أسبقية نوره صلى الله عليه وسلم

الصبـر

شراب الوصل

 

أسبقية نوره صلى الله عليه وسلم

﴿والفجرvوليال عشرvوالشفع والوترvوالليل إذا يسرvهل فى ذلك قسم لذى حجر﴾ يرى بعض المفسرين أن المقصود بالليالى العشر فى هذه السورة أول عشرة أيام من ذى الحجة وأن الفجر هو انفلاق الصبح المعروف عند الناس. ولعدم وجود أية إشارة فى هذه الآيات لأى يوم أو نهار بل هى ليل صرف بعد ليل، وفى كتاب الله تعالى نجد الليالى دائما وأبدا مقرونة بالأيام لقوله سبحانه ﴿سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوم﴾ وفى الحديث والأحكام كقوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه (فرض على خمسون صلاة فى اليوم والليلة).

ولذلك يرى كبار المفسرين أهل البصائر أن الفجر هو حالة قبضة نور النبى صلى الله عليه وسلم والليالى العشر هى الحجب العشرة التى تنقل فيها نور النبى صلى الله عليه وسلم وهى حجب الجلال، فكان نور النبى صلى الله عليه وسلم يتنقل فى هذه الحجب العشرة من مرتبة إلى مرتبة، وهى المسماة عند ساداتنا الصوفية بمراتب الذكر، بدايةً بذكر اللسان ونهايةً بالمشاهدة الإلهية، والشفع إنما هو وجود الحقيقة الأحمدية فى الحقيقة المحمدية أى وجود الحقيقتين معا فى حالة الإثنينية، والوتر جمع الحقيقتين فى واحدية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أى ذاته إذ أن الوتر هو واحد الثلاثة، وإلى هذه الحقائق يشير الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشريف (إن الله فرد يحب الفرد وإن الله وتر يحب الوتر وإن الله جميل يحب الجمال) فالفردية إشارة إلى الحقيقة الأحمدية والوترية إشارة إلى الحقيقة المحمدية والجمال إشارة إلى الذات المحمدية، إذ هو لاهوت الجمال وناسوت الوصال صلى الله عليه وسلم ﴿والليل إذا يسر﴾ معناه كتم معرفة النبى صلى الله عليه وسلم فلا يمكن معرفته مالم يعرفنا هو بنفسه صلى الله عليه وسلم وفى ذلك يقولون:

جل وجه به تجلى علينــا���� ففقدنا بنوره ما لديـــنا

لو رأيناه فى الجمال اكتفينا���� أو شهدناه فى الجلال رأينا

أسدا فاتكا من الأسد أسطى

وفى تأكيد عدم معرفته قالوا:

 يا طالبا عرفانه من غيره ����� هيهات ذا صدت به فرسانه

ولما حاج اليهود والنصارى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام هو ابن الله نزلت عليه الآية الكريمة ﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين﴾ فأثبتت هذه الآية أولية وجود نور النبى صلى الله عليه وسلم وأنه أول مع عبد المولى تبارك وتعالى فى هذه الحجب العشرة وهى مراتب الذكر بكل العبادات التى لا تتأتى لغيره صلى الله عليه وسلم فكان أعرف الخلق بالله وأخوفهم منه ووفى كل مراتب العبودية فسماه الله تعالى (محمدا) بمعنى خصاله كلها محمودة ولا يستحق هذا الاسم بحق وحقيق غيره عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وحديث سيدنا جابر الأنصارى رضي الله عنه يثبت أسبقية نوره صلى الله عليه وسلم وذلك عندما سأله سيدنا جابر عن أول شئ خلقه الله فقال صلى الله عليه وسلم (نور نبيك يا جابر) وتأكيدا لذلك فقال أيضا صلوات ربى وسلامه عليه (أنا من نور الله والمؤمنون من رشحات نورى) وقد سئل صلى الله عليه وسلم: متى نبئت؟ فقال (كنت نبيا وآدم منجدل فى طينته) ومرة أخرى قال ردا على سؤال سائل (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) ومرة ثالثة (كنت نبيا ولا ماء ولا طين) وقد قال ساداتنا الصالحون فى ذلك:

 آدم من أجله يا لك من    �� ولد قبـل أبيه كون

والدليل المصحفى على أسبقية نوره صلى الله عليه وسلم سورة الإنسان فقد قال تبارك وتعالى ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكوراvإنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصير﴾ قال بعض المفسرين أن الإنسان المقصود فى هذه السورة هو أبونا آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ويقول أهل البصائر أن سيدنا آدم عليه السلام لم يكن مخلوقا من نطفة أمشاج، لذلك فإن المقصود فى هذه الآيات هو الإنسان الكامل (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) فالنبى صلى الله عليه وسلم هو الأصل ودينه أصل الديانات وكل الأنبياء والمرسلين يسلمون على شريعته بدليل قوله تبارك وتعالى ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا﴾ فهم عليهم السلام مؤمنون بل هم أكثر إيمانا من غيرهم ولذلك فالنبى صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم لقوله تعالى ﴿النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ وهم عليهم السلام المكلفون بتعريف أممهم بالنبى صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين﴾ فاتضح من هذا وذاك أن أصل الهداية وأصل النور وكل مواثيق الدين عند النبى صلى الله عليه وسلم وهو الواسطة والممد لكل الأنبياء والمرسلين كما قال تعالى ﴿ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر﴾ وقال تعالى ﴿إن أرسلناك شاهدا﴾ على أمم الأنبياء والرسل ﴿ومبشرا﴾ للمؤمنين ﴿ونذيرا﴾ للمكذبين ﴿وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا﴾ وهو صلى الله عليه وسلم وسيلة لكل الأنبياء فقد توسل به أبونا آدم، وقالوا فى ذلك:

والخلق تحت سما علاه كخردل� �������والأمر يبرمه هناك لسانــه

وتطيعه الأملاك فى جو السمـا�� ����� واللوح ينفذ ما قضاه بنانــه

وهو بشرى سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فهى ظاهرة فى قوله تعالى ﴿ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد﴾ وحسبنا فى بيان بعض شمائله ما قاله الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

لا يعلم الثقلان عنه قدر ما����   جهلوا وضلوا فى جلى ضحاه

لا يبلغ الطلاب منه بداية��      أو تفقه الأملاك ما نجـــواه

صلى الله عليك وآلك وصحبك وسلم يا سيدى يا حبيب الله.

الصبـر

قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف، وذكر الصبر فى القرآن فى أكثر من موضع وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عز وجل ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا﴾ وقال تعالى ﴿ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾

وجمع للصابرين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى ﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ وقال صلى الله عليه وآله وسلم (الصبر نصف الإيمان) والصبر نصف الإيمان باعتبارين: أحداهما اليقين والآخر الصبر، والمراد باليقين المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدين، والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضارة والطاعة نافعة ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار، ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما فقال (من أقل ما أتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلى من أن يوافينى كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ولكنى أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدى فينكر بعضكم بعض وينكركم أهل السماء عند ذلك فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ثم قرأ قوله تعالى ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ واعلم أن الصبر ضربان أحداهما بدنى كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه وهو إما بالفعل كتعاطى الأعمال الشاقة إما من العبادات أو من غيرها وإما بالاحتمال كالصبر عن الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة وذلك قد يكون محمودا إذا وافق الشرع والضرب الآخر المحمود التام وهو الصبر النفسى عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى. وللصبر مسميات تختلف حسب الحالة فإن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمى عفة، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أسماءه عند الناس باختلاف المكروه الذى غلب عليه الصبر فإن كان فى مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وإن كان فى احتمال الغنى سمى ضبط النفس، وإن كان فى حرب ومقاتلة سمى شجاعة، وإن كان فى كظم الغيظ سمى حلما، وإن كان فى نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمى سعة الصدر، وإن كان فى إخفاء كلام سمى كتمان السر، وإن كان عن فضول العيش سمى زهدا، وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمى قناعة.

وقيل فى الصبر ثلاثة أوجه: أحدها صبر لله عز وجل وهو على أداء أمره وانتهاء نهيه، وصبر مع الله عز وجل وهو الصبر تحت جريان قضائه وأفعاله فيك من سائر الشدائد والبلايا، وصبر على الله عز وجل وهو الصبر على ما وعد من الرزق والفرج والكفاية والنصر والثواب فى الدار الآخرة.

وقيل الصبر على قسمين أحدهما صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب له، فالصبر على الكسب ينقسم إلى قسمين، أحدهما: على ما أمر الله به عز وجل والثانى: على ما نهاه عز وجل عنه وأما الصبر على ما ليس بكسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله وقضائه فيما له فيه مشقة وألم فى القلب والجسد، وقيل الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، وقيل أيضا هو الفناء فى البلوى بلا ظهور شكوى، وقيل هو المقام مع البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية، وقيل هو الثبات مع الله عز وجل وتلقى أذية بلائه بالرحب والسعة وهو ترك الشكوى، وقيل هو الاستعانة والاستعاذة بالله عز وجل، وقيل هو الاستعانة بالله.

وقال بعض العارفين أهل الصبر على ثلاثة مقامات أولها ترك الشهوة وهذه درجة التائبين، وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين، وثالثها المحبة لما يضع به مولاه وهذه درجة الصديقين، واعلم أن الصبر ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم، فالصبر عن المحظورات فرض والصبر على المكاره نفل والصبر على الأذى المحظور محظور والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة فى الشرع، واعلم أن الصبر على السراء أشد لأنه مقرون بالقدرة والصبر على الطاعة صبر على الشدائد.

وحكى عن بعض العارفين أنه سأل الشبلى عن الصبر أيه أشد؟ فقال: الصبر فى الله تعالى؟ فقال: لا، فقال: الصبر لله تعالى؟ فقال: لا، فقال: الصبر مع الله؟ فقال: لا، فقال فماذا؟ قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تتلف، وقد قيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء.

أحمد نور الدين عباس

شراب الوصل

صبرت لحكم الله بل أنا شاكر

الشكر فى اللغة عرفان للجميل ونشره، والشكر من الله لعباده مجازاتهم على أعمالهم الصالحة، أما شكر العبد لنعمة الله فيكون بنشرها ومعرفتها كما ورد فى قوله تعالى ﴿قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى﴾ وقوله تعالى ﴿ومن شكر فإنما يشكر لنفسه﴾ أما الشكر من الله فقد ورد ذلك فى قوله تعالى ﴿ومن تطوع خيرا فإن الله شاكرا عليم﴾ وقوله تعالى أيضا ﴿وكان الله شاكرا عليما﴾ وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر فقال تعالى ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ ولم يستثنى إلا فى خمسة أشياء: الإغناء فقال تعالى ﴿فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء﴾ والإجابة فقال تعالى ﴿فيكشف ما تدعون إليه إن شاء﴾ والرزق فقال تعالى ﴿ويرزق من يشاء بغير حساب﴾ والمغفرة فقال تعالى ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ والتوبة فقال تعالى ﴿ويتوب الله على من يشاء﴾.

والشكر خلق من أخلاق الربوبية إذ قال تعالى ﴿والله شكور حليم﴾ وقيل فى الشكر هو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما سواء كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان، وقيل أيضا هو زيادة فى النعم وأمان من النقم، وقيل هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه، وهو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وقد روى عن عطاء أنه قال : دخلت على عائشة رضى الله عنها فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبكت وقالت: وأى شأنه لم يكن عجبا أتانى ليلة فدخل معى فى فراشى -أو قالت فى لحافى- حتى مس جلدى جلده ثم قال: يا ابنة أبى بكر ذرينى أتعبد لربى، قالت: قلت: إنى أحب قربك لكن أوثر هواك، فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ثم قام يصلى فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكى حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى على ﴿إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب﴾.

وقيل أن الشكر هو الثناء على الله بما يكون منه خاصة بصفة هو عليها حيث ما هو مشكور، فهى صفة تقتضى الزيادة من المشكور للشاكر فإن شكر المنعم واجب عقلا وشرعا ولا يصح الشكر إلا على النعم... للحديث بقية

أحمد نور الدين عباس