العد د الرابع (مايو)

 

الأحوال هبة ووصال    -     الحلاج الصادق الحال


 الأحوال هبة ووصال -  الحلاج الصادق الحال

إن العلماء العاملين الصادقين العارفين بالله هم الذين لازموا الشريعة والطريقة والحقيقة� وجعلوا الذكر قولهم والاشتغال بالله تعالى دأبهم فلا يتحركون ولا يتكلمون ولا يصمتون إلا لله وبالله� فكل حركة وكل كلمة وكل صمت إنما هو قربة إلى ربهم ولذلك قال بعضهم: لو خرج منى نفس لغير الله لقتلت نفسي� فهم الذين لا تغرب عليهم شمس إلا قاموا لله سجدا يقرأون القرآن فيراوحون   بين جباههم وأقدامهم ثم يذكرون الله  فتنهمل دموعهم حتى تبتل ثيابهم� وإستقاموا على ذلك فلاح لهم من أنوار المعرفة ما جعل الخوف شعارهم� والعلم كنزهم والرضا حرفتهم واشتهر أهل الأحوال منهم بالتصريح لما يرد عليهم من تجليات فنطقوا بحقيقة ما يرد عليهم� وذلك لعدم تمكنهم من المقام� مثل هؤلاء يسمون أصحاب الأحوال� وليسوا  أصحاب مقام� ولقد سئل الإمام الجنيد  رضى الله عنه مالنا نرى القوم يهتزون وأنت لا تهتز معهم� فقال {وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون}

وقال أيضا:

   وأصبر على الحال واسكت عند وارده         تفدك أنواره حالا من الله

   ولا تنادى ولا تزعق وكــن جبلا          إلا إذا كنت مغلوبا ففي الله

   فالقول والفعـــل للمغلوب مغتفر        لدى الرجال وأهل العـلم بالله

  فالعلم بأحوال الطريق أمر عزيز وقال إبن عطاء (إذا أراد الله أن يعرفك بوَ لىّ طوى عنك شهود بشريته وأشهدك وجود خصوصيته)، وغاية القول فى التصوف هو علم خُيِّر فى تبليغه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علم له أهله لا يقبله غيرهم ولا ينكره إلاَّ جاحد جاهل� ففى الأربعين من حديث أبي عبد الرحمن الأسلمى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله� فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالما  آتاه الله علما منه فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه )� فإذا قلنا لأى متحدث أو متكلم ما هو حده من الدين ؟ أو ما هو موقعه من الدين؟ فإذا تجرد المتكلم  للمناظرة لتكفير  بعض الأولياء الأبرياء بحجة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر دون أن يسلك طريق الآخرة لم يكن عالما أصلا ولكنه قد يتميز عن الناس بصنعة المجادلة فقط� أما معرفة الدين أصلا فلا تتم إلا بالمجاهدة المنصوص عليها كتابا وسنة والقاعدة الأساسية عند المتصوفة: اعرف الحق تعرف أهله� وقالوا بداية الأمر التخلى ثم التحلى ثم التجلى� وقال ذو النون المصرى  وهو ثوبان بن إبراهيم الصوفى: من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإذا سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق،فهيا بنا نعيش مع المقتول ظلما (الإمام والعالم الشيخ أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج ) الذى نطق بالحقائق� ونطقت عنه الجوارح بقطع العلائق�

ولد فى قرية الطور فى الشمال الشرقى لمدينة البيضاء من مدن فارس بإيران� ثم انتقل مع أسرته إلى واسط فى العراق� ثم بعد ذلك إلى (تستر) وجلس إلى سهل بن عبد الله التسترى  رضى الله عنه، وبعد ذلك اجتمع مع عمرو بن عثمان المكى الصوفى وأخذ على يديه العهد� وقال المناوى لقب بالحلاج لأنه قعد على دكان حلاج وبها مخزن قطن غير محلوج، وذهب صاحب الدكان لقضاء حاجة ثم رجع فوجد القطن كله محلوجا، فاشتهر بذلك، ويقال إن أباه كان حلاجا فاشتهر بصنعة أبيه� صحب من المشايخ سهل بن عبد الله التسترى وعمر بن عثمان المكى  والجنيد  والثورى  والقوطى وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين،واشتهر بأنه من أهل الشطح أى أنه صاحب حال� واختلف فيه الناس ما بين مكفر له، ومعتقد فى ولايته� وأجمع علماء عصره أنه من المحققين منهم أبو العباس بن عطاء ومحمد بن خفيف وأبو القاسم النصر أباذى� حتى إن محمدا بن خفيف قال عنه: الحسن بن منصور عالم ربانى والمتأمل فى سيرته رضى الله عنه  يجد أن التصوف عنده ليس هروبا أو انعزالا  عن الناس بل هو جهاد للنفس وللشيطان والهوى والدنيا� ولذلك نجد أنه لما قصد مكة لأداء فريضة الحج مكث فيها سنة كاملة  وجاهد نفسه بكل الرياضيات حتى أن أحد أتباعه كان يأتيه فى المساء بكوز ماء وقرص من الطعام فيأتى الصباح والقرص على رأس الكوز، وقد أكل منه شيئا يسيرا وشرب من الماء مقدارا قليلا� وفى تاريخ إبن خُلكان (قتل الحسين بن منصور الحلاج ولم يثبت ما يوجب عليه القتل ) وقد أشار القشيرى فى رسالته إلى تزكيته وذكر عقيدته مع عقيدة أهل السنة والجماعة� ونلاحظ ذلك عندما نطق بلسانه  فأبان نطقه وتحققه ومعرفته، فقال: ألزم الكل الحدث،لأن القدم له، فالذى بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه، والذى بالإرادة إجتماعه فقواها تمسكه، والذى يقيمه غيره فالضرورة تمسه، ومن آواه محل أدركه الأين، إنه سبحانه وتعالى لا يظله فوق ولا يقله تحت ولا يقا بله حد، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف، ولا يحده أمام، ولم يظهره قبل، ولم يفنه بعد، ولم يجمعه كل، ولم يوجده كائن، وصفه لا صفة له وفعله لا علة له، وكونه لا أمد له، تنزه عن أحوال خلقه، ليس له من خلقه مزاج ولا فى فعله علاج، يأتيهم بقدمه كما يأتوه بحدوثهم، إن قلت متى فقد سبق الوقت كونه، وإن قلت هو فالهاء  والواو خلفه وإن قلت أين فقد تقدم المكان وجوده، فالحروف آياته ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده،وتوحيده تميزه من خلقه، ما تصور فى الأوهام فهو بخلافه، لا تماثله العيون، ولا تقابله الظنون، قربة كرامته، وبعده إهانته، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن  الذى ليس كمثله شئ وهو السميع البصير� فما نطق إلا بالحق� وهذا منطق المتحققين العارفين� فكيف يحكم عليه بالقتل أو بالكفر، وكان من أحواله رضى الله عنه التطو ر، فلما طلب للقتل تطور فى البيت فملأه فأتاه الإمام الجنيد رضى الله عنه وقال له: (لقد فتحت فى الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك، فاخرج فسلم) ولما وقع دمه على الأرض كتب الله الله، أليس فى ذلك شهادة لعظم ولايته، وقال الحلوانى:(قدم الحلاج للقتل وهو يضحك، فقلت: ياسيدى ما هذا الحال ؟ قال: دلال الحال الجالب إليه أهل الوصال)�

وعن أبى العباس بن عبد العزيز قال: كنت أقرب الناس من الحلاج حين ضرب فكان يقول مع كل سوط أحد أحد، وسئل ذات يوم عن الصبر  فقال: أن تقطع يد ا الرجل ورجلاه ويسمر ويصلب على هذا الحر  قال: ففعل به كل ذلك�

وقال عيسي القصار: إن آخر كلمة قالها الحسين بن منصور عند قتله (حسب الواحد إفراد الواحد له) فما سمع بهذه الكلمة فقير إلا رقَّ له واستحسنها منه� وقال السلمى: سمعت منصور بن عبد الله سمعت الشبلى يقول: كنت أنا والحلاج شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت، وسمعت منصور يقول: وقف الشبلى عليه وهو مصلوب فنظر إليه وقال: ألم ننهك عن العالمين�

وسئل عن التصوف وهو مصلوب  فقال للسائل: أَهْوَنَه ما ترى�

فما هو خطأه وما هو ذنبه ؟  ولكنها المعاداة للصالحين والأولياء فى كل زمان ورغم التصريح بصدق حاله إلا أنه ستر الكثير مما يعلم فقال:

 

   إنى لأكتم من علمى جواهــره           كى لايرى العلم ذو جهل فيفتتنا 

   وقد تقدم فى هذا أبو حســنٍ            إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

    يارب جوهر علم لو أبوح بـه            لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنــا

   ولا ستحلَّ رجال مسلمون دمى           يرون أقبح ما يأتونه حسنـــا

وقال سيدى ابن عباس رضى الله عنه:  لو فسرت لكم معنى  قوله  تعالى (يتنزل الأمر بينهن) لقلتم إن ابن عباس كفر� وقال الإمام على رضى الله عنه: لو حدثتكم بحديث سمعته من فم أبى القاسم لقلتم إن عليَّاً أكذب الكذابين� وهذا مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم)�

قال أبو إسحق إبراهيم بن عبد الكريم الحلوانى: خدمت الحلاج عشر سنين وكنت أقرب الناس إليه، ومن كثرة ما سمعت الناس يقعون فيه ويقولون إنه زنديق توهمت فى نفسى فأخبرته� فقلت له يوما: (ياشيخ أريد أن أعلم شيئا من مذهب الباطن�) فقال: (باطن الباطل أو باطن الحق ؟ ) فبقيت متفكرا، فقال: أما باطن الحق فظاهره الشريعة، ومن يحقق فى ظاهر الشريعة فينكشف له باطنها وباطنها المعرفة بالله� وأما باطن الباطل فباطنه أقبح من ظاهره، وظاهره  أشنع من باطنه، فلا تشتغل به يابنى، أذكر لك شيئا من تحقيقى فى ظاهر الشرعية ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده� وأنا الآن على ذلك، وما صليت صلاة الفرض قط إلا وقد اغتسلت أولا وتوضأت لها ، وهاأنا ابن سبعين سنة، وفى خمسين سنة صليت صلاة ألفى سنة كل صلاة قضاء لما قبلها�

ومن كلامه رضى الله عنه (أعلموا أن الهياكل قائمة بياهوهه، والأجسام بياسينه والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصلية ثم أنشأ يقول:

   عقد النبوة مصباح من النـور                معلق الوحى فى مشكاة تامـور

    بالله ينفخ نفخ الروح فى خلدى               لخاطرى نفخ إسرافيل فى الصـور

   إذا تجلَّى بطورى أن يكلَّمـنى              رأيت فى غيبتى موسى على الطـور

وقال إبراهيم بن عبد الله الرازى: لما صلب الحلاج وقفت عليه فقال: يإلهى أصبحت فى دار الرغائب أنظر إلى العجائب، إلهى إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك�

ومن كراماته إنه كان يخرج للناس فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف ويمد يده فى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم مكتوب عليها قل هو الله أحد ويسميها دراهم القدرة�

وقال الإمام ابن العربى: رأيت الحلاج فى بعض التجليات فقلت له: لم تركت بيتك يخرب ؟ فتبسم وقال: لما استطالت عليه أيدى الأكوان حتى أخليته فأفنيت، وأخلفت هارون فى قومى، فإستضعفوه  لغيبتى فأجمعوا على تخريبه، فلما هدوا من قواعده ماهدوا، ورددتُ إلى الله بعد الفناء� فأشرفت عليه وقد حلت به المثلان�

فأنفت نفسى أن أعمِّر بيتا تحكمت فيه أيدى الأكوان، فقبضت عنه فقيل مات الحلاج ومامات الحلاج، لكن البيت خرب والساكن ارتحل� والسلام عليه يوم نلقاه ونلقى الأحبة�آمين� 

محمد رشاد حسين


أتى لفيف من الكتاب إلى سيدي فخر الدين رضي الله عنه في القاهرة وسألة أحدهم عن القرآن الله سبحانه وتعالى وصفه بأنه عربي مبين فقال الشيخ: نعم ولكن عربية ربنا وليست عربيتكم واستكمل الضيف حديثه ولكن هناك في القرآن احرف زائدة لوحذفت لاستقام الكلام لغة لأن الأحرف لاتضيف شيئا المعنى.

فقال الشيخ رضي الله عنه هذا كلام نظري والأجدر أن تضرب مثالا تستدل به على صحة قولك فقال الرجل في أدب : حينمأ روى الله عز وجل قصة قارون قال تعالى (وآتيناه من الكنوز مأ إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) وحرف (إن) في الآية زائدا لايفيد معنى بل لو كانت الآية (مامفاتحه لتنوء) لكانت أبلغ.

فقال الشيخ: ماهي العصبة أولي القوة التي كانت تنوء بحمل تلك المفاتيح؟

فقال الرجال مستغربا العلا قة بين سؤاله عن (إن) واستفسار الشيخ عن القوة التي تحمل المفاتيح قالوا في الكتب أنها كانت تحمل على البغال.

فقال الشيخ كانوا كام بغلة؟

فقال الرجل وهو أكثر استغرابا لاأدري.

فقال الشيخ : جواب هذ السؤال هو حرف (إن) الذي تريد أن تحذفه بمعنى أن عدد البغال في عدد (ان) الزائدة فحرف الألف  يساوي واحد في الأعداد وحرف النون يساوي خمسين أي أن عدد البغال التي كانت تحمل مفاتيح قارون كانوا واحدا  و خمسين بغلة ولوحذ فنا (إن من الآية) فإن هذه المعلومة تضيع من القرآن وإن قال البعض وما فائدة هذة هذه المعلومة لقلنا له كمال البارىء (مافرطنا في الكتاب من شىء) وكذلك يجد سيدنا عبدالله بن عباس عقال بعيره في القر آن ولذا نقول أن القرآن عربية ربنا وليست عربية أفهامنا.

 شيخ أبوه