زاويــــــــة عطـبـــره
بـالـحـقـائـق نـاطـقـيـن
زاويــــــــة عطـبـــره
إعتاد الأحباب على لقاء شيخهم في بيته أو في محل عمله الخاص يسترشدون منه
لقراءة أورادهم أو يسألونه عما صادفهم في أمور دينهم وصعب عليهم فهمه أو
التصرف فيه شريعة كما يستشيرونه في أمر دنياهم ومعاشهم يسافر البعض إليه
أو يقوم رضي الله عنه بالسفر إليهم يتابع أحوالهم وأورادهم ووارداتهم
هكذا كان الأمر سنين طوال تنتقل الحضرة من بيت إلى بيت ولكن بدخول عام 1956
م أصبح وجود مكان ثابت يجمع الشيخ بمريديه أمرا حتميا.
فقد
إكتشف الإخوان أن الشيخ يتحدث في علوم يلتقطها من حظي بوجوده مع الشيخ
حين التحدث بها وليس يدركها من لم يكن موجودا ومثل هذه الأمور لا يمكن
تركها للمصادفة البحتة ولذلك كان وجود الزاوية هو الحل ، كل هذا وأكثر قد
جال بخاطرى وأنا أقف أمام الباب الرئيسي لزاوية عطبره الذي يحمل فوق
كاهله لافتة متواضعة تخبرك أنك الآن أمام باب من أبواب التاريخ شهد شمس
البرهانية عند بزوغ فجرها ، فمن هنا إنطلق نور العلم الموهوب ليُعلم
الناس أن الدين الإسلامى ما زال يلبس مع كل عصر ثوبه وأن ثوبه لا يبلى
بمرور الزمن ويثبت أن نهر العلم ما زال يجري ويحمل طي أمواجه
الكثير من هبات الله لأوليائه ومن إشعاعات الحبيب المصطفى صلوات الله
عليه وآله لأحبائه ، وهنا تذكرت الأبيات الشهيرة عند الناس يرددها
الصوفية في حضراتهم وقد لا يدرون من القائل أو فيمن قيلت وتلك الأبيات
لسيدي قريب الله رضي الله عنه يصف فيها الشيخ محمد عثمان عبده
البرهاني رضي الله عنه وما تخبئ له الأقدار من قدْر:
يسير بك المهيمن سير سر
إلى ملكوته غيب الخفــاء
وفجر الوصل يطلع بعد ليل
وتطلع بعده
شمس الضحاء
وهذا الفجر الذي إنتظره الناس ظهرت علاماته الصادقة في وادي حلفا ومنه
إلى مناطق شتى في بقاع السودان إلى أن استقر الشيخ في عطبره ، ودخلت إلى
الساحة الواسعة التي يتوسطها الساري يحمل الراية البرهانية بألوانها
الأخضر والأصفر والأبيض والتي يصفها سيدي فخر الدين رضي الله عنه بقوله :
لذا
فهي خضراء غدا الخضر عندها
كطالب علم من أصيحاب نهلتي
كذا
فهي صفراء تســـر نواظرا إلى
الملأ الأعلى وبيضاء شرعة
ومع أفكاري التي راحت مع المعاني ولم أنتبه إلا على صوت المؤذن في
التنبيه الأول لصلاة الصبح فاتجهت يمناي لأرى( المزيرة ) وهو مكان
أعد خصيصا للأزيار التي تحمل الماء لري العطشى والعطش عنده معنى لا يفهمه
إلا من زار عطبرة في الصيف القائظ ، ولذا كان سيدي فخر الدين رضي الله
عنه يهتم إهتماما بالغا بأن يروي ظمأ الناس ظاهرا كما يروون بواطنهم
العطشى بفنون الشراب من رحيق علمه الموهوب.
ولحق في وقوفي أحد الأحباب وقاطع أفكاري قائلا سوف أروي لك بعض من
الذكريات التي حدثت في الماضي ولكنها تحمل في طياتها بعض من مكارم
الأخلاق لشيخنا سيدي فخر الدين رضي الله عنه فقد كان الشيخ بيننا مهابا
مطاعا نجله لعلمه وورعه ولكن العلم والورع ليس عنه حديثي الآن ولكن كان
الشيخ يقاسمنا الخدمة فى الزاوية يعمل معنا يدا بيدوكان إذا كلف أحد بعمل
أعانه عليه وكان إذا قام أحدنا بملأ الأزيار فهو عمل سهل لأنك تضع خرطوم
الماء الواصل من الصنبور في قلب الزير حتى يفيض فتنتقل إلى الثاني
فالثالث وهلم جرا ولكن الشيخ كان يصر على أن يقوم بهذا العمل بنفسه ولكن
بطريقة مختلفة تماما ، فالماء الموجود بالأزيار يكون باردا وإذا أكملته
بالماء من الصنبور يصبح كل الماء ساخنا ولا بد لك أن تصبر ساعات طوال كي
تشرب الماء مساغا ولذا كان سيدي فخر الدين ينقل ماء الأزيار البارد كلها
في زير واحد أو اثنين ثم يقوم بملأ باقى الأزيار من الصنبور وذلك كله في
الليل حتى إذا أصبح الصباح وجد كل الماء مساغا للشرب ، إلى هذا الحد يشهد
هذا المكان على حرص الشيخ على معاونة أبناءه في الخدمة وفي نفس الوقت
يعلمهم كيفية إتقان الخدمة فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.
وقبل أن يؤذن للصلاة جلست في الميضأة التي تلي مكان الأزيار في صفين
متقابلين من الجهتين تحمل صنابير المياة المغذاة من الخزان الذي يحمل
الماء من الخط الخارجي ويحتفظ بها إلى حين أوقات الوضوء والصلاة وقمت بعد
فراغي من الوضوء وهممت بالمرور إلى المسجد من الخلف فنبهني صاحبي أن هذا
الإتجاه يؤدي إلى مصلى النساء الذي يقبع خلف الباب الخلفي للزاوية ،
فعدلت من اتجاهي وقصدت الباب الذي في يمناي ودخلت إلى صحن المسجد لأصلي
ركعين فلما التفت عن يميني وفرغت من صلاتي لاحظت بابا آخر للمسجد يقف في
صف الباب الذي دخلت منه وقمت مع مسبحتي أجول في صحن المسجد كي لايغلبني
النوم في جلوسي أتفحص بنظراتي المنبر العتيق المعلق موصولا بالحائط
وأجهزة الإذاعة الداخلية التي لاشك في انها أضيفت حديثا للمنبر وتأملت
الباب الذي يصعد منه الإمام لإلقاء خطبة الجمعة على المصلين حتى يفرغ
منها فيهبط الدرج إلى المحراب ليؤم الناس بالصلاة.
وأقيمت الصلاة وتصافح المصلون بعد الختام ، وكان عليَّ أن أنتظر أشعة
الشمس حتى أتمكن من الدخول إلى مكان نومي فتفحصت المكتبة المتواضعة التي
تحوي دفاتها كتاب الله الكريم لتزداد به رفعة ثم تأملت الجدران التي
تجتاحها النوافذ تفتح فقط مع البارد من الهواء وتنكمش انغلاقا ضد الهبوب
والسموم منه ، وتراصت الأعمدة تحمل على كاهلها ذلك السقف الثقيل الذي
تُقَسِّمه القضبان كأنه أفلاك الأملاك يقابلها في أرض المسجد حياض من
الموكيت الأخضر والأصفر في خطوط متوازية لتسهل على المصلين تسوية الصفوف
لإقامة ما تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف.
وخرجت من الباب الذي لم أدخل منه فإذا على يساري مكتب يتكأعلى الجدار
الخلفي للزاوية وتختبأ على جانبه باحة ليست بالصغيرة يجلس فيها النساء
لسماع حضرة الذكر التي تقام في الساحة الرئيسية أما المكتب فقد جهز
للأعمال الإدارية وحفظ الأوراق والكتب، وتمتد شرفة أرضية مغطاه تتصل
لتحمي المبنى الرئيسي يستظل بها القائلين في الظهيرة وتجد أمامك غرفة
الضيوف التي جهزت بالسراير والأمتعة تتوسطها سجادة عتيقة يتدلى عليها من
السقف مروحة أكبر منها عمرا ، ويحتل التليفون أحد الأركان ليواجه خزانة
عتيقة هي للمروحة والسجادة رفيقة وتطل نوافذ الغرفة على ماسبق أن وصفنا
من الشرفة التي تكمل السير فيها لتجد باب الجناح الخاص بمولانا الشيخ رضي
الله عنه الذي تم تجهيزه للإقامة وملحق به حمام خاص وبراد مائي يعمل بعض
الوقت لترطيب الحرارة.
وعندما تخرج من الباب تجد في مواجهتك ميضأة صغيرة يتوسطها صنبور واحد كان
سيدي فخر الدين يتوضأ منها ، وبعد أن تتجه يمينا تجد فناء يقف على أحد
جانبيه صف من الحمامات وعلى الجانب الآخر غرف الخدمات التي تؤدي بدورها
الى المطبخ الذي تربطه بغرفة مواجهة له صالة صغيرة لإعداد صواني الطعام ،
لم يتبق لي ولكم من المشاهد غير الحديقة المثلثة الخلفية التي تقف على
استحياء خلف المبنى تنتظر ما يفعل بها في المستقبل القريب.
وينتشر الهدى في الأرض حتى يعم
النور أطراف الوعاء
وبالفعل من هنا بدأت الزوايا البرهانية من عطبره وإنتشرت وسوف تنتشر بإذن
الله حتى تعم المشرقين.
محمد صفوت جعفر
|