كشف ما شاهد الكرام محال
إن من أغلى الأشياء التى يحرص أهل الله تعالى عليها ويحثُّ عليها
الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده (المحبة) محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم
ومحبة أهل بيته وصحابته رضى الله تعالى عنهم وبالتالى محبة كل الأولياء والصالحين
بل محبة كافة الناس، ولكن من أخطر الأشياء التى ينبهون إليها ويحذرون المريدين من
الوقوع فيها هى الدعوى وإظهار المحبة والوله كما قال الشيخ رضوان الله تعالى عليه:�
ماذا يقول المدعى يوم اللقا فى
�جمعة العرض الكبير الدامى
ولعلمه التام بإنكار بعض الناس إمَّا عن قصد وعناد وإمَّا جهلاً يقول من
باب الشفقة والرحمة التى عرف بها:�
إن خـشيـتـم أن
يضـل ����� الناس فى قولــى
فكنوا
ويعلل ذلك بقوله:�
كشف ماشاهد الكرام محال ������ إن يكن ممكنا فثم الحياء
وفى هذا السياق نورد هنا ما جاء فى كتاب احياء علوم الدين للإمام أبى
حامد بن محمد الغزالى رضوان الله تعالى عليه: فإن قلت: المحبة منتهى المقامات
وإظهارها إظهار للخير فلماذا تستنكر؟ فاعلم أن المحبة محمودة وظهورها محمود أيضاً
وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار، وحق المحب أن ينم
على حبه الخفى أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله، وينبغى أن يظهر حبه من غير قصد
إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب، بل ينبغى أن يكون قصد المحب
اطلاع الحبيب فقط، فأما إرادته اطلاع غيره فشرك فى الحب وقادح فيه، كما ورد فى
الإنجيل (إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك ما صنعت يمينك فالذى يرى الخفيات
يجزيك علانية وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لكى لا يعلم بذلك غير ربك) فإظهار
القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا
يلام فيه صاحبه. حكى أن رجلاً رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه فأخبر بذلك
الشيخ معروف الكرخى رحمه الله فتبسم ثم قال: يا أخى له محبون صغار وكبار وعقلاء
ومجانين فهذا الذى رأيته من مجانينهم. ومما يكره التظاهر بالحب بسبب أن المحب إن
كان عارفاً وعرف أحوال الملائكة فى حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذى فيه يسبحون
الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا من نفسه
ومن إظهار حبه وعلم قطعاً أنه من أخس المحبين فى مملكته وأن حبه أنقص من حب كل محب
لله تعالى، قال بعض المكاشفين من المحبين: عبدت الله تعالى ثلاثين سنة بأعمال
القلوب والجوارح على بذل المجهود واستفراغ الطاقة حتى ظننت أن لى عند الله شيئاً
فذكر أشياء من مكاشفات فى قصة طويلة قال فى آخرها: فبلغت صفاً من الملائكة بعدد
جميع ما خلق الله من شئ، فقلت: من أنتم؟ فقال: نحن المحبون لله عز وجل نعبد هاهنا
منذ ثلاثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواه ولا ذكرنا غيره، قال: فاستحييت من
أعمالى فوهبتها لمن حق عليه الوعيد تخفيفاً عنه فى جهنم فإذاً من عرف نفسه فقد عرف
ربه واستحى منه حق الحياء خرص لسانه عن التظاهر بالدعوى، نعم يشهد على حبه حركاته
وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته، كما حكى عن الإمام الجنيد رضوان الله تعالى
عليه قال: مرض أستاذنا السرى رحمه الله فلم نعرف له دواء ولا عرفنا لمرضه سبباً،
فوصف لنا طبيب حاذق، فأخذ قارورة من مائه (يعنى بوله للفحص) فنظر إليها الطبيب
فجعل ينظر إليه ملياً ثم قال لى: أراه بول عاشق! قال الإمام الجنيد رضوان الله
تعالى عليه: فصعقت وغشى علىّ ووقعت القارورة من يدى، ثم رجعت إلى الأستاذ السرى
فأخبرته، فتبسم وقال: قاتله الله ما أبصره! قلت يا أستاذ وتظهر المحبة فى البول؟
قال: نعم، وقد قال الأستاذ السرى مرة: لو شئت أقول: ماأيبس جلدى على عظمى ولا سلَّ
جسمى إلا حبه ثم غشى عليه، وتدل الغشية على أنه أفصح فى غلبة الوجد ومقدمات الغشية
فهذه مجامع علامات الحب وثمراته وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة
الحب.. وما لا يثمره الحب فهو اتباع الهوى ورذائل الأخلاق، نعم قد يحب الله لإحسانه
إليه وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه، والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين
ولذلك قال الامام الجنيد رضوان الله تعالى عليه: الناس فى محبة الله تعالى عوام
وخواص، فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم فى دوام إحسانه وكثرة نعمه فلم يتمالكوا أن
أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان، فأما الخاصة فينالون
المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك، ولما عرفوا صفاته
الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل
لها ولو أزال عنهم جميع النعم، نعم من الناس من يحب هواه، وعدو الله إبليس وهو مع
ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل فيظن أنه محب لله عز وجل، والذى فقدت فيه هذه
العلامات أو يلبس بها نفاقاً ورياء وسمعة وغرضه عاجل حظ الدنيا وهو يظهر من نفسه
خلاف ذلك كعلماء السوء وقرناء السوء، وكان سهل رضوان الله تعالى عليه إذا تكلم مع
إنسان قال: يا دوستى أى ياحبيب فقيل له: قد لا يكون حبيباً فكيف تقول هذا؟ فقال فى
أذن القائل سراً: لا يخلو إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً فإن كان مؤمناً فهو حبيب
الله عز وجل وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس.
وقد شهدنا عياناً آيات الحب الصادق وثمراته فى سيرة مولانا ومربى
أرواحنا الإمام فخر الدين رضوان الله تعالى عليه الذى أحب الحبيب (وأهل بيته
وصحابته رضى الله تعالى عنهم بل أحب كل الأولياء وغرس فى أبنائه ومريديه ذلك الحب
وحثهم على احترام القوم ودلَّهم على معنى قول الله سبحانه وتعالى {إنما المؤمنون
إخوة} وأرشدهم إلى من هم المؤمنون، وكان رضوان الله تعالى عليه يقول حين يتلو قول
المولى تبارك وتعالى {لا نفرق بين أحد من رسله} كذلك لا نفرق بين أحد من أوليائه
وقال فى بعض قصائده:
وأرضعت أبنائى هوى آل أحمد�� � فأورثهم طه الصفاء ورحمتى
كما قال أيضاً:�
فى حصن أمنى من يرتل آيتى����������� ليسير محفوظا بسيف حمانا
والسير إلى الحب هو الذكر الذى حثّ عليه مولانا الشيخ رضوان الله
تعالى عليه حيث قال:
يامريدى رضاى فى ذكرك الله� �� يامريدى
خزائن الله عندى
أحمد محمد رضوان - القاهرة
|