العد د الثالث  (نيسان)

 

فـــي دار الـنـِّيــام

شـــراب الوصــل


فـــي دار الـنـِّيـــام

عرفت الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني فـي  1959 كان مولانا الشيخ  آنذاك يتنقل بين حلفا وبورتسودان وعطبرة ومدني وفـي نفس العام1959  انتقل إلى الخرطوم  وسكن فـي منزل فـي شارع كاترينا وفـي نهاية هذا العام اشترى منزل الخرطوم 3 جوار مسجد عبد المنعم واستقرَّ به من عام 1960 واحضر أبناءه وهم الشيخ إبراهيم والسيدة فاطمة وشيخ سيد أحمد وشيخ شاذلي  وأمهم هي السيدة عائشة رضوان الله عليها� أما شيخ علي و شيخ حسين وشيخ عبد السلام  والسيدة آسيا  حفظهم الله فقد ولدوا فـي هذا البيت بالخرطوم (3) وأمهم  هي السيدة زينب أطال الله بقاءها.

بدأ الشيخ محمد عثمان عبده رحلة الإرشاد فـي هذا البيت وامتدت هذه الفترة إلىِ1983وقدرها ثلاثة وعشرون عاماً وهو موافق لعمر الدعوة النبوية وهذا من عجيب الموافقات�
 

كان الشيخ يقيم الدروس بصفة منتظمة وكان يوصي المريدين فـي دروسه بالاهتمام بالفقه، وقد درس الفقه فـي مدني على يد رجل يسمى عبد الله حاج حامد ثم واصل دراسة الفقه فـي مسجد الخرطوم الكبير وقد روى أنه عندما درس فقه العبادات وراجع عبادته قبل دراسة الفقه وجد فيها قصوراً وأعاد صلاة عدة سنوات  طلباً للكمال والإتقان وكان يحثُّ مريديه على إتقان الوضوء والصلاة- وفـي غسل اليدين يوصيهم بالحرص على إدخال الماء بين الأظافر ومسح وتر الأنف والشفتين عند غسل الوجه.

وبلغ من اهتمامه بالفقه أنه عيَّن أستاذاً للفقه من الجبرتة اسمه إدريس كان يدرِّس فقه العبادات للإخوان ثم كلَّف فقيهاً يسمى محمد عبد الغني كان يدرِّس مذهب الإمام مالك من كتاب ''أقرب المسالك '' وكان الشيخ رضي الله عنه يجلس فـي الدرس ويمسك بكتابه ويتابع الدرس وكلما فرغ الرجل من باب العبادات وأراد أن يدخل فـي باب البيوع طلب منه الشيخ مرة أخرى أن يعود إلى باب العبادات وألا يتجاوز هذا الباب حرصا منه على تعلُّم الإخوان  الفقه الذي هو لازم لصحة العبادة وقبولها وكان يوصي بالتمهُّل والتأنِّي فـي تسبيحات الصلاة عند الركوع (سبحان ربي العظيم) وعند السجود(سبحان ربي الأعلى) .

وكان كثيراً ما يستشهد بالقول المأثور (من تفقَّه ولم يتصوَّف فقد تنقَّص ومن تصوَّف ولم يتفقه فقد تزندَّق ومن جمع بينهما فقد تحقق) وكان هذا هو منهجه الراسخ التفقه ثم التصوف.

لم يكن الشيخ فـي دعوته للطريقة يلجأ إلى الكرامات وكان ينتهج منهج الإقناع العقلي وكان يحثُّ على الاستقامة والمحبة محبة آل البيت والأولياء ويحث على الصفاء ''فالحب كنز والصفا مفتاح''.

وكان لا يحب ذكر الكرامات والحديث عنها ولكن كثيراً من مريديه دخلوا الطريقة بالرؤيا المنامية إذ كان الشيخ يأتيهم فـي الرؤيا ويأمرهم بالتوجه للزاوية وأخذ الطريقة� وبعضهم كان يأتي وفـي نيَّته أن يسأل سؤالاً فيمنعه الحياء أو كثرة الناس حول الشيخ فيجيب الشيخ على سؤاله، أو يخطر بباله خاطر فيكاشفه الشيخ بذلك.

وقد أعطى أوراداً لبعض المريدين فلم يداوم عليها وقال للشيخ إنه لم يستفد من الأوراد،فقال له الشيخ هذا لأنك لم تداوم عليها ثم ضرب له المثل بالمكوك فـي ماكينة الخياطة وقال له: من أي شيء يصنع المكوك؟ قال: من الحديد الصلب.

ومن أي شيء يصنع الخيط؟ قال: من القطن� قال: ألا ترى أن المكوك يتآكل من كثرة مرور الخيط عليه؟فإذا كان القطن يؤثر على الحديد الصلب فكذلك كثرة الذكر والمداومة عليه لابد أن تؤثر فـي القلب.

وكان للشيخ قصص كثيرة جداً فـي حواره مع كثير من المريدين وبعض المعاندين وكانت كلمة الشيخ دائماً فيها القول الفصل� قال له رجل من أدعياء السلفية : كيف تقولون السيد فلان والسيد هو الله؟ قال له الشيخ أتحفظ أسماء الله الحسنى ؟ قال بلى� قال له أفيها السيد ؟ فبهت الرجل� ثم أوضح الشيخ رضي الله عنه أن السيد لابد أن يكون من جنس  القوم، واستشهد بقوله تعالى (وألفيا سيِّدها لدى الباب).

كذلك كانت دروس الشيخ مجالاً لسيرته الذاتية إذ كان يحكي عن علاقته مع المشايخ. حكى الشيخ مرة أنه أصابه جذب  فـي صباه فظنَّ أهله أنه أصابه مسٌّ من الجنون فأخذوه إلى رجل بالخرطوم بحري يداوي من الجن وكان هناك عددٌ من المجانين مكتوفين فرُبط الشيخ إلى عمود فـي ذلك المكان وكان يقرأ أوراده فكانت أوراده السبب فـي شفاء كثير من المجانين الذين كانوا هناك.

ولما فارق المكان كان معظمهم قد برئ وذهب إلى أهله ببركة أوراد الشيخ، وذكر أيضا أن أهله أخذوه إلى الشيخ قريب الله أبو صالح  رضي الله عنه بأم درمان ولما دخل على الشيخ قريب الله أخذ الشيخ قريب حالٌ لما وقع بصره عليه فصار يترجم وأيضا أخذ مولانا الشيخ حال وأخذ يترجم حتى تعجب الناس منهما.

كما حكى عن  علاقته بالشيخ عبد الباقي المكاشفي رضي الله عنه فـي الشكينيبة وكان يزوره من حين لآخر وأيضاً عن علاقته مع الشيخ عبد الباقي حمد النيل رضي الله عنه بطيبة وحكى عن خروجه للسياحة بجبل موية وكيف أنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل وكان هؤلاء المشايخ يعرفون حقيقته وإن كان يظهر لبقية الناس مثله مثل أي مريد آخر وهكذا كان الشيخ دأبه  ومزيته الخفاء.

وللحديث بقية

محمد

 


شـــراب الوصــل

صبرت لحكم الله بل أنا شاكر           وما الصبر إلا عن عظيم المصيبة

قال الإمام علي  رضي الله عنه:(إنه لما أنزل  الله سبحانه وتعالى قوله {أم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} علمت أن الفتنة لا تنزل ورسول الله صلى الله عليه وآله-بين أظهرنا فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟ فقال: يا'' علي، إنّ أمتي سيفتنون من بعدي''، فقلت: يا رسول الله أو ليس قد قلت لي يوم أحَد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة فشقَّ ذلك عليَّ، فقلت :''أبشر فإن الشهادة من ورائك؟ '' فقال لي ''إنَّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟ '' فقال: ''فقلت يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من  مواطن البشرى والشكر). وفـي هذا الكلام موافقة عجيبة لكلام سيدي فخر الدين فالمصيبة تقتضي الصبر كما قال سيدي أبو العباس المرسي لابن عطاء الله السكندري رضي الله عنهما : (وإن كنت فـي المصيبة فمقتضى الحق منك الصبر) إلا عند أهل المراتب الذين يشكرون على المصيبة ويستبشرون بها  لما فيها من الترقي فـي مدارج القرب إلى المولى عز وجلّ  قال بعض الأولياء لبعض تلاميذه : كيف حالكم ببلدكم  ؟ قال إذا وجدنا شكرنا، وإن لم نجد صبرنا� قال له الشيخ : ذاك حال الكلاب ببلدنا� قال فما حالكم أنتم ؟ قال إذا وجدنا آثرنا، وإذا لم نجد شكرنا�والصبر على ثلاثة معان:  الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة والصبر فـي المصيبة� والصبر مقام عظيم {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} (القصص 54)، وقال عز وجل : {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر 10)� قال أبو طالب المكي  رضي الله عنه (الصبر يحتاج إليه قبل العلم ومعه وبعده ؛ يحتاج فـي أول العمل أن يصبر على تصحيح النيَّة وعزم العقود والوفاء بها حتى تصحَّ الأعمال، والصبر يحتاج إ ليه فـي العمل حتى يتمَّ ويعمل به،  والصبر بعد العمل هو الصبر على كتمه وترك التظاهر به طلباً للسمعة والرياء). (قوت القلوب).

أما الشكر فقد جعله الله تعالى مفتاح كلام أهل الجنة وختام تمنيهم فـي قوله تعالى {الحمد لله الذي صدقنا وعده} (الزمر 74)  وقوله تعالى {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وقد أمر الله تعالى بالشكر وقرنه بالذكر فـي قوله {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة 152) وهذا تفضيل للشكر عظيم  لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى�،فـي أحد الوجوه من قوله عزَّ وجلَّ {لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم} (الأعراف 16) قال أبو طالب المكي ''طريق الشكر فلولا أن الشكر طريق يوصل لله تعالى لما عوَّل العدو على قطعه�

فـي أخبار موسى وداوود عليهما الصلاة والسلام '' يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك '' وفـي لفظ آخر '' وشكري لك نعمة أخرى منك  توجب عليَّ الشكر لك ''(قوت القلوب)  وقال الشيخ رضي الله عنه:

بعض آيات الصبر:

{وأصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (الطور48).

{فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا} (الإنسان24).

{شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} (النحل121).

بعض أحاديث الصبر:

(ما أعطى ابن آدم عطاء خيراً من الصبر).

بعض الأبيات من شراب الوصل:

سأصبر عنها لا عـليها وإننـي             بصبري شكاَّر وفـي القاب صبرتي

وصبري صبر لم ير الناس مثله             سهـــامـي نور والضلال رميَّتي

فأركع تعـظيمـاً وأرفع شـاكراً             أشـاهد ما أبغـيه فـي رفع هامتي

ولعـلَّ جدباء القـلوب بغـيثه               تـهــتزُّ  شـكـراً ثـــــم