من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني - 18

علم الناسخ والمنسوخ

 

من علوم الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني - 18

الشيخ العارف بالله تعالى
سيدي إبراهيم القرشي الدسوقي
(رضي الله عنه)

الشيخ العارف بالله تعالى سيدي إبراهيم القرشي الدسوقي (رضي الله عنه) هو من أجلاء مشايخ الفقراء أصحاب الخرق، وكان من صدور المقربين، وكان صاحب كرامات ظاهرة ومقامات فاخرة، ومآثر ظاهرة وبصائر باهرة وأحوال خارقة وأنفاس صادقة وهمم عالية ورتب سنية ومناظر بهية وإشارات نورانية ونفحات روحانية وأسرار ملكوتية ومحاضرات قدسية، له المعراج الأعلى في المعارف.. والمنهاج الأسنى في الحقائق، والطور الأرفع في المعالي، والقدم الراسخ في أحوال النهايات، واليد البيضاء في علوم الموارد، والباع الطويل في التصريف النافذ، والكشف الخارق عن حقائق الآيات، والفتح المضاعف في معنى المشاهدات، وهو أحد من أظهره الله عز وجل إلى الوجود، وأبرزه رحمة للخلق، وأوقع له القبول التام عند الخاص والعام، وصرفه في العالم ومكنه في أحكام الولاية وقلب له الأعيان وخرق له العادات وأنطقه بالمغيبات وأظهر على يديه العجائب، وصومه في المهد رضي الله عنه، وله كلام كثير عال على لسان أهل الطريق.

ومن كلامه رضي الله عنه: من لم يكن مجتهداً في بدايته لا يفلح له مريد، فإنه إن نام نام مريده، وإن قام قام مريدة، وإن أمر الناس بالعبادة وهو بطال أو ثوبهم عن الباطل وهو يفعله ضحكوا عليه ولم يسمعوا منه، وكان ينشد كثيراً إذا قيل له انصحنا، وأرشدنا بمثالين من قول بعضهم.

لا تعدلين الحراير حتى تكوني ملثهن      يقبح على معلولة تصف دواء للناس

وكان رضي الله عنه يقول: يجب على المريد أن لا يتكلم قط إلا بدستور شيخه إن كان جسمه حاضراً، وإن كان غائباً يستأذنه بالقلب وذلك حتى يترقى إلى الوصول إلى هذا المقام في حق ربه عز وجل فإن الشيخ إذا رأي المريد يراعيه هذه المراعاة رباه بلطيف الشراب وأسقاه من ماء التربية ولاحظه بالسر المعنوي الإلهي، فيا سعادة من أحس الأدب مع مربيه، ويا شقاوة من أساء، وكان رضي الله عنه يقول، من عامل الله تعالى بالسرائر جعله على الأسرة والحضائر، ومن خلص نظره من الاعتكاس سلم من الالتباس، وكان رضي الله عنه يقول: من غاب بقلبه في حضرة ربه لا يكلف في غيبته، فإذا خرج إلى عالم الشهادة قضى ما فاته، وهذا حال المبتدئين، أما حال الكمال فلا يجري عليهم هذا الحكم، بل يردون لأداء فرضهم وسننهم وكان رضي الله عنه يقوك من لم يكن متشرعاً متحققاً نظيفاً عفيفا شريفاً فليس من أولادي ولو كان ابن لصلبي. وكان من كان من المريدين ملازماً للشريعة والحقيقة والطريقة والديانة والصيانة والزهد والورع وقلة الطمع فهو ولدي وإن كان من أقصى البلاد. وقيل له مرة ما تريد فقال أريد ما أراد الله عز وجل. وكان رضي الله عنه يقول: ما كل من وقف يعرف لذةالوقوف، ولا كل من خدم يعرف آداب الخدمة، ولذلك قطع بكثير من الناس مع شدة اجتهادهم. وكان رضي الله عنه يقول:سألتكم بالله يا أولادي أن تكونوا خائفين من الله تعالى فإنكم غنم السكين وكباش الفناء، وخرفان العلف، يا من تنور شواهم قد أوهج، ويا من السكين لهم تحد وتجذب {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}. وكان رضي الله عنه يقولك لا يكمل الفقير حتى يكون محباً لجميع الناس، مشفقاً عليهم، ساتراً لعوراتهم، فإن ادعى الكمال وهو على خلاف ما ذكرناه فهو كاذب. وكان يقول لا تنكروا على فقير حاله، ولا لباسه، ولا طعامه، ولا على أي حال كان، ولا على أي ثوب يلبس، ولا إنكار على أحد إلا إن ارتكب محظوراً لم تصرح به الشريعة. وذلك أن الإنكار يورث الوحشة، والوحشة سبب لانقطاع العبد عن ربه عز وجل. فإن الناس خاص وخاص الخاص، ومبتدي ومنته، ومتشبه ومتحقق، ويرحم الله تعالى البعض بالبعض. والقوي من يقدر أن يمشي مع الضعيف، وعكسه والفقراء غيث وهو سيف إذا ضحك الفقير في وجه أحدكم فاحذروه ولا تخالطوه إلا بالأدب. وكان رضي الله عنه يقول: الشريعة أصل، والحقيقة فرع، فالشريعة جامعة لكل علم مشروع، والحقيقة جامعة لكل علم خفي. وجميع المقامات مندرجة فيهما. وكان رضي الله عنه يقول: يجب على المريد أن يأخذ من العلم ما يجب عليه في تأديته ونفله ولا يشتغل بالفصاحة والبلاغة فإن ذلك شغل له عن مراده. بل يفحص عن آثار الصالحين في العمل، ويواظب على الذكر. وكان رضي الله عنه يقول: الرجال منهم رجل، ونصف رجل، وربع رجل، ورجل كامل، وبالغ ومدرك، وواصل. وكان رضي الله عنه يقول: توبة الخواص، محو لكل ما سوى الله تعالى. ولا يتطلعون إلى عمل ولا قول، يتوبون عن أن يختلج في أسرارهم (أن لي) أو يتوهمون (أن عندي). ويخشون من قول (أنا)، فهم يراعون الخطرات وكان يقول: يا مريدي اجمع همة العزم وقوة شد الحزم، لتعرف الطريق بالإدراك لا بالوصف فأي مقام وقفت فيه حجبك، بل أرفض كل ما يحجبك عن مولاك، فإن كل ما دون الله تعالى باطل.

وكان رضي الله عنه يقول: الأعراض تورث الإعراض وكان يقول: دعني يا ولدي من البطالات، وتجرد من قالبك إلى قلبك. وكان رضي الله عنه يقول: احذر يا أخي أن تدعي أن لك معاملة خالصة أو حالاً. واعلم أنك إن صمت فهو الذي صومك. وإن قمت فهو الذي أقامك وإن عملت فهو الذي استعملك وإن رأيت هو الذي أراك. وإن شربت شراب القوم فهو الذي أسقاك وإن اتقيت فهو الذي وقاك وإن ارتفعت فهو الذي رقى منزلتك وإن نلت فهو الذي نولك وليس لك في الوسط شيء إلا أن تعترف بأنك عاص، مالك حسنة واحدة وهو صحيح من أين لك حسنة وهو الذي أحسن إليك؟ وهو الحاكم فيك، إن شاء قبلك، وإن شاء ردك. وكان رضي الله عنه يقول: ولد القلب خير من ولد الصلب. فولد الصلب له إرث الظاهر من الميراث، وولد القلب له إرث الباطن من السر. وكان يقول من ادخل دار الفردانية وكُشِفَ له عن الجلال والعظمة، بقي هو بلا هو. فحينئذ يبقى زماناً فانياً ثم يعود في حفظ الله تعالى وكلاءته سواء حضر أو غاب، ولا يبقى له حظ في كرامات ولا كلام، ولا نظام نفساني، وخلص لجانب العبودية المحضة. وكان رضي الله عنه يقول: أصحاب العطاء كثير. وأهل هذا الزمان ما بقي عندهم إلا المنافسة إما يسألون عن معنى الصفات، أو معنى الأسماء أو معنى مقطعات الحروف المعجم، وهذا لا يليق بالمبتدي السؤال عنه. وأما المتمكن فله أن يلوح بذلك لمن يستحق فإن علمها طريقة الكشف لا غير وأما من اشتغل بحفظ كلام الناس، أو جمع الحقائق ولسان المتكلمين في الطرق والطرائق، فمتى يعيش عمراً آخر حتى يفرغ من عمر الفناء إلا عمر البقاء. فإن القوم كانوا محبين وكل منهم يتكلم بلسان محبته وذوقه، فهو كلام لا يحصر وبحر غرق فيه خلق كثير، ولا وصل أحد إلى قعره، ولا إلى ساحله وإنما يذكر العارف كلام غيره تستراً على نفسه، أو تنفيساً لما يجده من ضيق الكتمان آه آه آه ولقد شهد الله العظيم أني ما أتكلم قط أو أخط في قرطاس إلا وأتوخى أن يكون ذلك اغلاً، أو بياناًلمعنى غامض على الناس لا غير. فإن الصدق قد ذهب من أكثر الناس.

وكان رضي الله عنه يقول جميع المعبرين والمؤولين والمتكلمين في عمل التوحيد والتفسير لم يصلوا إلى عشر معشار معرفة كنه إدارك معرفة معنى حرف واحد من حروف القرآن العظيم، وكان يقول: أول الطريق، الخروج عن النفس والتلف والضيق والحظ فإن الفلاح والنجاح والصلاح والهدى والأرباح لا تصح إلا لمن ترك الحظ وقابل الأذى والشر بالاحتمال والخير ووسع خلقه. والفقير لا يكون له يد ولا لسان ولا كلام ولا صرف ولا شطح ولا فعل ردئ ولا يصرفه عن محبوبه صارف ولا ترده السيوف والمتالف. وكان رضي الله عنه يقول: كل الحرام يوقف العمل، ويوهن الدين، وقول الحرام، يفسد على المبتدي عمله والطعام الحرام، يفسد على العامل عمله. ومعاشرة أهل الأدناس، تورث الظلمة للبصر والبصيرة. وكان رضي الله عنه يقول: إن الله عز وجل يحب من عباده أخوفهم منه وأطهرهم قلباً وفرجاً ولساناً ويداً وأعفهم وأعفاهم وأكرمهم وأكثرهم ذكراً وأوسعهم صدراً.

وكان يقول: من كان في الحضرة نظر الدنيا والآخرة. وكان يقول: إياكم والدعوات الكاذبة. فإنها تسود الوجه وتعمي البصيرة. وإياكم ومؤاخاة النساء، وإطلاق البصر في رؤيتهن والقول بالشاهد والمشي مع الأحداث في الطرقات. فإن هذا كله نفوس وشهوات ومن أحدث في طريق القوم ما ليس فيها فليس هو منا ولا فينا. قال الله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي، وسائر لغات الطيور والوحوش، وكتب رضي الله عنه إلى بعض مريديه بعد السلام، وإنني أحب الولد وباطني خلي من الحقد والحسد، ولا بباطني شظا ولا حريق لظى، ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا ثطب غظا ولا عطل حظا ولا شنب سري ولا سلب سبا ولا عتب فجا ولا سمد ادصدا ولا بدع رضا ولا شطف جوا ولا حتف حرا، لا خمش خيش، ولا حفص عفص ولا خفض خنس ولا حولد كنس ولا عنس كنس ولا عسعس خدس ولا جيقل خندس ولا سطاريس ولا عيطافيس ولا هطامرش ولا سطامريش شولا شوش أريش ولا ركاش قوش ولا سملا دنوس ولا كتبا سمطلول الروس ولا بوس عكمسوس ولا انفدادا أفاد ولا قمداد انكاد ولا بهداد ولا شهداد ولا بد من العيون وما لنا فعل إلا في الخير والنوال.

السابق

 

علم الناسخ والمنسوخ

أولا: تعريف النسخ: هو رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر عن دليل الحكم.

فالنسخ فى كتاب الله تعالى على ثلاثة ضروب: الأول: نسخ الخط والحكم.الثانى: نسخ الخط وبقاء الحكم.الثالث: نسخ الحكم وبقاء الخط.

أولا: نسخ الحكم والخط: وهو أنه هناك ما نزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ثم رفع حكمها وخطها من المصحف الشريف ومن أمثلة هذا النوع من النسخ ما رواه الإمام النيسابورى الواحدى عن سيدنا أنس بن مالك أنه قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة تعدلها سورة التوبة ما أحفظ منها غير آية واحدة (ولو أن لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى إليهما رابعا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب) ونسخت كلها.وأيضا ما روى عن سيدنا عبد الله بن مسعود وهو أحد كتبة الوحى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أملاه آية فكتبها فى كتابه ولما رجع سيدنا عبد الله بن مسعود إلى منزله وأراد أن يتذكر هذه الآية فوجد نفسه نسيها فرجع إلى كتابه وفتحه فوجدها محيت من الكتاب فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقص عليه الأمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نسخت البارحة يا عبد الله.ولذلك نجد الآية فى المصحف الشريف فى سورة البقرة رقم 601 تقول {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير.}

ثانيا: نسخ الخط وبقاء الحكم: وذلك ما روى عن سيدنا عمر بن الخطاب أنه قال: والله لولا أنى أخشى أن يقال إن عمر بن الخطاب أزاد فى القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضعت الآيه التى تقول (لا ترغبوا آبائكم فإن ذلك كفر بكم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البته نكالا من الله والله عزيز حكيم) فرفع الخط بالنسبة لهذه الآية من المصحف ولكن بقى الحكم بالرجم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: نسخ الحكم وبقاء الخط: وهذا أشهر أنواع النسخ وله أمثلة كثيرة فى كتاب الله منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: الآية {إن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فنجد هذه الآية فى سورة البقرة ولكن لا يعمل بها حكما لأن هناك آية أخرى نسختها وهى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.}

حكمة النسخ

الأولى:تحقيق مصالح الناس التى هى مقصود التشريع، فإن المصالح قد تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والناس، فإذا شرع حكم لتحقيق مصلحة ثم زالت المصلحة كان المناسب لذلك أن ينتهى الحكم الذى شرع لأجلها مثال ذلك تحريم ادخار لحوم الأضاحى ثم إباحته بعد ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى من أجل الدافة ألا فكلوا وادخروا).

الثانية:وقد يكون النسخ لدفع الحرج المترتب على الحكم المنسوخ وذلك كإباحة استعمال جميع أوعية الخمر بعد حظرها وفى هذا يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (كنت نهيتكم عن الأشربة فى الظروف وإن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا).

الثالثة:التدرج فى التشريع وعدم مفاجأة من يشرع لهم الحكم بما يشق عليهم أو تنفر منهم نفوسهم ومن ذلك: تحريم الربا وفرضية الصلاة واتجاه القبلة.

ومن أنواع النسخ:النسخ الوقتى لكتاب الله تعالى:وهو العمل بالآية فى ظل ظروف معينة وعدم العمل بها إذا زالت هذه الظروف فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان ومن هذا المنطلق يأتى هذا النوع من النسخ فى كتاب الله تعالى.

ومن أمثلة هذا النوع من النسخ فى كتاب الله تعالى آية السيف وهى الآية رقم (5) سورة التوبة التى تقول {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} فنجد هذه الآية ناسخة لمائة وأربع وعشرون آية فى كتاب الله نسخا وقتيا، ومن هذه الآيات المنسوخة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} وسورة الكافرون وغيرها من الآيات ولكن كل هذا نسخ وقتى فقط بمعنى أنه: فى حالة الحرب بين المسلمين والمشركين لا يعمل بهذه الآيات وتكون آية السيف هى الناسخة والمعمول بها، فإذا زالت حالت الحرب رجع إلى العمل بحكم هذه الآيات ولا يعمل بآية السيف.

وآخر أنواع النسخ هو نسخ الحديث الشريف لآية:ومن أمثلة ذلك: الآية رقم (371) من سورة البقرة التى تقول {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} فأورد الإمام النيسابورى الواحدى فى كتابه أسباب النزول والناسخ والمنسوخ ما نصه:نسخ بالسنة بعض الميتة وبعض الدم بقوله عليه السلام أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال، وقال تعالى {وما أهل به لغير الله} ثم رخص للمضطر والجائع غير الباغي والعادي فقال {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}.