عليهم فإنَّ للطريقةِ شيخاً واحداً دائما وأبدا لايُعجِزُه خدمةُ أبنائه بنفسِه وإنَّما أرادَ إشراكَنا فـي الخير(فالدالُّ على الخيرِ كفاعلِه) والــتسلُّط على الإخوانِ لم يكُنْ أبداً من شيمِ مَشايخِنا الكرام.

طَريقي فـي كلِّ الطرائقِ مأمنٌ �������    وما عرفتْ ترهيبَ صَيدٍ بصائدِ

ونود أن نقول إنَّ استبدالَ العملِ بالأعذارِ أمرٌ غيرُ مقبولٍ لأنَّه من بحثَ عن عذرٍ وجدَ ألفَ عذرٍ ولكنَّ العمل فـي الطريقِ يَحتاجُ إلى التَّفاني وأنْ يكونَ المريدُ كألفٍ وصدق سيدي أبو الحسن الشاذلي حين قال (ربَّ مريد كألف ورب ألف كهُفٍّ).

والباب مفتوحٌ للجميع للخدمة وليس لدينا بِطانةٌ أوحجابٌ تَمنع واحداً وتُدخلُ آخرَ ولسنا إلا أُذْنَ خيرٍ كما كانَ أسلافُنا الكرامُ، تربطُنا بإخواننا عَلاقةُ الحبِّ المَمزوجةِ بطاعةِ الأمرِ للهِ والرسول:

قِوامُ طريقِ القومِ حبٌّ وطاعةٌّ � ������� وكلُّ مقامٍ قامَ بالاستقامةِ

وقد قال سيدي الإمامُ جعفرُ الصادق رضي الله عنه (إنَّ أثقلَ الإخوانِ على قلبي من يتكلَّفونَ لي فأتحفَّظ منهم وإنَّ أحبَّ الإخوانِ من أكونُ معَهم كما أكونُ معَ نفسي) والعَلاقة فـي الزياراتِ نظَّمها المولى تبارك وتعالى فـي سورة الحجرات فلننظر إلى ماجاء فـي الشرع الشريف، ليس هذا حَجْراً على الأحبابِ ولكنْ لتنظيمِ الوقتِ وعدمِ ضَياعِه فـي الأُنسِ بالناسِ وكما قال سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه (الائتناسُ بالناسِ علامةُ الإفلاس).

أمَّا عن حلقاتِ العلمِ والتدارسِ فإنَّ الصفاء أهمُّ من الجلوس للتدارس فإنَّ التشاحنَ لايولِّد إلا التباغضَ وهذا عكس قضية لما قاله سيدي فخر الدين رضي الله عنه:

لِيجمَعَكمْ مكانٌ فيه صَفوٌ ������� ��� وإلاَّ عَنْ تلاقيكم أَفلتُ

كما أنَّ جَلساتِ التَّدارُسِ ليستْ لممارسةِ القولِ بالرأيِ والتعنُّت فـي قَبولِ آراءِ الآخرين فذلك بابٌ للهوى وتنميةِ الأَنْفُسِ بدلا من مُحاربتِها وقد قال سيِّدُنا عبد الله بن عباس حبرُ الأمة رضي الله عنه (من قال فـي القرآنِ برأيه فأصابَ فقد أخطا).

ونرى أنَّ اتَّخاذَ مَنهجِ سيدي فخرِ الدين فـي مجالسِ العلمِ هوالحلُّ الأوحدُ لِما أشكلَ على المُتدارِسينَ ولدينا سِفْراهُ الجليلان تبرئةُ الذِّمَّة فـي نُصح الأمَّة وانتصارُ أولياءِ الرحمنِ على أولياءِ الشيطان وكذلك سلسلةُ علِّموا عنِّي مُعِيناً كَافياً لمن أرادَ التعلُّم.

وليس مساغا من لَدنْ أهلِ مِنَّتي �������  تَحوُّلُهم عن مائِها مِن عُيونِها

ويقول أيضا:

فلِي علومٌ نضيدٌ طَلعُهـا كرمـاً��   وحدُّها لايُناهـى في عُبودَتنـا

وإنَّها عِنــدكمْ فيكـــمْ مُـعتَّقةُ       فِإنَّ نضَحنْا بها كُونوا سَـريرتَنا

كما أنه من الأساسيات لمجالس العلــم التفـقُّه فـي العبادات التي لايَصـــِحُّ الطريقٌ بدونِها ونعوذُ باللهِ من شرِّ التفسُّق والتزندُّق، ولقد كان الإمام فخر الدين يَحضُرُ دروسَ الفِقهِ ويُواظبُ عليها كطالبِ عِلمٍ بالرغم من كَونِه من أعلمِ عُلماءِ عَصرِه تشريعاً وتًحقيقا.

ثم نأتي إلى الودِّ والتآلفِ والتَّزاورِ والتكاتفِ والتَّصافي وقد قال الله تعالى فـي مُحكمِ التنزيل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْم عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًامِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالمون }.

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَحاسَدُوا، وَلا تَناجَشُوا، وَلا تَباغَضُوا، ولاَ تَدَابَرُوا، ولا يَبْغِ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْواناً، المُسلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا ـ ويشيرِ إلى صدره ثلاثَ مرات ـ بِحَسْبِ امْرىءٍ مِنَ الشَّرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ ـ صحيح مسلم).

والتواصل والتراحم لا نَقصِدُ بهِ أبناءَ الطريقةِ البُرهانيةِ بعضُهم البعض فقط ولكن أيضاً أبناءَ العمومة من الطرقِ الصُّوفية فـي كلِّ أنحاء العالم فإنَّ حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجمعُنا ويَوحِّد القلوب مَهَما اخْتلفتِ المَشاربُ ويقولُ الإمامُ البوصيري رضي الله عنه:

وكلُّهُم مِن رســولِ اللـهِ مُلتمِسٌ        غَرفاً من البحرِ أو رَشفاً من الدِّيمِ

وفي هذا يقول سيِّدي فخر الدين رضي الله عنه:

أيـنَ التَّراحـمُ يابَنــيَّ فإنـَّـهُ�������  عَـذبٌ صَفيٌّ من شَرابِ الكُمَّلِ

وحذَّرنا من القطيعةِ والتجافي وبيَّن أسبابها بقوله:

لاتركُنــوا للظَّاـالمينَ فإنَّهـم       مـَزجٌ مـن القُطَّاعِ واللــُوَّامِ

عِفُّوا اللسانَ عنِ المحارمِ إنَّ ذا      هــو مـوردُ الهَمـّازِ والنَّمَّامِ

ثم إلى هذا التساؤلِ الذي يَودُّ كل منَّا أن يَطرحَه على نفسِه:

أيانارُ نوري فـي قلوبِ أحبَّتي������ ترى أينَ من يُزكيك أين زكاتُكِ

إخواني أخواتي..

تمر منطقتنا العربية والإفريقية بمرحلة بالغةَ الدقة والتعقيد، تواجه فيه المخططات الأجنبية التى تستهدف هويتها وإرثها الحضارى فضلاً عن المصالح الاقتصادية، والسودان بموقعه الجغرافى المتميز كجسرٍ يربط بين القارة السمراء والعالم العربى، وبما حباه الله من ثروات طبيعية هائلة، قد وجد نفسه فـي خِضَم صراع تلك المصالح الدولية فـي المنطقة.

وإننا ندرك بان المرحلة المقبلة تتطلب على المستوى القطرى والإقليمي وحدةً للرؤى وتخطيطاً استراتيجياً متقناً ومنهجاً علمياً، إلا أن أى تخطيط لمواجهـة تحديات المرحلة لـن يكتب لـه النجاح إن لم يستند على البناء الأخلاقى للأفراد الذين يشكلون نواة المجتمع، وقد تحدث مولانا الإمام الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى رضى الله عنه عن هذا الموضوع عدة مرات حيث أشار إلى أن بناء الفرد المسلم وتسليحه بسلاح الإيمان، وتزكية نفسه وتربيتها وصبغها بالقيم النبيلة هو الأساس لبناء المواطن المسلم الصالح الذي سيصبح فيما بعد الركيزة الأساسية للنهضة الإسلامية الشاملة، ويشكل الوحدة الراسخة المتماسكة المتزنة داخل الجماعة التي نستطيع من خلالها مواجهة التحديات التى تواجه الأمة.

إخواني أخواتي..

كما تعلمون فإن التصوف الإسلامى يجسد الإسلام الصحيح الذى يقوم على المحبة والتعاطف والمودة والتراحم بين الناس ويرتكز على إصلاح القلوب وإعمارها بذكر الله والصلاة على النبى، ولعل انتشار الطريقة البرهانية والقبول الشعبى لمنهج سيدى إبراهيم رضى الله عنه فـي معظم دول العالم بتباينها واختلاف عقائدها وثقافاتها وبيئتها.... لمؤشر للدور المهم للطرق الصوفية فـي استراتيجيات المرحلة المقبلة.

إخواني أخواتي..

إن التصوف يشكل التيار الشعبى لغالب شعب وادى النيل، وان السلوك الصوفى الذى يقوم على المحبة ومودة آل البيت هو السائد فـي شمال الوادى وجنوبه، وان التحام هذا التيار الشعبى عبر وحدة وادى النيل لن يشكل قوة سياسية فحسب وإنما يشكل أيضاً قوة روحية هائلة يفتقدها العالم الإسلامى اليوم، فضلاً عن أن ارتكاز التكتل الإقليمي لوادى النيل على قاعدة شعبية تقوم على السلوك الصوفى بكل ما يحمله التصوف الإسلامى من معان، يعنى تشكيل اللبنة الأولى لمواجهة تحديات العصر بل والعبور فوق ذلك نحو التأسيس لنهضة إسلامية شاملة تؤسس لبناء عالم تسوده قيم الإنسانية والمحبة والعدل والخير والإحسان.

وقد ظل سيدى الإمام فخرالدين إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى يتحدث عن أهمية وحدة وادى النيل، وكان كثيراً ما يتحدث فـي دروسه عن حتمية وحدة مصر والسودان لأنها قد خُتِم عليها فـي الحضرة النبوية الشريفة، وقد سبق أن رفض عرضاً تقدم به الإنجليز إبان حكمهم للسودان، بان يؤسس مجلساً صوفياً بالسودان يكون هو رئيسـاً لـه، حيث كان رضى الله عنه يرى أن وجود مجلسين صوفيين بكل من السودان ومصر يجسد لمبدأ الانفصال، وقد كان موقفه ذلك سببا فـي قرار المجلس الأعلـى للطرق الصوفية بمصـر فـي 3/3/1955 بتعيينه وكيلاً عاماً له بالسودان والأقطار الإسلامية المجاورة.

وجاء من بعده سيدى الإمام الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى داعياً لقيام وحدة وادى النيل على أسس علمية لتكون نواة لوحدة عربية وسنداً مهماً لبناء مستقبل الأمة، واتخذ العديد من الخطوات المهمة فـي هذا الصدد.

إخواني أخواتي..

إن الاستراتيجيات الجديدة التى وُضِعت لحكم العالم فـي القرن الواحد والعشرين تستند على تعزيز دور منظمات المجتمع المدني وإضعاف دور الدولة، وعلى هذا الأساس تمت صياغة الاتفاقات والخطط والبرامج، ولعله من المفيد ونحن نتحدث عن بناء المستقبل أن نشير إلى دعوة سيدى الإمام الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى بضرورة تقاسم الأدوار فـي هذه المرحلة بين (الطرق الصوفية) باعتبارها أهم منظمات المجتمع المدنى فـي العالم الإسلامى، و(الدولة) بحيث تقوم الطرق الصوفية بالتصدى للجانب الأساسى للحوار الحضارى بين الإسلام وشعوب العالم وعمليات التنمية الأخلاقية وبناء الأفراد الممارسين للدين قولاً وعملاً، فيما تقوم الدولة بمؤسساتها وأحزابها وأجهزتها (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) بعمليات التنمية العقليـة والبناء والتعمير، ليشكلا معاً الوطـن والمواطن الصالح اللذان يستطيعان التعامل مع متطلبات العصر، ولعله قد آن الأوان لأن ندرك أهمية تقاسم الأدوار بين الطرق الصوفية والدولة باعتبار أن الطرق الصوفية تشكل أهم منظمات المجتمع المدنى التى تمثل غالب أهل السودان ومصر وتحمل قيم مجتمعنا وارثه وحضارته، وتبشر بالفكر الصوفى الإسلامى الذى يجسد الدواء والبلسم لداء العصر، وهى بذلك تستطيع أن تسد الثغرة التى تعمل المخططات الأجنبية للنفاذ من خلالها.

ومن هذا المنظور وإدراكاً للمخاطر التى تواجه بلادنا فإننا نبارك أى خطوات للتكامل والتوحد بين مصر والسودان ونرجو أن ينظر الجميع لوحدة وادى النيل على أنها عمل استراتيجي بالغ الأهمية يجسد الخيار الوحيد لمواجهة التحديات الجسيمة التى تواجه الأمة، وهو بذلك يستوجب الاتفاق وتوحيد الإرادة الوطنية حوله بل دعمه وتأييده، وإننا نرى أن صراع المصالح الدولية وتعارض بناء كتلة وادى النيل مع الاستراتيجيات الأجنبية فـي المنطقة يحتم أن تستند الجهود المبذولة لتحقيق وحدة وادى النيل على قاعدة التيار الصوفى الجارف فـي شطري الوادي، الشئ الذى يعنى دعم تلك الخطوات وتعزيزها وتوفير القوة الروحية والسند الشعبى لها ويشكل بالتالى أهم العوامل المطلوبة لحماية وتأمين جهود بناء كتلة وادى النيل.

إخواني أخواتي..

قال سيدى فخرالدين رضى الله عنه

وصرحى باسم الله بوأت ركنه �������  وآية إبراهيم رفع القـواعـد

يطيب لى فـي ختام خطابى هذا أن أتقدم إليكم والى الأمة الإسلامية جمعاء بالتهنئة الخالصة بمناسبة افتتاح مجمع سيدى الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه والذى يتم فـي وقت نتسم فيه عبير المولد النبوى الشريف.

ولعل فـي اكتمال هذا الصرح العملاق الذى أرسى قواعده ورفع بنيانه سيدى الشيخ إبراهيم رضى الله عنه وبروزه إلى حيز الوجود فـي هذا التوقيت لمؤشر ومدلول بليغ على ملامح المستقبل وطبيعة المهمة الكبيرة التى تنتظرنا، وهى مهمة لن يتأتى لنا القيام بها إلا بالجد والعمل والمثابرة والتعاون والتوادد والتراحم والسمو فوق الصغائر، وقبل ذلك كله الاجتهاد فـي الأوراد والمراقبة.

قال سيدى فخر الدين رضى الله عنه:

فأجمِعوا أمركم والله عاصِمَكـم ��     من الشَتاتِ لدى بِضعٍ وسبعينِ

وحاذروا وسيط السؤ بينكـُـمُ         وأيقظوا هِمّـةً فيهـا رياحينى

إذا اجتمعتم على حُبٍّ ومرحمةٍ� ������� فأيقنوا الوصلَ إن الله معطينى

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.  سبحان ربك رب العزةعما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.