النبى
الأمى
تفضل الله سبحانه وتعالى على الصنف
البشرى بالعلم ليميزهم على سائر المخلوقات حتى ملائكته الكرام، فأول ما
خلق الله من البشر هو سيدنا
آدم ولقد أخبر سبحانه ملائكته بأنه جاعل فى
الأرض خليفة فردوا بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك}(البقرة /30)،ولما خلق الله آدم علمه الأسماء
الإلهية كلها التى خلق منها الملائكة والتى يسبحون بها وعرضهم على
الملائكة وسألهم عنها فعجزوا عن الجواب، لأن كل ملك لا يعلم إلا الأسماء
الإلهية التى خلق منها والتى يعمل فى نطاقها والتى يذكر بها، وهذه
الأسماء تكون متوافقة غير متضادة لأن الملائكة لا تتحمل تضاد الأنوار
الإلهية التى تحمَّلها آدم وحملها أمانة خافت منـها الجبال والسماوات
والأرض إنه كان شديد الظلم لنفسه جهولا من كثرة علمه فاستحق خلافة الله
فى أرضه بعلمه لأسمائه جل وعلا.
{قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى
أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}(البقرة /33).
وإذا قال قائل بأن الأسماء هنا أسماء
الأشياء نقول لهم أن لفظة أسمائهم الواردة فى الآية الكريمة تتنافى مع
هذا المعنى وإن قال قائل بأن أسماءهم أى أسماء الملائكة أنفسهم مثل جبريل
وميكائيل وإسرافيل نقول له وهل كان اسم جبريل خفيا على ميكائيل وإسرافيل
أم كان اسم إسرافيل خفيا على جبريل وميكائيل.
إذاً المقصود هنا ليس أسماء الأشياء
أو المسميات أو أسماء الملائكة ذاتهم ولكن المقصود الأسمـاء الإلهية ولقد
أخبر سيدنا آدم كل الملائكة بالأسماء التى خلقوا منها ويذكرون بها ولا
يعلمون غيرها فقد أخبر سيدنا جبريل بأنه مخلوق من الاسم العليم ويعمل
بالاسم الخبير ويذكر بهمـا وأن وظيفته هى حمل العلم والكتب الإلهية إلى
الأنبياء والرسل الذين يبعثهم الله سبحانه وتعالى على مر الأزمان إلى
خلقه، لذا كان بيان عجز الملائكة أمام هذا العلم بقولهم {سبحانك لا علم
لنا إلا ما علمتنا}(البقرة /23)
والعلوم التى تنزلت مع سيدنا آدم هى بعدد الصناعات والألوان واللغات مائة
ألفٍ وأربعة وعشرون ألفا توافقا مع عدد الأنبياء والرسل الذين أرسلهم
الله سبحانه وتعالى إلى خلقه.
ولقد ورد عن سيدنا أبي ذر الغفارى أنه
قال (قلت : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال مائة ألفٍ وأربعة وعشرون ألفا،
قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم ؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير)(ابن
حبان الحاكم الطبرانى) وقد توارث الأنبياء والرسل هذه العلوم وورَّثوها.
علا فوق الفهوم مراد ربى
خلافته من البشر السوىِّ
فأول قبلة الســـجاد طين
عليه أشعة النور العلـىِّ
تولته العنـاية بعد جهـــل
على علم فأنعم من ولـىِّ
وداود الخليفة من هــداهـا
وعلمناه صنعة كل شـى
وفهمنا سليمان اقتـضاهـا
وعلَّمناه منطق كلِّ شـى
ولما كان العلماء من أمة الحبيب
المصطفى ورثة الأنبياء وأن النبى منهم هو أمة كاملة {إن إبراهيم كان أمة
قانتا لله حنيفا} (النحل /120) ، ورسول الله سيد الأنبياء والمرسلين
وسيد العلماء أجمعين الذين هم ورثة الأنبياء الطيبين الطاهرين ، فإنه
الأمى الذى لو وزن بالأمم من الأنبياء والمرسلين لرجحهم.
وهيا مع سيدنا أبي ذر الغفارى فى
سؤاله قال (قلت : يا رسول الله كيف علمت أنك نبى حتى استيقنت ؟ فقال يا
أبا ذر أتانى ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما إلى الأرض وكان
الآخر بين السماء والأرض فقال أحدهما للآخر: أهو هو ؟ قال: نعم قال :
فزنه برجـل، فرجحته ، ثم قال: زنه بعشر، فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة،
فرجحتهم ، ثم قال: فزنه بألف ، فرجحتهم ، كأنى أنظر إليهم ينتثرون عليَّ
من خفة الميزان فقال أحدهما لصاحبه لو وزنته بأمته كلها لرجحها)(الدارمى)
ولا يصح للمسلم وصف النبى بالجهل بالقراءة والكتابة لأنه
لا يحتاج
إليهما لأن الأحرف المكتوبة كانت تنطق له لشرفه وأنه لم يكتب لا لكونه
يجهل الكتابة ولكن لكى لا يقال إن القرآن كتاب من عنده ، ولو كانت الأمية
هنا بمعنى الجهل لكانت أمية الرأس للجسد وأمية مكة للقرى وأمية الفاتحة
للقرآن هى الجهل ، وهذا لا يستقيم مع المعنى.
ولو احتج البعض فى هذا الشأن بموضوع
آية اقر
أ نجد أنه لم يكن مع سيدنا جبريل ورقة فى ذلك الوقت لكى يقيم
الدليل على عدم معرفته بالقراءة ولكن كان المقصود بكلمة ما أنا بقارئ فى
هذا الموطن إنما هو سؤال عن ماهية ما يقرؤه وليس المقصود عدم المعرفة
بالشئ ذاته والدليل على ذلك:
أولا :أخرج ابن جرير الطبرى قال عن
البراء أن رسول الله قال ائتونى بالكتف واللـوح فكتب {لا يستوى القاعدون
من المؤمنين والمجاهدون} (النساء /59)
وابن أم مكتوم خلف ظهره فقال : هل من رخصة ؟ فنزلت {غير أولى الضرر}.
ثانيا :أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن
شفى الأصبحى عن رجل من أصحاب النبى وقال خرج علينا النبى وفى يده كتابان
فقال ما تدرون ما هذا ؟ فقلنا لا ، إلا أن تخبرنا يارسول الله فقال (هذا
كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وهذا كتاب فيه أسماء أهل النار).
فإن كان لا يقرأ فلِمَ أرسل الله إلى
نبيه كتابا ليقرأه !
وهنا نسأل عن قوله تعالى {هو الذى بعث
فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب
والحكمة}(الجمعة /26)
هل أرسل رسول الله (فى الأميين الذى هو منهم ، أى الذين لا يعرفون
القراءة والكتابة وهو منهم ليعلمهم ؟ وأى شئ يعلمهم إن كان يجهل حاشاه؟
وهل ثبت أن كل قريش لا يعرفون القراءة والكتابة ؟ فمن دوَّن القرآن
والسنة ونقل العلم الذى وصلنا ؟
يا كاملا من علوم الله أجمعهـا
يا أحمدٌ أيها المخصوص بالذات
ولو ادعى البعض أن العلوم التى بثها
رسول الله إنما علمها له جبريل لوجب علينا تصحيح الشهادة بأن نشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول رسول الله.
وكان رسول الله يطلب الزيادة فى
العلم كما روى أبو هريرة أنه كان يدعو: (اللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى
ما ينفعنى وزدنى علما والحمد لله على كل حال)(ابن ماجة الترمذى البزار)
وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد أمره بذلك حيث قال جل شأنه {وقل ربِّ
زدنى علما}(طه /411).
وسيدنا معاذ بن جبل يخبرنا أن رسول
الله كان يتلقى العلم من الله مباشرة من غير واسطة نبى مرسل أو ملك مقرب
فيقول
:
احتبس عنا رسول الله ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين
الشمس فخرج سريعا فثوَّب بالصلاة وصلى وتجوز فى صلاته ، فلما سلم دعا
بصوته فقال لنا : على مصافكم كما أنتم ، ثم انفتل إلينا ثم قال : أما إنى
سأحدثكم ما حبسنى عنكم الغداة، إنى قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدِّر
لى فنعست فى صلاتى حتى استثقلت فإذا أنا بربى تبارك وتعالى فى أحسن صورة
فقال : يا محمد ، قلت : لبيك ربى ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت :
لا أدرى ، قال : فرأيته وضع كفه بين كتفى حتى وجدت برد أنامله بين ثديى ،
فتجلى لى كلُّ
شيء وعرفت كل شيء ، فقال:يا محمد، قلت : لبيك ربى ، قال:
فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت:فى الكفارات ، قال : وما هن ؟ قلت : مشى
الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس فى المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء
على الكريهات ، قال : ثم فيم؟ قلت: فى الدرجات ، قال: وما هن؟ قلت :
إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام ، فقال : سل ، قلت
: اللهم إنى أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لى
وترحمنى ، وإذا أردت فتنة فى قوم فتوفَنى غير مفتون ، وأسألك حبَّك
وحبَّ من يحبك وحبَّ عمل يقرِّبنى إلى حبِّك ، فقال (إنها حق فادرسوها ثم
علِّموها)(أحمد الترمذى)
وعن عمرو بن أخطب الأنصارى قال (صلى
بنا رسول الله يوما الفجر وصعد على المنبر فخطبنا حتى حضرت صلاة الظهر
ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال
فأعلمنا أحفظنا) (مسلم).
وعن حذيفة قال (قام فينا رسول الله
مقاما ما ترك شيئا يكون فى مقامه هذا إلى قيام الساعة إلا حدث به ، حفظه
من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابى هؤلاء وانه يكون منه الشئ قد نسيته
فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غـاب عنه ثم إذا رآه
عرفه)(البخارى ومسلم).
وسيدنا عمر بن الخطاب يخبرنا (أن رسول
الله قد خطبهم من بعد صلاة الصبح إلى الظهر ومن بعده إلى العصر وبعده
إلى أن غربت الشمس قال فأخبرنا منذ أن خلق الله الخلق حتى أدخل أهل الجنة
الجنة وأهل النار النار)(مسلم - ابن كثير فى البداية والنهاية).
هذا أحد أوجه الأمية للحبيب المصطفى
الذى كان يذهب صلاة الله وسلامه عليه إلى غار حراء سنوات طوال يتعبد قبل
أن يأتيه جبريل بالوحى.
ومن الثابت أنه كان يصلى قبل ليلة
الإسراء والمعراج التى فرضت فيها الصـلاة فمن علمـه الصلاة ؟
ولما فرضت الصلاة وأمر بها القرآن جاء
الأمر بغير تفصيل لأوقاتها أو عدد ركعاتها أو هيئتها فمن أين أتى رسول
الله بكل هذه التفصيلات ؟ {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن
بالله
...}(الأعراف
/158).
وقد قال الحق تبارك وتعالى {الذين
يتبعون الرســـول النبى الأمى الـذى يجدونه مكتوبا عندهم
..}(الأعراف
/157)
فهو النبى الأمى الذى لا يجوز أن يكون هناك نبى معه فى زمنه كما ورد أن
بعض الأنبياء والرسل الكرام كان يعاصر بعضهم بعضا ، وذلك فى صريح القرآن
الكريم أن سيدنا لوط كان معاصرا لسيدنا إبراهيم عليهم السلام وكما ورد
أيضا أن سيدنا موسى وسيدنا شعيب وسيدنا هارون كانوا فى زمن واحد ويتصف
جميعهم بالنبوة والرسالة ، كما ورد أيضا أن سيدنا يحيى بن سيدنا زكريا
كان معاصرا لسيدنا عيسى بن مريم عليهم السلام وعلى نبينا أزكى الصلاة
والسلام.
ولكن النبى الأمى إذا ظهر وكان فى
زمنه أية رسالة أخرى جَبَّ ظهوره تلك الرسالة ووجب على الرسول الموجود
إتباعه كما قال تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق
...}(آل
عمران /18).
وقال سيدنا عبد الله بن عباس وسيدنا
على بن أبى طالب (لم يبعث الله نبيا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد
فى محمد لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ العهد بذلك
على أمته)(ابن جرير ابن كثير).
ولأنه النبى الأمى فقد ختمت به النبوة
فلا نبى بعده {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم
النبيين}(الأحزاب /40 ).
ولأنه النبى الأمى كان أصحابه ورثة
الأنبياء والعلماء ورثة الأنبياء (علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل) بل
فصَّل رسول الله فيما رواه أبو هريرة قال (لكل نبى فى بنى إسرائيل نظير
فى أمتى ، فأبو بكر نظير إبراهيم وعمر نظير موسى وعثمان نظير هارون وعلى
نظيرى ، ومن سرَّه أن ينظر إلى عيسى بن مريم فلينظر إلى أبى ذر)(ابن عبد
البر أبو نعيم فى الحلية المحب الطبرى).
ومع أنهم رضوان الله عليهم يرثون
الأنبياء وعلومهم إلا أنهم كانوا يرثون بعضا من رسول الله كما قال (أنا
مدينة الصدق وأبو بكر بابها ، أنا مدينة الحق وعمر بابها ، أنا مدينة
الحياء وعثمان بابها ، أنا مدينة العلم وعلى بابها فمن أراد العلم فعليه
بالباب)(التاج الجامع للأصول) وقـال أيضا (أنا دار الحكمة وعلى
بابها)(الترمذى الطبرانى الحاكم ).
وتفصيل الوراثة لرسول الله (تكون على
هذا النحو :
الفقهاء : ورثة أقواله.
العُـبَّاد : ورثة أحواله الظاهرة
المريدون : ورثة أفعاله القلبية
الباطنية
العارفون : ورثة أخلاقه الروحانية
الكُمُّـل : ورثة شئونه الخفية
وأسراره الصمدانية
وقد ورد فى الكمل حديث عن سيدنا أنس
قال قال رسول الله (يكمل من الرجال الكثير وما كمل من النساء إلا أربع
آسيا بنت مزاحم ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت
محمد)(البخارى)
والوراثة لرسول الله كما هو مبين قد تكون فى جزئية من جزئيات حاله أو
صدقه أو حيائه وقد تكون كليه شمولية كوراثة علمه الذى يحوى الحق والصدق
والحياء ويشمل شئونه وأسراره ولكن بغير إحاطة لكل كلياته :
وراثـة أرباب المـكارم رفـعـة
ورثت فصار البعض منىَ جملتـى
وراثة البعض إن قلت فقد كثرت
ونحن أبعاض بعض الفرد جملتنـا
ومن أحاديث السلسلة الذهبية الواصلة
إلى رواية الإمام على كرم الله وجهه عن رسول الله أنه قال : (ليلة
الإسراء والمعراج علَّمنى ربى ثلاثاً ، علم وأمرنى بتبليغه وعلم
وخيَّرنى فيه وعلم وأمرنى بكتمه)
(خرَّجه الإمام السيوطى فى الجامع
الصغير بسند حسـن)
محمحد
صفوت جعفر
|