ترجمـة القرآن الكريم - 2

الفرقـة الـاجيـة

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

 

ترجمة القرآن الكريم - 2

 

إذا علمت ذلك الأصل وأنه لا يسمى قرآنا إلا ذلك اللفظ العربي الذي أنزل للإعجاز، وأن قراءة القرآن فرض في الصلاة على القادر عليها بإجماع الأئمة، فاسمع أقوالهم في كتابة القرآن بغير العربية، وفي قراءته بغير العربية في الصلاة وخارجها :أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يجوز كتابة القرآن بغير اللغة العربية، لأن كتابته بغيرها تخرجه عن الرسم الوارد الذي قام بالإجماع على أنه يجب التزامه، بل قد يؤدي كتابته بغير العربية إلى التغيير في اللفظ، لأن الحروف العربية لا نظير لها في بعض اللغات الأخرى، والتغيير اللفظي يؤدي إلى التغيير في المعنى، وحيث كانت الكتابة بغير العربية تؤدي إلى هذا، فلا تجوز. وقال بعض علماء الحنفية : إن من تعمد كتابة القرآن بغير العربية يكون مجنوناً أو زنديقاً فالمجنون يداوى والزنديق يقتل. أما ما نقله صاحب فتح القدير عن الكافي من انه إذا كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز فهو في خصوص ترجمة التفسير. ونحن نسلم جواز ترجمة التفسير ليتمكن العاجز عن العربية من استفادة المعاني. وأجمع الأئمة أيضاً على أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة، ويمنع فاعل ذلك أشد المنع، لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه، بل يوجب الركاكة  لأن الكلام المترجم من اللغة العربية إلى غيرها قد يحصل فيه تقديم المضاف إليه على المضاف، والصفة على الموصوف، ونحو ذلك مما يخل بالنظم. وقد صرحوا بأن ترتيب كلمات القرآن على ذلك الوجه الوارد، من مناط الإعجاز، وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم عليه إجماعاً للمعنى المتقدم، لكن لو فرض وقرأ المصلي بغير العربية هل تصح صلاته أو تفسد ؟ قال مالك والشافعي وأحمد : إذا قرأ المصلي بغير العربية سواء كان قادراً على القراءة بالعربية أو غير قادر، فسدت صلاته، لأن المقروء ليس بقرآن لعدم اللفظ العربي، فيصير آتياً في صلاته بما ينافيها، وهو جنس كلام الناس فتفسد صلاته، بقي الكلام في مذهب أبي حنيفة، وإليك البيان : ذكر الحنفية في كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولاً : إذا قرأ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة، ثم رجع عن ذلك وقال : متى كان قادراً على العربية ففرضه قراءة النظم العربي، ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها عن القراءة مع قدرته عليها والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا،  روى رجوع الإمام أبي حنيفة عن القول بجواز القراءة بغير العربية في الصلاة مع القدرة عليها نوح بن أبي مريم، وهو من أصحاب أبي حنيفة، أخذ الفقه عنه وأخذه أيضاً عن ابن أبي ليلى ؛ ورواه أيضاً علي بن الجعد، وهو من أصحاب أبي يوسف، وروى عنه البخاري وأبو داود أحاديث. وقال أبو حاتم : لم أر من المحدثين من يحدث بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى علي بن الجعد. وهو من علماء القرن الثاني والثالث ؛ ورواه أيضاً أبوبكر الرازي، وهو أحمد بن علي الجّصاص، وهو إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته، تفقه على أبي الحسن الكرخي، وهو من علماء القرن الرابع.

وحيث كان رواة رجوع الإمام بهذه المنزلة فلا معنى لأن يجعل سكوت باقي أصحاب أبي حنيفة عن نقل الرجوع مثاراً للشك، فإنه لم يقل أحد : إن سكوت أبي بكر أو عمر أو عثمان عن نقل حديث رواه أبو هريرة موجب للشك، هذا الذي ذكره المحققون من علماء الحنفية.

وغير خاف أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولاً له، لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب، وحينئذ لا يكون في مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية في الصلاة للقادر عليها، فلا يصح التمسك به ولا النظر إليه، خصوصاً وأن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح في أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى لا للمعنى فقط.

أما العاجز عن العربية ويمكنه أن يقرأ بغيرها، فقد ذكر صاحب الهداية أنه إذا قرأ بغير العربية لا تفسد صلاته، وذكر قاضي خان في فتاويه أن صلاته تفسد، ووقف صاحب البحر بين هاتين الروايتين بحمل القول بعدم الفساد على ما إذا كان المروء ذكرا أو تنزيها، والقول بالفساد على ما إذا كان المروء قصة أو أمرا أو نهي. وقال صاحب النهر : إن هذا التوفيق هو الذي اختاره الكمال بن الهمام.

والبقية في العدد القادم بمشيئة الله.             (من التراث العربي)

 

الـفـرقــة الـنـاجـيــة

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الأربعة (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفْتَرِقُ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَة) ولَمّا سُئِلَ عنها قال في رواية الترمذي (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي).

ولا بد للقارئ الجيد المستزيد مِن نور الإيمان الطَّموحِ إلى نيل العلوم الباسقات أن يضع أمام عينيه كل الروايات أو ما يجمع ألوانها وأنماطها في الموضوع الواحد ؛ حتى يتسنى له فهْم كل رواية على حدة ، فإن وجد اختلافاً فعليه أن يستخدم آلات اللغة ويستفتح الله ما أغلق دونه ، ثم ينظر هل جمَع العلماء بين الأطراف المتنافرة في الروايات ؟ فإن كان هناك جمْعٌ فبها ونعمت ، وإن كان غير ذلك فليجتهد قدْر استطاعته التماس الجمع بين النصوص ـ وهو شأن العلماء وطلاب العلم ـ فإن استطاع وإلا أَمسَك حتى يفتح الله عليه بنعمة الفهم عنه فيدخل في زمرة المتقين {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلّـِمُكُمُ اللَّه} البقرة مِن الآية 282

نظرة إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في توجيه الأمة :

تنشأ مشكلة أو مسألة في هذه الروايات وعلى مدى تاريخ الإسلام منذ نطق النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات هي موضع الداء أو موضع الدواء ، فالمراد دائماً عند السائل أن يجيبه المسئول عن سؤاله ، فإذا أجاب المسؤول بكلام غير مباشر فقد يبدو الأمر صعباً بعض الشيء ، خصوصاً إذا كان هذا المسؤول هو المبعوث للناس كافةً وهو الشارع لأمته  أو واضع شريعتهم.

 ولتتأمل إجابته على مَن سأله بقوله : مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّه ؟' ـ أي الملة التي تدخل الجنة أو الفِرقة التي تنجو من النار ـ تأَمَّلْ قوله (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) تجده مما اصطلح عليه البلاغيون بلفظ الكناية، وهي لفظ أريدَ به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى..

قال السكاكي: والكناية تتفاوت إلى تعريض وتلويح ورمز وإشارة وإيماء..

والكناية فيها لزوم مَن يفهم المراد ، وليس كل الناس يفهمونه ، فلماذا اتبع هذا اللون مِن ألوان البلاغة     في موضع كل المراد فيه الإيضاح لينجو مَن عرف ويهلك مَن انحرف ؟!  وهنا تتجلى عظمة الرسالة بل ورحمةُ المبعوث رحمةً ، وإن رحمته كمشرِّع تقتضي أن يخاطب الناس على قدْر عقولهم ، ولكن الأمر ـ موضوع الحديث ـ أمر فتنة ،   وفي الفتنة يصبح الحليم حيراناً، والفتنة نائمة في الأرض فلم يتكلم بالتصريح حتى يَلْحَقَ العاجز عن الفهم بمَنْ فَهِم ولو بعد حين إذا تَوَّجهَ وسعى إلى رضا مولاه بعد أنْ حار زمناً ثم استجار أو استخار أو استشار.

والأمر الذي اقتضت حكمة الله تعليق النجاة عليه أمر يتطلب قدرةً خاصّةً قد يتعذر على أمة كلها في آن واحد أن تُحصِّله ، فاقتضت رحمته التلميح به والتعريض ؛ لِيرى كل واحد في الأمة مرآه على قدر فهمه ومرماه ، فإن اجتهد وأصاب فله أجران ، وإن أخطأ لم يُحرَم الأجر الواحد ،  فيا له مِن رسول بالمؤمنين رءوف رحيم ، وهذا الأمر ذاته يمكن أن يتعدد على حسب الفهوم والقوابل في الأمة ؛ فما تراه أنت مِن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة شيء معين ، ويرى غيرك من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة شيئاً آخَر ، ويرى ثالث آخَر ، وهكذ.. كلٌّ على حسب اجتهاده في الفهم ؛ لأن الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مِن خير لا يمكن أن يعدّه عادٌّ أو يحدّه حادٌّ

قُلْتُ الْمَعَانِي فِي عَظِيم بِنَائِهَا            كـُلٌّ يَرَى قَوْلِي عَلَى مِرْآتِـهِ

ولِهذا كانت القيمة الكبرى لِعالِمنا وأستاذنا الإمام فخر الدين في زماننا هذا أنه جاء مِن الله بفهم وعلم لم يسبقه إليه أحد ، مع أنه سهل المنال ومؤيَّد بنصوص الكتاب والسّنّة ، ثم عبَّر عنه بيسير المقال ، ففك رمزاً وحلَّ لغزاً في زمن نحن فيه أحوج ما نكون لِفهم آيات كتاب الله وسنّة سيدنا رسول الله..

فقال  في معرض تأويله لفاتحة الكتاب شارحاً  صفة اليهود والنصارى ثم المسلمين في سياقٍ يأخذ بك ليضع يديك على كيفية الجمع في الفهم بين القرآن الكريم والسّنّة المطهرة : يقول الإمام فخر الدين  في قصيدته واصفاً حالَ الأُمّة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم حالها في زمنه هو:       

إِذَا كَانَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ تَفَرَّقـُوا          كَذَلِكَ مَنْ ضَلُّوا فَمَا بَالُ أُمَّتِــي

قَضَتْ سُنَّةُ الْمَوْلَى الْعَظِيمِ عَلَيْهِمُ          فَرَاحـوا ثَلاَثَاً فَوْقَ سَبْعِينَ شُعْبـَةِ

فَلـَمْ تَنجُ إِلاَّ فِرْقَةٌ لِوُقُوفِهـــَا          بِأَعْتَابِ آلِ الْبَيْتِ أَهْلِ الْحِمَايَــةِ

فَأَيُّ نَجَاةٍ فِي الْحَيَاةِ بِدُونِهـــِمْ        إِلَيْهِمْ يَسِيرُ الرَّكْبُ حــَجّاً وَعُمْرَةِ

والبقية تأتي

د. إبراهيم دسوقي بدور

 

وَلِي نَظْمُ دُرٍ

نعمت النار بل ونعم الوقود

الحمد لله الذي فرض علينا حب نبيه صلى الله عليه وسلم والحمد لله الودود الذي اصطفى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له الحبيب وصلِ اللهم على من قال وهو لا ينطق عن الهوى (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ونفسه التي بين جنبيه) أو كما قال وآله وسلم تسليم.

يعلم الناس بالضرورة ضرورة وجود عاطفة الحب لا سيما وهم يعيشون بها وقد تتغلغل تلك العاطفة في داخل المرء وتتعمق فيه ثم تصبح أبعد عمقاً وهكذا إلى أن يصير المحب فانياً في المحبوب :

خطرات ذكرى تستثير مودتي      وأحس منها في الفؤاد دبيبـا

لا عضو لي إلا وفيه محبـةٌ       فكأن أعضـائي خلقن قلوبـا

فإن الحب مقام إلهي إذ أن الله قد وصف به نفسه وتسمى بالودود ومما أوحى الله به إلى سيدنا موسى عليه السلام في التوراة (يا ابن آدم إني وحقي لك محب فبحقي عليك كن لي محبا) ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الباب إلى حضرة مولاه تعالى ، وقد صرح الصوفية بأن الاتباع يوجب محبته صلى الله عليه وسلم ولذا نجد لسان حالهم يردد ويكرر :

حبيب ليس يعدلــه حبيب        ولا لسـواه فـي قلبي نصيـب

وأيضاً :

ولقد صرفت لحبه كلي على         يد حسنه فحمدت حسن تصرفي

ويقول الشيخ محمد عثمان عبده يصف ما يفعله حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن يحبه :

 أضرمت في حشا محبك نار        نعمت النار بـل ونعم الوقـود

إن النار دفء والنار دواء والنار داء والنار عذاب... والشوق نار حامية ونعمت النار هي نار الشوق وأي شوق غير الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد اشتعلت تلك النار في حشا من يحبه ولقد نص الشيخ على الحشا ليدلل على أن ذلك المحب قد وصل في حبه إلى مرتبة العشق وهو الحب المطلق فإن الحب إذا عانق القلب والأحشاء سمي عشقاً :

ولما ذكـرت الحب قالت كذبتـني       الست أرى منك العظام كواسيا

وما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا      وتخرسا حتى لا تجيب مناديـا

وتهزل حتى لا يبقى لك الهــوى       سـوى مقلة تبكي بها وتناجـيا

لقد حذف الشيخ محمد عثمان عبده في نظمه فاعل الإضرام فبنى الفعل للمجهول ليثبت حدوث الفعل ولعدم حاجة السامع لمعرفة الفاعل، كما أن تقديم قوله (في حشا محبك) على قوله (نار) وهي نائب فاعل ما يفيد أيضاً اثبات انتقال النار على وجه الخصوص في حشا المحب. ويبدو أن تلك النار ليست ككل نار إذ أنه أتى بها نكرة أي أنها نار مخصوصة بدليل قوله (نعمت النار) بل قوله (نعم الوقود) ويفهم ضمنا أن بئست النار هي نار الحب في غير حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبئس الوقود هو مسبب ذلك الحب.

ونجد أن الصوفية قد أولعوا بالمحبوب فأصبحوا في سبيل ارضائه والوصول إليه لا يبالون بما يجدونه من أرق وغيره وعجبي أن ما يجيدونه على خلاف العادة :

كـل سوء في هواهم حسنـا        وعــذابي برضـاهم عذبـا

ويقول الشيخ محمد عثمان عبده :

ألا إن داء الحب للصب علة        ولكنها تشفي عضال الأعلــة

فلعل نارهم تصير برداً وسلاماً لسمو غاياتهم ورفعته.

ولتنظر عزيزنا القارئ لقوله (نعمت النار ونعم الوقود) تجد أنه قد نظم هاتين الجملتين بعد قوله في صدر البيت (أضرمت في حشا محبك نار) وذلك ليدلل على أن نار الحب وأسبابها (الوقود) لا تتنافى مع ما جاء به الإسلام أي أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي حصلت بالإلتزام بنهجه وكثرة الصلاة عليه هي نعم المحبة وأن أسباب حصولها هي نعم الأعمال. وتفيد الواو مع بل في قوله (بل ونعم الوقود) بعد جملة (نعمت النار) العطف مع عدم سقوط الجملة السابقة لها أي نعمت النار مع نعم الوقود.

وهناك إشارة لطيفة أخرى هي أن تلك النار قد تزداد دائماً وذلك بإزدياد الوقود فكلما ازداد الوقود ازدادت النار اشتعالاً ولا غرابة في ذلك إذ أن الحب شربٌ بلا ري وقالوا إن من حد الحب ما عرفه

وصلى اللهم على سيدنا محمد من كانت نار حبه نعمت النار بل ونعم الوقود وآله وسلم.

 

د. الوسيلة إبراهيم