المدينة في المرحلة الثانية من العهد الأموي (70 - 132 هـ)

بالحقائق ناطقين

المنـاظـرة والمجادلـة

 

المدينة في المرحلة الثانية من العهد الأموي
 (70 - 132 هـ)

امتد هذا العهد ستة عقود وانتهى بنهاية الدولة الأموية عام 132هـ، وتميز بالاستقرار والطمأنينة، توالى فيها أمراء؛ بعضهم لين الجانب يحسن معاملة أهل المدينة ويكرمهم، وبعضهم يشتد عليهم، وبخاصة على الهاشميين من أحفاد الحسن والحسين، والزبيريين من أحفاد عبد الله بن الزبير، خشية ثورتهم أو تأليب الناس على الأمويين، لكن المدينة التي آلمتها وقعة الحرة من قبل، وأزعجها فترة الصراع بين ابن الزبير والأمويين لم تعد تعبأ بأمور السياسة والحكم، واشتغل معظم الناس فيها بالعلم والزراعة والتجارة، واستغرقتهم أمور حياتهم اليومية، وغالباً ما كان الأمراء الذين يشتدون عليها يعزلون ويعاقبون أو ينتهون نهاية سيئة. بدأت الفترة هذه بإمارة طارق بن عمرو سنتين هادئتين، ثم عين الحجاج أميراً على الحجاز واتخذ مقره في المدينة، فقاسى أهلها عامين كاملين من شدته، وقد آذى بعض الصحابة أمثال أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وجابر بن عبد الله، بحجة أنهم لم ينصروا الخليفة عثمان أيام الفتنة، ولم تحظ المدينة بأي عطاء أو أموال من عائدات الفتوح، وانحصر العطاء فيمن يقصد الخليفة في الشام وكانوا قلة، ونقل الحجاج عام 57هـ، إلى العراق ليواجه الخوارج وتولى إمارة المدينة يحيى بن الحكم عم الخليفة عبد الملك ثم أبان بن عثمان بن عفان الذي تولى الإمارة خمس سنوات، واهتم بالحركة العلمية وكان من العلماء فهو أول من ألــف في السيرة النبوية، ونعمـــت المدينة بالاستقرار والرخاء.

ثم تلاه هشام بن إسماعيل، وكان شديداً تأذى منه الهاشميون، والتابعي الجليل سعيد بن المسيب.. وعاشت المدينة أزهى فترات العهد الأموي في إمارة عمر بن عبد العزيز 86 - 93هـ فقد عمها العدل والرخاء، وتضاعفت مجالس العلم لاهتمام عمر بالعلماء وتقديمهم وجعلهم مستشارين؛ وفي عهده كان تجديد المسجد النبوي بأمر الخليفة الوليد بن عبد الملك واستغرق البناء ثلاث سنوات وكان غاية الإتقان والإبداع وعندما تم حضر الخليفة إلى المدينة وأعجب بالبناء ووزع الأعطيات على أهل المدينة وشيئاً من غنائم الفتوحات وأشركهم في الفتوحات الإسلامية فتدفقت الأموال وراجت التجارة وظلت المدينة واحة العدل والأمان حتى قصدها أهل العراق هرباً من بطش الحجاج وغيره، ولكن الحجاج اشتكى من ذلك وحذر الخليفة من المعارضين في المدينة فأراد الوليد أن يأخذ البيعة لابنه فغضب عمر بن عبد العزيز واعتزل الإمارة، وتولى الإمارة بعده عثمان بن حيان فأخذ الناس بالشدة وطرد اللاجئين إليها من العراق وراقب الداخلين والخارجين على يد الحجاج، ومرت سنوات ثلاث قاسية على أهل المدينة بعدها تولى الخلافة سليمان 96هـ فعزله وعاقبه على قسوته وعين محمد بن حزم فعادت السيرة العمرية من جديد في إمارته وظل والياً عليها طوال خلافة عمر بن عبد العزيز وتحسنت أحوال المدينة وعم الأمن والرخاء. ولما توفي عمر بن عبد العزيز وتولى الخلافة يزيد بن عبد الملك عزل محمد بن حزم وولى عبدالرحمن بن الضحاك الذي أساء إلى أهل المدينة واستمرت إمارته ثلاث سنوات وظلم وقهر بعض الناس وأخيراً أساء إلى فاطمة بنت الحسين، وبلغ ذلك الخليفة فعزله وأوقفه ليقتص المظلومون منه وعاش بقية عمره ذليلاً فقيراً، وتولى عبد الواحد بن عبد الله النضري سنة 104هـ فأحسن إلى أهل المدينة ثم تولى مكانه إبراهيم بن هشام المخزومي سنة 105هـ الذي أساء إلى آل الزبير فشكوه للخليفة حينما قدم للحج فرفع الظلم عنهم وجند أربعة آلاف من أهل المدينة في الفتوحات الإسلامية فعادوا بالغنائم الوفيرة ولكن إبراهيم بن هشام بدأ يستثمر أمواله وبنى في مكان السوق دكاكين ومحلات يؤجرها للتجار فاغتاظ أهل المدينة منه ومالبث أن اشتد على آل الزبير وجلد يحيى بن عروة بن الزبير لأنه هجاه ببعض الشعر ومات يحيى بعد الجلد وبلغ ذلك الخليفة، فعزله وولى مكانه خالد بن عبدالملك بن الحارث، وفي عهده عانت المدينة من القحط حتى سميت فترة إمارته (سنيات خالد).

وفي عام 108هـ ألحقت المدينة بإمارة مكة وكان أميرها محمد بن هشام المخزومي وامتدت إمارته سبع سنوات إلى نهاية خلافة هشام بن عبد الملك وعامل الهاشميين بالإحسان بناءً على أوامر الخليفة. وفي سنة 122هـ استمال شيعة العراق زيد بن علي بن الحسين وحرضوه على الثورة ضد الأمويين ووعدوه بالنصرة فسافر لقدره وخذلوه كما خذلوا أسلافه من قبل فقتل وأرسل رأسه إلى المدينة لتكون إرهاباً لمن تسول له نفسه الخروج على الخليفة ومات هشام بن عبد الملك سنة 125هـ وتولى الخلافة الوليد بن يزيد وعزل محمد بن هشام وهدم أهل المدينة السوق الذي بناه إبراهيم المخزومي، وتولى يوسف بن محمد الثقفي الإمارة في سنة 125هـ ثم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز سنة 126هـ وعاشت المدينة في عهده أياماً تذكر بها عهد عمر بن عبد العزيز حتى عام 129هـ حيث استدعاه الخليفة مروان بن محمد وعين مكانه عبد الواحد بن سليمان النضري وعلى إثر توليه الإمارة شهدت المدينة حدثاً عاصفاً هو مواجهة فرقة من الخوارج بقيادة أبي حمزة الخارجي، فقد داهم أبو حمزة الناس في عرفة في موسم 129هـ وكان أمير المدينة فيها، فصانعه حتى أفاض من عرفة وسارع إلى المدينة وجهز جيشاً من أهلها على عجل وأرسله لمواجهة الخوارج ولم يكن لهذا الجيش خبرة ولا قدرة على مواجهة الخوارج، وكمن لهم الخوارج عند وادي قديد على بعد 100كم من مكة فقتلوا عدداً كبيراً منهم وفر الباقون ووصل الخوارج بعدها إلى المدينة وهرب أميرها فدخلوها دون حرب، ومكثوا فيها ثلاثة أشهر، حاولوا استمالة أهل المدينة إليهم، ولكن أهل المدينة نفروا منهم لانحرافاتهم العقدية، وأرسل الخليفة مروان بن محمد جيشاً لقتالهم فخرجوا لملاقاته وتغلب عليهم الجيش الأموي وقتل معظمهم وحفظ الله المدينة وأهلها من شرورهم.

وتولى الوليد بن عروة إمارة المدينة شهوراً قصيرة ثم تلاه أخوه يوسف بن عروة وكان آخر أمير أموي على المدينة فقد استولى العباسيون على الخلافة عام 132هـ، وأرسلوا قواتهم لتخلص الأمصار من ولاة الأمويين فترك يوسف بن عروة المدينة ليدخلها العباسيون، ولكن قبل ذلك شهدت المدينة حدثاً صغيراً سيكون له أثر كبير عليها في العهد العباسي، وهو البيعة السرية لمحمد بن عبد الله بن الحسن.

من معجم البلدان ومصادر أخرى

بالحقائق ناطقين

(كذلك إذ بعث اللَّه تعالى المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرُودَتَين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ...) دارت بخاطري تلك العبارة من حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنا واقفة تحت المنارة البيضاء الشرقية من الجامع الأموي الذي أجمع العلماء أنها المنارة المقصودة حيث ينتظر عندها كل مؤمن ليرى تدلى المسيح بن مريم عليهما السلام من السماء ليخلص البشرية من شر الدجال فإذا كان المسلمين ينتظرون رسول المسيحية بالحب والرجاء فما بال بعض الناس يتعنصر بلا مبرر فهذه أسمي آيات التمازج والتآخي بين الأنبياء إذ يعمل المسيح ذاته لصالح البشرية جمعاء بغض النظر عن جنسهم ولونهم ودينهم، إن التعنصر لشئ ما نتاج فكر شرير يبتكره من أراد التجزء ليصير حاكما لمجموعة من البشر تحت إسم يخترعه ليكون زعيما ويتبعه مجموعة منقادة ذات مصالح مشتركة وبلا شك ليست مصالح إنسانية بل رغبات وشطحات فردية تتحقق منها السلطة واعتلاء الرقاب أي أنه مسيخ دجال في ثوب المصلحين وعلى كافة العقلاء أن يتصدوا لكل من أراد أن يستغل طيبتهم لإعلاء شعار براق يتخفي تحته الدجل والنفاق وليلبس الكل ثوب المصلحة العامة للبشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأديانهم دون عنصرية مزقت أثواب حيائنا طوال أعوام مضت والله يحكم بين الناس بعدله ورحمته.

هاديه الشلالي

المنـاظـرة والمجادلـة

كثرت ظاهرة طلب المناظرة من أدعياء العلم للعلماء وقد يجهل الناس مفهوم المناظرة وآدابها فالمناظرة لغة هي بين نظيرين أي ندين في العلم فهي لاتجوز بين عالم وجاهل إذا قال الشافعي رضي الله عنه لوناظرني في الله ألف عالم لغلبتهم ولو جادلني جاهل واحد لغلبني لأن الجاهل لايملك غير التكذيب والتضعيف للأحاديث ويخلط الحابل بالنابل في الآيات دون فرز لمحكماتها ومتشابهها ويحكم باللغة دون الرجوع إلى أسباب النزول أو الناسخ والمنسوخ.

ولقد سمعت أحد كبار الأسماء وهو يفسر قوله تعالى ﴿ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي التي نزلت في حق الإمام علي كرم الله وجهه بقوله وهم راكعون أي وهم خاشعون ولم يذكر سبب نزول الآية، كما أنه لامناظرة مع العلماء غير الأكفاء فقد روي أن هارون الرشيد أرسل إلى الإمام مالك وقال احضرنا فإن لدينا أبو يوسف وهو أحد أعمدة المذهب الحنفي تتناظران ونستفيد، فرد عليه الإمام مالك بقوله: لاأراه من أهل العلم عندي حتى أناظره، وغير ذلك من ضرورة الاتفاق على المصادر المحتج بها فلايصح الإحتجاج مثلا بمصحح للأحاديث يجرح ويعدل في الرواة بغير ميزان وهو مجروح في ذاته كمن يجرح في أحاديث صححها الحفاظ الأوائل أمثال السادة العراقي والعسقلاني والقسطلاني كأمثال الألباني وغيره الذي ألف عنه علماء الشام كتابا جمعوا فيه 360 حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم استشهد بها الألباني في كتبه مرة بالصحيح ومرة أخرى بالموضوع للحديث الواحد، كما أن المناظرة لابد لها من قاضي مشهود له بالعلم والورع والتقوي وعدم الوقوف بباب الحاكم،

وقد قال الفقيه أبو الليث رحمه اللَّه تعالى: كره بعض الناس المناظرة والجدال في العلم واحتجوا بقول اللَّه تعالى ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً وقال في موضع آخر ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً فلامهم على المجادلة وذمهم عليها، وروت السيدة عائشة رضي اللَّه تعالى عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال (أبغض الناس إلى اللَّه تعالى الألدّ الخصم).

وروى عن أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل)، وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال (دع المراء ولو كنت محقاً)، وروى بلفظ آخر أنه قال: (لا يجد أحدكم حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق)، ولأن المراء يؤدي إلى العداوة والعداوة بين المسلمين حرام قال عامة أهل العلم لا بأس بها إذا قصد بها ظهور الحق لقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقال أيضاً ﴿فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِراً وقال ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّه إلى قوله ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وروى عن طلحة بن عبيد اللَّه أنه قال تذاكرنا في لحم صيد يأكله المحرم وقد ذبحه حلال والنبي صلى اللَّه عليه وسلم نائم، فارتفعت أصواتنا فاستيقظ من ذلك قال: فماذا تتنازعون؟ فأخبرناه فأمرنا بأكله ولم ينكر عليهم جدالهم في المسألة ولأن في المناظرة ظهور الحق من الباطل والنظر في طلب الحق مباح، والآثار التي وردت في النهي معناها إذا جادل بغير حق وأراد به المباهاة فهو مكروه كما روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (من تعلم العلم لثلاث فهو في النار: أن يباهى به العلماء أو يمارى به السفهاء أو يصرف به وجوه الخلق إلى نفسه).

محمد صفوت جعفر