مــن أخــلاق القــرآن .. الحلـــم

 

مــن أخــلاق القــرآن .. الحلـــم

الحلم سيد الأخلاق، وقد وردت مادة الحلم في القرآن نحو عشرين مرة وقد عرف العلماء فضيلة الحلم بأنها حالة يظهر معها الوقار والثبات عند الأسباب المحركة للغضب، أو الباعثة على التعجل في العقوبة. وعرَّفوه كذلك بأنه حبس النفس حتى تخضع لسلطان العقل، وتطمئن لما يأمرها به،

وقد يعبر بعض الباحثين في الأخلاق عن الحلم بأنه (ضبط النفس) وهذا غير بعيد عن الصواب، لأن ضبط النفس هذا يعني إخضاع قوتها الغضبية لسلطة العقل المفكر المدبر، وهذا هو مضمون الحلم، فعلى الرغم من أن الحليم قد سمع أو رأى أو علم ما يثير غضبه تراه متحلِّياً بالهدوء وضبط النفس، ولذلك جاء عن بعض حكماء العرب ما روته أمثالهم قوله: (حلمي أصم وأذني غير صماء) أي أنني أُعرض عن اللغو بحلمي وإن سمعته أذني.

وقد تُطلق كلمة (الحلم) على معنى العقل، ومن ذلك قول القرآن الكريم في سورة الطور {أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون} فالأحلام هنا يراد بها العقول، وقد ورد في الحديث بشأن صلاة الجماعة (ليتني منكم أولو الأحلام والنهى) أي أصحاب الألباب والعقول، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل، ولكنهم فسروه به لكون العقل هو سبب الحلم، فالعقل هو الذي ينصح بالاناة والتثبُّت في الأمور.

وخلق الحلم هو حالة التوسط بين رذيلتين: الغضب والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد وضيع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم عند المقدرة وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.

وقد يشتبه الحلم بكظم الغيظ، مع أن هناك فرقاً بينهما كما أشار حجة الإسلام الغزالي، فكظم الغيظ هو التحلم أي تكلف الحلم وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة لما في الكظم من كتمان ومقاومة واحتمال، وأما الحلم فهو فضيلة أو خلق يصبح كالطبيعة وهو دلالة كمال العقل واستيلائه على صاحبه وانكسار قوة الغضب عنده وخضوعها للعقل، ولكن هناك ارتباطاً بين الحلم وكظم الغيظ لأن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم وهو كظم الغيظ ومن هنا ورد (إنما الحلم بالتحلُّم).

ومن دلائل المكانة السامية للحلم في نظر القرآن الكريم أنه ذكر اتصاف الله جلّ جلاله بصفة الحلم في جملة من الآيات فقال في سورة البقرة {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم}، ويقول في السورة نفسها {واعلموا ان الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}، ويقول فيها كذلك {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم}، ويقول في سورة آل عمران {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم}، ويقول في سورة النساء {والله عليم حليم}، ويقول في سورة المائدة {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم}، ويقول في سورة الحج {ليُدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم}، ويقول في سورة الإسراء {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفورا}، ويقول في سورة الأحزاب {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليما}، ويقول في سورة فاطر {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفورا}، ويقول في سورة التغابن {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}.

و الحلم في الأصل هو الأناة وضبط النفس، ولكن الحلم بالنسبة إلى الله تعالى هو الإمهال بتأخير العقوبة على الذنب، ولذلك قال ابن الأثير في شرح اسم (الحليم) أنه الذي لا يستحقه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم. فقد جعل لكل شيء مقداراً وميقاتاً فهو مُنتهٍ إليه، وذكر القرطبي في تفسيره (الحلم) بالنسبة إلى الله سبحانه ما يفيد معنى طرح المؤاخذة، وأنه باب رفق وتوسعة، وقد يذكرنا هذا بقول الله جلّ جلاله {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقُضيَ إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون}.

فإذا انتقلنا في رحاب الصوفية لنتبين حديثهم عن (حلم الله) لوجدنا عبد الكريم القشيري في كتابه (التحبير في التذكير) يورد هذه العبارة: قيل: الحلم تأخير العقوبة عن المستحق لها، فيكون من صفات فعله يوصف به في الآزال، وقال أهل الحق: حلمه إرادته تأخير العقوبة، فهو من صفات ذاته، لم يزل حليماً ولا يزال، فيؤخر العقوبة عن بعض المستحقين ثم قد يعذبهم وقد يتجاوز عنهم، ويعجل العقوبة لبعضهم، فالأمر في ذلك على ما سبق به الحكم في الأزل، وتعلَّقت به الإرادة والعلم.

وينبغي أن نلحظ في الآيات الكريمة التي وصفت الله سبحانه بصفة الحلم بعض الإشارات، فقد اقترنت صفة الحلم في أغلب هذه الآيات بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الإقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع أو تفريط في أمر محمود وهذا أمر يتواءم مع الحلم، لأنه تأخير عقوبة والعقوبة توحي بوجود أمر يستدعيها.

وكذلك نلاحظ عدداً من هذه الآيات الكريمة التي وصفت الله سبحانه بالحل قد اقترن فيها ذكر الحلم بالعلم {وإن الله لعليم حليم}، {وكان الله عليماً حليما}، {والله عليم حليم}. وكأن الحكمة في هذا والله أعلم بمراده هو الإشارة إلى أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم بأمر يجعل معه الحلم من أهل الكمال والجلال والجمال سبحانه، وفي هذا يقول العربي الحكيم (حلمي أصم وأذني غير صماء)، ما يعين على فهم ذلك، فالحليم يعلم ما يثير أو يغضب ولكنه مع ذلك يتمسك بالحلم.

ثم يحدِّثنا القرآن الكريم بأن الحلم خُلق من أخلاق النبوة والرسالة فيقول في سورة التوبة عن أبي الأنبياء إبراهيم {إن إبراهيم لأواه حليم}، ويقول عنه في سورة هود {إنَّ إبراهيم لحليم أواه منيب}، والأوَّاه هو كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس وهكذا كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه. والحليم غير العجول على الانتقام من المسيء إليه، والمنيب: الراجع إلى الله، ويقول القرآن الكريم في سورة هود أيضاً على لسان قوم شعيب {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}، ويقول في سورة الصافات متحدثاً عن إبراهيم مشيراً إلى إبنه اسماعيل {فبشرناه بغلام حليم}.

والأنبياء والرسل هم النماذج العليا بين البشر فإذا أخبرنا كتاب الله تعالى بأن الحلم صفة من صفاتهم كان ذلك إشعاراً أيَّ إشعار بسمو هذه الفضيلة، ولقد جاء في بعض الأحاديث أن الحلم من سنن المرسلين، ولما كان سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلَّم وهو إمام النبيين وخاتم المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين كان من الطبيعي أن يوضع في يده زمامالإمامة الخلق بين هؤلاء الكرام، فلم يكن غريباً أن يوجهه ربه تعالى إلى قمة هذه الزعامة حين يقول له {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين، وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} ثم يمن عليه بما يسر له من أسباب هذه الزعامة الخلقية فيقول له {فبما رحمة من اللله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.

ولقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلمه الغاية المثالية والدلائل على ذلك كثيرة وفيرة منها أن إعرابياً جاءه يوماً يسأله شيئاً من المعونة، فأعطاه، ثم قال له: هل أحسنت إليك يا أعرابي ؟ فاندفع الأعرابي بجهالة يقول: لا أحسنت ولا أجملت، فهم الصحابة يريدون البطش بالإعرابي، فمنعهم الرسول وأخذ الأعرابي إلى بيته، وزاده في العطاء، ثم قال له: هل أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال له النبي:: إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، قال: نعم، فلما كان الغداة أو العشي جاء الأعرابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزناده، فزعم أنه رضي، أكذلك ؟ فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال النبي: وإن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة: خلو بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هونا هونا حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.

ومن روائع حلمه كذلك أن رجلاً كافراً دنا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم ورفع الرجل السيف فوق النبي، فانتبه فقال له الرجل: من يمنعك مني ؟ فقال الرسول بكل ثبات وطمأنينة: الله، فارتعد الرجل، وسقط السيف من يده، فأخذه النبي وقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل في ضعف: كن خير آخذ، فقال له النبي: قل أشهد أن لاإله إلا الله وأني رسول الله، فقال الرجل: لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فعفا النبي عنه، وأطلق سبيله فعاد الرجل إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس.

ومن وراء الأنبياء والمرسلين يأتي الصالحون من العباد، وإذا كان الله جلّ جلاله قد جعل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلَّم مثلاً عالياً في الحلم فقد أراد لإتباع محمد عليه الصلاة والسلام أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول القرآن الكريم عن الاختيار من هؤلاء في سورة الفرقان {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} وقد علق الحسن على هذه الآية فقال عن أصحابها: حلماء ان جهل عليهم لم يجهلوا.

وقد عنى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالتوجيه إلى الحلم والحث على الإنصاف به فقال من حديث له (إن الله يحب الحليم الحي). ولقد جاء الأشجُّ إلى الرسول فقال له النبي: إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؟ فقال النبي: الحلم والاناة، فسأله الأشج قائلا: خلقان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما ؟، فقال النبي: بل خلقان جبلك الله عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.

وجاء في حديث آخر (أشدكم من غلب على نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا عند المقدرة) وكذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحلم أحد أسباب ثلاثة يبتغي بها الإنسان الرفعة عند الله وهي وصل من قطعك، وإعطاء من حرمك، والحلم عمن جهل عليك.

ولقد تألَّق في تاريخ هذه الأمة أفراد أعلام ضربوا القدوة في الحلم وعلى رأسهم قيس بن عاصم المنقري، الذي يروون عنه أنه كان جالساً ذات يوم بفناء داره وهو محتب بكسائه، فدخل عليه جماعة يحملون شخصاً مقتولا، ويقودون شخصاً مكتوفاً فقالوا له: هذا ابنك قد قتله ابن أخيك، فلم يضطرب ولم يفك حبوته، بل التفت إلى أحد أبنائه وقال له: قم فأطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل، فإنها غريبة ثم أنشأ يقول:

إني امرؤ لا يعتري خلقــي         دنس بغـــــيره ولا أفن

من منقر فــي بيت مكرمة          والغصن ينبت حولـه الغصن

خطباء حين يقـــوم قائلهم         بيض الوجـــود أعفة لسن

لا يفطنون لعيب جـــارهم����    وهم لحفظ جــــواره فطن

ثم أقبل على ابن أخيه وهو القاتل فقال له: قتلت قرابتك، وقطعت رحمك، وأقللت عددك، لا يبعد الله غيرك. وفي قيس هذا يقول الشاعر عبدة بن الطبيب:

عليك سلام الله قيس بن عاصم        ورحمته ما شــاء أن يترحما

تحية من ألبسته منـــك نعمة       إذا زار عن شحط بلادك سلما

وما كان قيس هلكه هلك واحـد       ولكنه بنيـــان قـوم تهدما

وجاء من بعده الأحنف بن قيس الذي ضربوا به المثل فقالوا (أحلم من الأحنف) جاء فتعلم الحلم من قيس حتى قال (لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه)، وقيل للأحنف: هل رأيت أحلم منك ؟ فقال: نعم، وتعلمت منه الحلم. قيل: ومن هو ؟ قال: قيس بن عاصم المنقري، وقص القصة السابقة.

ومن الحلم المثالي للأحنف أن رجلاً تبعه بالشتم حتى بلغ الأحنف مكانه، فقال للرجل السبَّاب: يا هذا، إن كان بقي في نفسك شيء فهاته وانصرف لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره.

ولقد عرف الحكماء منذ أقدم الأزمان مكانة الحلم وفضله، فقالوا فيه كثيراً وهذا لقمان الحكيم يقول: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. واتفق سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع.

ولعل أوضح ثمرات الحلم هو تجنب الظلم ولو قل، والتباعد عن الاستجابة لهوى النفس الغاضبة، ولقد روى عن خامس الراشدين الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه أنهم جاءوا إليه برجل قد ارتكب خطأ وكان عمر غاضباً فقال له عمر: لولا أني غضبان لعاقبتك. وكان خامس الراشدين إذا أراد معاقبة رجل حبسه ثلاثة أيام، فإن أراد بعد ذلك أن يعاقبه عاقبه، كراهة أن يعجل عليه في أول غضبة.

وليس الحلم رضاً بالذل أو تقبلاً للهوان وإنما هو ترفع عن الاستجابة للنزوة أو التأثر بالوسوسة أو مقابلة السوء بمثله، وإلى ذلك أشار الغزالي حين قال أنه لا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب وكذلك سائر المعاصي وإنما الجائز هو القصاص على ما ورد به الشرع.

وإنما يقال للحلم أنه ذل أو شبيه به إذا كان عن عجز، ولكن الحلم المحمود هو ما كان عن قدرة، ولذلك قال الشاعر:

والحلــم عـن قـدرة         فضــلٌ مـن الكـرم

وقال ابن زيدون مادحا:

عطاءٌ ولا من، وحكمٌ ولا هوى� ������� وحلمٌ ولا عجز، وعزٌّ ولا كبر

ولذلك كانت أجمل مواقف الحلم هي مواقف الحلم من أهل السلطان على غيرهم، كحلم الحاكم على المحكوم، وحلم المعلم على التلميذ وحلم المخدوم على الخادم وحلم الرئيس على المرءوس وحلم العالم على الجاهل وهكذ.

لجنة التراث