العد د الرابع (مايو)

 

من هدي وإرشاد الشيخ محمد عثمان

شـــراب الوصــل


من هدي وإرشاد الشيخ محمد عثمان

كانت ساحته روضة للنفوس وجنة للأرواح يغمرها النور وتحفُّ  بها الرحمة فلا يحس طا لب أنه بعيد عن غايته ومطلبه أو غريب عن داره وموطنه بل هو بين أهله وعشيرته تتعارف الأرواح فتتألف فى إصغاء تام لكلمات الدرس وأنوار حروفه تهدى إلى الحق وتكشف الرموز فى إشارات الصوفية وتفك طلاسم القرآن وتنسب كل قوة من قوى الإنسان إلى الطبيعة الغالبة  عليه فى أسلوب بديع يجمع بين الدعوة ، وحال الداعى يسبق خطابه إلى القلوب قبل الاسماع لا يأتى سائل عن مسألة إلا أثلجت صدره الإجابة وخرجت به من هواجس الفكر وعوارض الأوهام إلى برد اليقين ومعارف المؤمنين �

وكان رضى الله عنه يتنزل للصغير لا يكلفه أعلى المكان ويرتقى بطالب العلم إلى درجات  كمال المعرفة وسلامة الإدراك لا يمل مجالسه ولو أمضى الساعات الطوال :

وعمر النسر معكم بعض يوم          وساعة غيركم عام فعام

وكان رضى الله عنه حجة دامغة على أهل الزيغ وإفساد عقائد المسلمين الذين يتبعون الأهواء فى تفسير الخطاب الإلهى فى كتاب الله وفى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفا قاطعا لمن سولت لهم أنفسهم وأوحى إليهم شيطانهم ليهدموا أركان الإيمان ويقطعوا ما أمر الله به أن يوصل والأمثلة فى هذا المضمار كثيرة يضيق عنها المجال ولا يحصرها العد وفيما نذكره  للاعتبار كفاية فى الاستدلال على وسع إمامنا وإحاطته بالعلوم والمعارف وأحوال القلوب :

قدم عليه رجل مفتون بآراء طائفة من الضالين بحفظ النصوص الذين يحسبون أنهم على شئ إلا أنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} قال هذا الرجل : أيها الشيخ إن الحديث قد أخبرنا أن بنى إسرائيل افترقوا على اثنين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاثةٍ وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة وهى من كانت على ما كان هو عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ويؤخذ منه أن المتصوفة وأصحاب المذاهب هم الاثنان والسبعون والجماعة الذين ينتمى إليهم هم الفرقة الناجية � وفى لطف وأدب جم بادره شيخنا العارف وأستاذنا المربى : ما هكذا يا سعد تورد الإبل بل إنكم قد أخذتم اللفظ وتركتم المعنى المقصود تمرون الديار ولم تعوجوا � فيم اختلفت بنوا إسرائيل ؟ إنهم اختلفوا فى التوحيد وفرقوا دينهم وتشيعوا طوائفا وفرقا � أما علماء المذاهب وأهل التصوف وأهل الذكر والفكر الصحيح الثاقب فقد حرروا العقائد ودفعوا أهل البدع والضلالات بالأدلة والبراهين ، قفوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه رضى الله عنهم استنبطوا لهذه الأمة أحكام الشريعة من أدلتها فهم القدوة للعاملين وحجة الله على العارفين اختارهم الله لخدمة الدين والدعوة إلى سلوك سبيل اليقين : {قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى} فارجع يا أخى عن هذا الفهم الذى ينحرف بك عن سبيل المؤمنين ويقودك إلى موارد الضالين الهالكين � فاهتدى الرجل بهذا القول الحسن وفارق أهل الضلا لة من لحظته :  

              ويعرف عنى من هدى الله قلبه        ويعزف عن حبى طريد الهداية

              ألا فخذوا  عني الأحاد  معنعنا         أصــح روايات الحديث روايتى

 كان رضى الله عنه كثير العناية ببيان معانى الحديث النبوى الشريف (العلماء ورثة الأنبياء) فى تركيز على المقصود وبناء على قاعدة (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم) فالعلماء هم الذين أخذوا أنفسهم بزمام تقوى الله فى المراتب الثلاثة الإسلام والإيمان والإحسان فاكتمل فيهم الدين وتفضل عليهم ربهم بجزاء الإحسان فأورثهم أنوار الهداية إليه والدلالة عليه � فما كان من أخلاق الأنبياء كان لهم حظا موروثا يمشون به بين الناس رحمة من الله ومنه :

فعالمنا منهم نبى ومن دعــا         إلى الحق منا قائم بالوسيلــة

وعارفنا فى وقتنا الأحمدى من         أولى العزم منهم آخذ بالعزيـمة

وما كان منهم معجزا كان بعـده        كرامة صديق له أو خليـفــة

 وعلماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل  شاهد على رفعة منازلهم وعلى وجوب محبتهم دون تفرقة بينهم بقبول البعض وردِّ البعض الآخر {لا نفرِّق بين أحد من رسله} فكذلك لا نفرِّق بين أحد من أوليائه وقد أشرب أرواح أتباعه محبة أهل الله رضى الله عنه لأنه يعرف منازلهم :

وأعرف أقدار الرجال جميعهم           ولكنهم ضلوا إبتداء مكانتى

أما النبوة والرسالة فهما موطن العزة والحمى المنيع الذى لايرام بعد ختام المرسلين وسيدالأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم �

محمدالكتيابي (الفرزدق)


شـــراب الوصــل

   فأما  عن حـلول واتحـاد         به يرموننا جهلا عيانا

    تنزه ذو الجلال وذو الجمال          ونزَّهنا وطــَّهر مبتدانا

الحلول هو اتَّحاد الجسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، كحلول ماء الورد في الورد ومنه مذهب الحلول يعتقد أصحابه أن الله يحلُّ في الشيء متحدَّاً به حتى يصحَّ أن يطلق عليه أنه الله {تعالى الله عزّ وجلّ عمَّا يقولون علوَّاً كبيراً}�

وقد وقع في كلام بعض المتصوفة في حديثهم عن التجليات الإلهية ما حمل بعض الجهلاء على اتهامهم بمذهب الحلول وسمَّاهم البعض بالحلولية وهذا المذهب في حقيقة الأمر هو مذهب النصارى، قال الإمام الرازي رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {لا تَغْلوا في دينكم} وفي قوله {ولا تقولوا على الله إلا الحق} أي لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه ونزِّهوه عن هذه الأحوال وقال في تفسير قوله تعالى {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم} قال: '' المعنى ولا تقولوا أن الله سبحانه وتعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم��� والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا  ذاتاً موصوفة بصفات ثلاثة، إلا أنهم سمَّوها صفات فهي في الحقيقة ذوات بدليل أنهم يجيزون عليها الحلول في عيسى ومريم  بأنفسهما، وإلا لما جوَّزوا عليها أن تحلَّ في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى، هم وإن كانوا يسمونها صفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتونها ذوات متعددة قائمة بأنفسها وذلك محض الكفر - (التفسير الكبير سورة النساء 171-172)

وقال الإمام القرطبي رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (وروح منه): (هذا الذي أوقع النصارى في الضلال فقالوا عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا���) قال أبي بن كعب '' خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام، ولما أراد خلقه أرسل ذلك إلى مريم فكان منه عيسى عليه السلام فلذا قال'' وروح منه (الجامع لأحكام القرآن)�

ومن ردِّ الشيخ محي الدين رضي الله عنه على هذا الافتراء: (نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطي  بغير البدر، لا شك في ذلك - كذلك  الاقتدار الإلهي إذا تجلَّى في العبد� وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيءٌ وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها، وإنما كان لها مجلى وكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حلَّ فيه ) وقال في موضع آخر (��� ومن هنا يعلم حقيقة قوله '' كنت سمعه وبصره ويده ورجله ؛ ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح صاح ''أنا الحقُّ'' فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته) وأنكر القول بالاتحاد فقال: (إذا كان الاتحاد مصير الذاتين ذاتا واحدة فهذا محال لأنه إن كانت عين كل واحدة منهما موجودة في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة  وبقيت الأخرى فليس إلا واحدة، ولا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة ) (ملخصة عن روح المعاني للآلوسي�)

 وقال الشيخ عبد الغني النابلسي رضي الله عنه:

    ولا تقل أنت هو ما أنت هو أبداً           لا شيء كيف يساوي الشيء واعجبي

   ولا تصر كافراً إن قلت إنك هـو          فأنت بالنفس عـنه دائـم الحجـب

   الله أكبر هذا عقد كــل ولـي           لا شــك فيه لنا بل عـقد كـل نبي

فهذا قول لم يقل به الأنبياء صلوات الله عليهم  فضلا عن الأولياء ويقول الإمام البصيري في قول النصارى واليهود والقائلين بألوهية عيسى ومريم وعزيرعليهم السلام�

   خبِّرونا أهلَ الكتابين من أيـن        أتـاكم تثليــكم والبداء

   ما أتـى بالعقيدتيـن كتـابٌ         وإدعاءٌ لا نـصَّ فيه افتـراء

   ليت شعري ذكر الثلاثة والوا         حد نقصٌ في عدكم أم نمـاء

   أتراهـم لحاجـةٍ واضطـرارٍ        خلطوها وما بغى الخلطـاء

   أهو الراكب الحمار فيا عجزَ          إلــهٍ يمسّــَه الأعيـاء

  أم جميعٌ على الحمار لقد جلَّ           حمــارٌ بجمعهم مشـاء

وإنما حمل بعض الناس على اتهام المتصوفة بالقول بمذهب الحلول كلامهم عن تجلي الأسماء الإلهية لقلب العبد ولا يعلم حقيقته إلا أهل المشاهدة الذين خصَّهم الله والذين لا يضيعون الوقت إلا في ذكر المذكور أو شكر على نعمة أو صبر في محنة أو رضى على شدة قد جعلوا الله نصب أعينهم لا ينظرون إلا إليه ولا يعكفون إلا على عبادته فأعطاهم من الحياة الطيبة بغير حساب وكشف لهم الحجب رضوان الله عليهم

وكما قال سيدي ابن الفارض رضي الله عنه:

   يا أختَ سعدٍ من حبيبي جِئْتنِـي          برسالـةٍ أدَّيتــها بتلطُّـفِ

   فنظرتُ ما لم تنظري وسمعتُ ما        لم تـسمعي فعرفتُ ما لم تعرفي�

د. عبدالله محمد أحمد