ما
استطاعة حج
البيت عن سعة
من
المتاع ولا
ظعن وأسفار
إن المتأمل للتاريخ القريب يجد أن الكلام فى
فريضة الحج يختلف بين علماء الأمس وخطباء اليوم ولذا عمدنا إلى كلام شيخ الأزهر
سيدى عبد الوهاب الشعرانى ونقلناه بدون تدخل أو تعديل وتركنا المقارنة للقارئ
الكريم فكل ما كان طبيعيا من حجاج الأمس هو فى نظر من يدعون العلم فى زماننا كفر
وشرك وبدع فسبحان الله من أدعياء يعيبون على العلماء ونسأل الله السلامة.
سمعت سيدى عليا الخواص رحمه الله يقول لشخص من
العلماء أراد الحج: إياك يا أخى أن تجاور فى مكة أو المدينة فتعجز عن القيام
بأدائها، فيصدق عليك المثل السائر حججت ومعك خرج زاد، فرجعت وفوق ظهرك ألف خرج
أوزار، أى لأن تبعات كل شخص ممن تستغيبهم تجعل وحدها يوم القيامة، فكأنها خرج وحده.
فقال له: يا سيدى اسمحوا لى بالمجاورة.
فقال: لا أسمح لك إلا إن كنت تدخل على شروط.
فقال له:
وما الشروط؟
فقال الشيخ: منها أنك لا تدخر قط فيها قوتا
ولا دراهم مدة إقامتك بها، ومنها أنك لا تأكل قط طعاما وحدك وأنت تعلم أن فيها أحدا
جائعا فى ليل أو فى نهار، ومنها أن تلبس الهدوم الخليقات ولا تلبس شيئا قط من
الثياب الفاخرة بل تبيعها وتنفقها على الفقراء الجياع، ومنها أن لا تحن مدة إقامتك
إلى رجوعك إلى بلدك أبدا ولا تشتاق إلى دار ولا إلى ولد ولا إلى وظيفة ولا إلى
إخوان فى غير مكة، لأنك فى حضرة الله الخاصة وهو لا يأخذ منك إلا قلبك، وقلبك خرج
من حضرته فبقيت فى حضرته جسما بلا قلب، ومنها أن لا يطرقه مدة إقامته هلع ولا رائحة
اتهام للحق تعالى من أمر رزقه ولا يخاف أن يضيعه أبدا، لأن أهل حضرة الله تعالى لا
يجوز لهم ذلك بل ربما مقت صاحب الاتهام وطرد من حضرة الله تعالى لسوء أدبه وضعف
يقينه، وهو يرى الحق تعالى يطعمه ويسقيه فى حين كان فى بطن أمه إلى أن شابت لحيته،
وهذا من أقبح ما يكون مع أن تلك الأرض تعطى ساكنها بالخاصية الهلع والاتهام للحق فى
أمر الرزق، حتى لا يكاد يسلم من ذلك إلا أكابر الأولياء -قيل: ومن هنا كره الأكابر
الإقامة بمكة- ومنها أن لا يخطر فى نفسه مدة إقامته هناك معصية أبدا، ولو تعذر
الوقوع من مثله فكيف بقريبه الوقوع، ومن هنا سافر الأكابر من الأولياء بنسائهم
وتكلفوا مؤونة حملهم لأجل ذلك، وكان الشعبى يقول: لأن أقيم فى حمام أحب إلى من أن
أقيم بمكة، وكان يقول لأن أكون مؤذنا بخراسان أحب إلى من أن أقيم بمكة خوفا أن يخطر
فى نفسى إرادة ذنب ولو لم أفعله فيذيقنى الله من عذاب أليم لقوله تعالى ﴿ومن يرد
فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾ وهذا خاص بالحرم المكى فهو مستثنى من حديث (إن
الله تعالى تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل) الحديث، وقد قالوا لابن
عباس لما سكن الطائف لم لا تقيم بمكة؟ فقال لا أقدر على حفظ خاطرى من إرادة ظلمى
للناس أو ظلمى لنفسى، فكيف لو وقعت فى الفعل فإن الله تعالى لم يتوعد أحدا على مجرد
إرادته السوء دون الفعل له إلا بمكة.
فقال الشخص: يا سيدى التوبة عن المجاورة وحج
ولم يجاور.
وقد أخبرنى سيدى محمد بن عنان أن أولياء العصر
حجوا مع سيدى أبى العباس الغمرى نفعنا الله ببركاته، وكانوا خمسة عشر وليا من مصر
وقراها فقالوا له يا سيدى: دستوركم نجاور فى مكة أو المدينة؟ فقال: من قدر منكم على
أدب مكة أو المدينة فليجاور، فقالوا له وما أدب مكة؟ فقال: أن يكون على صفات أهل
حضرة الله من الأنبياء والأولياء والملائكة ولا يطرق سريرته قط شئ يكرهه الله مدة
إقامته بها، فكيف إذا فعل ما يكرهه الله، فقالوا له ما أدب المدينة؟ فقال: هو كأدب
مكة ويزيد عليها أنه لا يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع أحواله حتى
إنه يصغر عمامته ويتصدق بكل شئ دخل يده ولا يلقى فى المدينة درسا إلا بما صرحت به
الشريعة دون ما فيه رأى أو قياس أدبا معه صلى الله عليه وسلم أن يكون لغيره كلام فى
حضرته إلا بمشاورته، فإن كان من أهل الصفاء فليشاوره صلى الله عليه وسلم فى كل
مسألة فيها رأى أو قياس، ويفعل بما أشار به صلى الله عليه وسلم بشرط أن يسمع لفظه
صلى الله عليه وسلم صريحا يقظة، كما كان عليه الشيخ محيى الدين بن العربى رحمه الله
قال: وقد صححت منه صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث قال بعض الحفاظ بضعفها، فأخذت
بقوله صلى الله عليه وسلم فيها ولم يبق عندى شك فيما قاله، وصار ذلك عندى من شرعه
الصحيح أعمل به وإن لم يطعنى عليه العلماء بناء على قواعدهم.
فقال المشايخ كلهم: ما منا أحد يقدر على ما
قلتم ورجعوا كلهم تلك السنة مع سيدى أبى العباس وكان من جملتهم سيدى محمد بن داود
وسيدى محمد العدل وسيدى محمد أبو بكر الحديدى، والشيخ على بن الجمال والشيخ
عبدالقادر الدشطوطى، وأخبرنى شيخى الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمرى وكان حاجا
معهم: أن سيدى عبدالقادر الدشطوطى لم يدخل الحرم المدنى وإنما ألقى خده على عتبة
باب السلام من حين دخل الحج للزيارة حتى رحلوا وحملوه وهو مستغرق، فما أفاق إلا فى
مرحلة (أبيار على) رضى الله عنه.
فتأمل يا أخى فى أحوال أهل الأدب مع الله
تعالى وأنبيائه فى جلوسهم فى المساجد أو الأسواق واقتدى بهم وتقدم قبل هذا العهد
بإثنى عشر عهدا زيادة على هذا فراجعها والله يتولى هداك.
أن نبادر بالحج إذا استطعناه، لاسيما عند
خوفنا احترام المنية، ولا نتأخر لعلة دنيوية ولا لخوف الموت فى الطريق، كما يقع فيه
بعض من غلب عليه حب الدنيا وشق عليه مفارقة أهله وأوطانه وشربه الماء الحلو وأكله
الفواكه وجلوسه فى الظل وجمعه المال من وظائفه وغير ذلك، فيموت أحدهم من غير أن يحج
حجة الإسلام، وذلك فى غاية النقص، فإنه لا يكمل أركان دين الغنى والفقير إلا بالحج،
وقد قلت مرة لبعض طلبة العلم: ألا تحج؟ فقال لا أستطيع، فقالت له: لماذا؟ فقال:
خوفا أن يسعى أحد على وظيفة تدريسى للعلم فقلت: هذا ليس بعذر شرعى، فإن تدريس العلم
ما شرع إلا بغير معلوم احتسابا لوجه الله، وما أحد يعارض فى مثل ذلك، فقال: أخاف أن
يأخذها أحد لأجل معلوم الذى فيها، فقلت له: كم عيالك؟ فقال أربعة أنفس، فقلت له: كم
لك من المعلوم كل يوم، فقال عشرة أنصاف غير معلوم هذه الوظيفة، فقلت: إنها والله
تكفيك، فتهاون فى الحج حتى جاءه شخص فسرق من بيته قبيل موته نحو ثلاثمائة ذهبا،
فدخلت له فقلت له: أين قولك إنك لا تستطيع الحج؟ فقال حب الدنيا غلب على قلوبنا،
فقلت له: فيجب عليك أن تتخذ لك شيخا ليسلك بك الطريق حتى يخرجك من محبة الدنيا،
فقال لا أستطيع مجاهدة نفسى، فقلت له فاذهب من هذه الدار، فقال ما هو بيدى فقلت له:
قل اللهم اقبضنى إن كان الموت خيرا لى، فقالها فمات بعد شهر رحمه الله.
واعلم يا أخى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يجعل تكفير الخطايا إلا فى الحج المبرور الذى لا إثم عليه، ومن يترك الصلاة فى
الطريق أو يخرجها عن وقتها فهو عاص، لم يبر حجه فلا يكفر عنه حجه خطيئة واحدة، كما
ستأتى الإشارة إليه فى الأحاديث، فواظب يا أخى على الصلاة فى الطريق وحرر
النية الصالحة وحج واعتمر عند القدرة وإلا خسرت فلوسك ودينك والله يتولى هداك.
أن ننفق فى الحج والعمرة بقدر وسعنا، ولا
نتكلف لما فوق مقامنا من الجمال أو المحفة أو المحارة أو مؤونة الأكل أو الحلاوات،
خوفا أن يعقبنا ندم لمعاملتنا غير الله مع إظهار أن ذلك لله تعالى ولا نتقرب إلى
الله تعالى بشئ تنقبض النفس للإنفاق فيه عاجلا أو آجلا، وإنما اللائق أن ينفق
الإنسان ماله فى مرضاة الله وهو منشرح القلب والقالب، وذلك لا يكون إلا إذا أنفق من
ماله حسب طاقته، وإلا فمن لازمه غالبا ارتكابه الدين ودخول الفخر وحب السمعة فى
حجه، فإن من أوسع فى النفقة فوق طاقته فالغالب عليه وقوعه فيما ذكرنا لا سيما إن
كان شيخا أو علما لا كسب له، فإن الإنسان ربما ساعدوه بالنفقة حتى الكشاف ومشايخ
العرب وغيرهم من الظلمة، إذ لو تبع الحل وتورع لما وجد فى هذا الزمان أجرة ركوبه
على الجمل بلا محمل، ولكن والله قد دخل الدخيل فى الأعمال لقلة الناصحين من العلماء
والصالحين، فإن من لا ينصح نفسه لا ينصح الناس، ومن يغش نفسه لا يبعد أن يغش الناس،
وقد حج صلى الله عليه وسلم على رحل رث يساوى ثلاثة دراهم، ثم قال: اللهم اجعله حجا
لا رياء فيه ولا سمعة.
واعلم يا أخى أن كل من تكلف ودخله الفخر فى
حجه فهو إلى الإثم أقرب، فإياك يا أخى وقبول المعونة فى الحج ممن لا يتورع فى
مكسبه، كالتجار الذين يبيعون على الظلمة والمساكين ولا يردونهم إذا اشتروا منهم، أو
كمشايخ العرب، فإن كسبهم يكاد أن يكون سحت السحت، وكذلك جمالهم يأخذونها من بلادهم
من الناس غصبا فى حجة حمول جماعة السلطان، فربما أرسلوا لسيدى الشيخ جملا أو جملين
فحج عليها فيذهب غارقا فى المعصية إلى أن يرجع أو يموت منه فى الطريق.
وإنما نبهناك يا أخى على مثل ذلك لعلمى بأن
النفس غالبة على كل من لم يسلك الطريق على يد شيخ أو لم تحفه عناية الله تعالى
فيدخل أعماله العلل والرياء وحب الشهرة بالكرم أو السخاء فى الطريق، فإن أبى مرة لا
يترك مثل هؤلاء يأتون بأعمالهم كاملة بل ولا ناقصة، فيزين لهم أعمالهم ويهون عليهم
المساعدة فى الحج بمال الظلمة ولا يكاد أحدهم يسلم له شئ من أعماله وما رأت عينى فى
الثلاث سفرات التى سافرتها أحدا حج من العلماء وتورع فى مأكله وملبسه مثل أخى الشيخ
الصالح شمس الدين الخطيب الشربينى -المفتى بجامع الأزهر- فسح الله فى أجله، فإنى
رأيته لا يقبل من أحد شيئا لنفقة نفسه فى الطريق، ويكرى له جملا لا يكاد يتميز من
جمال عرب الشعارة ويصير يمشى عن الجمل فى أكثر الأوقات ليلا ونهارا فيمشى ويتلو
القرآن والأوراد، ولا يركب إلا عند التعب الشديد رحمة بالجمل، ثم يحرم مفردا فلا
يحل من إحرامه حتى يتحلل أيام منى وأكثر أيامه صائما فى مكة وغيرها، وإن جاءه غداء
أو عشاء أطعمه لفقراء مكة وطوى، ولا يمل من الطواف بالبيت ليلا ونهارا، وفى طول
الطريق يعلم الناس مناسكهم ولا تكاد تسمع منه كلمة لغو يبدؤك بها فضلا عن كلمة غيبة
فى أحد تعريضا أو تصريحا رضى الله عنه، وزاده من فضله، فحج يا أخى مثل هذا الأخ
وإلا فلا تحج غير حجة الإسلام.
أن نكثر من التواضع فى الحج، ونلبس ثياب الدون
اللائقة بالخدمة فى السفر، ونحرم فى العباية الغليظة دون الخمسينى الرفيع ونحو ذلك
مما يفعله التجار وغيرهم، كل ذلك اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فعلم أنه
لا ينبغى لبس الثياب الرقيقة والفرجيات المحررات التى فيها خطوط حمر وخضر وصفر ونحو
ذلك من لباس أهل الرعونات، لأن لثياب الزينة محلا مخصوصا ليس هذا موضعه وقد أجمع
أهل الله عز وجل على أن من كان فيه صفة الغنى أو رائحة التكبر لا يدخل حضرة الله
تعالى، ولا يحصل له شئ من الإمدادات التى تفرق على أهل تلك الحضرة قال الله تعالى
﴿إنما الصدقَات للْفقَراء والمساكين﴾ والمتكبر ولابس الثياب الفاخرة فخرا ليس فيه
صفة الافتقار ولا مسكنة، إنما فيه صفة الجبابرة فينبغى لمن عادته فى بلده الملابس
الفاخرة أن يبيعها كلها ويأخذ له ثيابا تناسب حالة الفقراء والمساكين فى الطريق حتى
يرجع من الحج، وربما زاد من تلك الثياب على مائة دينار ثم إن احتاج إلى صرف ثمنها
فى مؤونة سفره نفعته وإن استغنى عنها تصدق منها صدقة مضاعفا كل درهم يرجح على ألف
درهم فى الحضر، فضلا عن ثواب لبس الثياب الفاخرة بقصد إظهار النعمة، وقتا آخر
ليس هذا موضعه ولعل إركابه عاجزا مرحلة واحدة أفضل من حجه هو، ولو أن ثيابه الفاخرة
كانت معه فى الطريق ربما لا تنفعه لقلة من يشتريها فى السفر، وكذلك ينبغى لمن يحج
أن لا يستصحب معه الهدايا من شاشات وأزر وحبر كما يفعل التجار لأن ميزان الحق
منصوبة على من ورد تلك الحضرة، ولم يقطع عنه علائق الدنيا بأجمعها ثم إنها ربما
تسرق منه فى الطريق، وإن لم تسرق منه نقص بعض رأس ماله فى الدين، وكان الأولى له أن
ينفق ثمن تلك الهدايا على فقراء مكة أو يحملها معه لمن عجز فى الطريق عن النفقة، أو
عن المشى فينبغى للحاج أن تكون له بصيرة وقد رأيت شخصا من الفقراء أشرف على الموت
من الجوع والعطش والتعب، فجاء إلى شخص فى محمل عظيم فقال اسقنى لله، أو ركبنى لله،
فقال يفتح الله عليك، فقال اعطنى دينارا أركب به، فقال ما معى شئ، فصدقته لكونه
مشهورا بالدين، فرد الفقير وهو يقول فى سبيل الله دورانك فى هذه الجبال، والله
للقمة أو شربة ماء لفقير أرجح من طبل خاناتك، ولو أن هذا الراكب فى المحمل كان عنده
بصيرة لحسب حساب الفقراء والمساكين وأبقى لهم بقية نفقة، وإلا ركب مقتبا، فإن
المحمل مشهورا، ويقصد الناس الراكب فيه، فإن لم يقم بواجبه وإلا فليركب فى شئ
مستور، ثم إن راكب ذلك المحمل تخاصم مع زوجته تلك الليلة فسمعته يقول لها: لك معى
سبعين بندقيا، قم يا فلان عدها من كيسى فتعجبت من رده ذلك السائل فى وادى النار
قبيل الأزلم بمرحلة مما يلى الينبوع، وقد بلغنى أن ذلك الفقير مات تلك الليلة، فمثل
هذا حجه إلى الإثم أقرب فإياك أن تتبعه فى مثل ذلك، وإن من الأدب أن لا يبيت
المقيم بمكة على دينار ولا درهم وهو يعلم أن فيها جائعا أو محتاجا، وأن لا يخطر
على باله مدة إقامته بمكة معصية، وأن لا يمسك طعاما أو شرابا إلا لضرورة فلا بأس
بمراجعتها ﴿والله غفور رحيم﴾.
أن نرفع أصواتنا بالتلبية ولا نتعلل بالحياء
من الناس كما يفعله بعض الكبراء، فإن ذلك وقت لا يراعى فيه إلا الله عز وجل والمراد
بالتلبية إظهار العبودية وإننا أجبنا الداعى لنا إلى الحج ولم نتخلف تهاونا به وقد
راعى الشارع صلى الله عليه وسلم رفع الصوت بذلك، ولم يكتف بإذعان قلوبنا كما راعى
أفعال الصلوات ولم يكتف بما فى باطننا من الخضوع، وقد قلت مرة لشخص من الأكابر أما
ترفع صوتك بالتلبية؟ فقال: أستحى، فما مهدت له دهليزا حتى رفع صوته إلا بعد جهد
كبير، وكل هذا من شدة الجفاء وعدم مخالطة أهل الشريعة فارفع صوتك يا أخى والله
يتولى هداك.
أن نستعد لوقوف يوم عرفة بتلطيف الكثائف
وإزالة الحجب المانعة من قبول الدعاء من الغذاء الحرام والثياب الحرام ووجود دغل أو
حقد أو حسد فى القلب لأحد من المسلمين، فإن تلك مواضع ذل وانكسار وبكاء وعويل وأكل
الحرام ولبسه يقسى قلب العبد، ومن أعظم دواء لحصول رقة القلب الجوع الشرعى يوم
التروية وليلة عرفة، وهذا أمر قل من يتنبه له من الحجاج، فيأكل أحدهم اللحم والطعام
حتى يشبع ويطلب رقة قلبه يوم عرفة فلا يقدر، ويريد أن يبكى على ذنوبه فلا يقدر، وقد
ورد: القلب القاسى بعيد عن الله ثم بتقدير قربه من الله فهو لا يرجو إجابة دعاءه
عقوبة له فلا يستجاب له، لأن الله تعالى عند ظن عبده به ومن ظن بالله أنه لا يجيب
دعاءه لم يجيبه، ثم مما لا يخفى عليك يا أخى، تحريم رؤيتك نفسك على أحد من الخلق فى
عرفات لأنه موقف لا يناسبه إلا الذل والمسكنة، فاعلم يا أخى أنك متى رأيت نفسك على
أحد هناك فربما حرمت المغفرة.
أن نبادر لرمى الجمار إيمانا حتى تنكشف لنا
حكمتها جهارا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا رسول الله ما لنا فى
رمى الجمار؟ فقال: تجد ذلك عند ربك أحوج ما تكون إليه، لما علم أن السائل لا يتعقل
حكمتها، وربما امتحن الحق تعالى عباده فى أمرهم بما لا يتعقلون حكمته كرمى الجمار
وتقبيل الحجر الأسود وكإضافته إلى نفسه تعالى ما يحيله العقل بدليله كالنزول إلى
سماء الدنيا وغير ذلك من آيات الصفات وأخبارها لينظر كيف يعملون؟ هل يؤمنون بما
أضافه الحق تعالى إلى نفسه على ألسنة رسله وإن لم يتعقلوه؟ أم يردون ذلك على الرسل
أو يقبلونه، لكن بعد تحريفه بالتأويل عن مواضعه، فيفوتهم الإيمان الكامل كما يقع
فيه غالب الناس فيخافون أن يكذبوا الرسل فتضرب أعناقهم، ويخافون أن يقبلوا آيات
الصفات على ظاهرها فيقعون فى التشبيه؛ فلذلك رأوا التأويل أحسن عندهم لأنه طريق
وسطى بين طريقين، وإنما قلنا فاتهم كمال الإيمان دون فوات الإيمان كله، لأنه لولا
آمنوا به ما اشتغلوا بتأويله ولكانوا يرونه لغيرهم، فاعمل يا أخى بأوامر الحق على
الوجه المشروع سواء أعقلت معناها أم لم تعقل وسيأتى فى الأحاديث ما يشير إلى
الحكمة.
وللشيخ محيى الدين فى باب الحج من الفتوحات ما
نصه: إنما كان حصى الرمى سبعا لأن الشيطان يأتى الرامى هناك بسبع خواطر لابد من ذلك
فيرمى كل خاطر بحصاة، ومعنى التكبير عند كل حصاة الله أكبر من هذه النسبة التى
أتانا بها الشيطان وأطال فى ذلك، ثم قال: فإذا أتاك بخاطر الشبهة بالإمكان للذات
فارمه بحصاة الافتقار إلى المرجح، وهو أنه واجب الوجود لنفسه، وإن أتاك بأنه
جوهر فارمه بالحصاة الثانية وهو دليل الافتقار إلى التحيز والوجود بالغير، وإن أتاك
بخاطر الجسمية فارمه بحصاة الافتقار إلى الأداة والتركيب والإبعاض، وإن أتاك
بالعرضية فارمه بحصاة الافتقار إلى المحل والحدوث بعد أن لم يكن، وإن أتاك بالعلية
وهى دليل مساواة المعلول له فى الوجود فارمه بالحصاة الخامسة وهى (كان الله ولا شئ
معه) وإن أتاك بالطبيعة فارمه بالحصاة السادسة وهى دليل نسبة الكثرة إليه وافتقار
كل واحد من آحاد الطبيعة إلى الأمر الآخر فى الاجتماع به إلى إيجاد الأجسام
الطبيعية فإن الطبيعة مجموع فاعلين ومفعولين حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، ولا يصح
اجتماعها لذاتها ولا افتراقها لذاتها ولا وجود لها إلا فى عين الحار والبارد والرطب
واليابس، وإن أتاك بالعدم وقال لك فإذا لم يكن الحق هذا ولا هذا من جميع ما تقدم
فما ثم شئ فارمه بالحصاة السابعة وهى دليل آثاره فى الممكن، ومعلوم أن العدم لا
تأثير له، وهو كلام نفيس.
أن نحلق رؤوسنا أو نقصر فى النسك ويكون
معظم قصدنا بذلك أن نحصل دعوة النبى صلى الله عليه وسلم لنا بقوله (اللهم
اغفر للمحلقين) قال شيخنا: والحكمة فى إزالة الشعر بالحلق أو التقصير أنه
شرع لكونه مأخوذا من الشعور، فكان الحلق إشارة إلى زوال الشعور وحصول العلم
إذ الشعر حجاب على الرأس.
وقد بسط الشيخ محيى الدين بن العربى فى أسرار
الحج كلها فى الفتوحات المكية، فراجعها تر العجب فما رأينا أحدا أبان عنها مثله رضى
الله عنه.
أن نكثر من الصلاة فى مسجد مكة والمدينة لما
ورد ذلك من الفضل فإن الشارع صلى الله عليه وسلم إنما بين لنا فضل هذين المسجدين
لنستغنم الصلاة فيهما مدة إقامتنا هناك، لا سيما إن زادت الصلاة فى الخشوع هناك،
كما هو الغالب، فيجتمع للمصلى شرف البقعة وشرف الحضرة وربما يحصل لبعض المصلين
الأجر الذى يخرج عن الحصر لكونه جليس الملك وجلساء الملوك لا تحصى مواهبهم فى
العادة، أدم فى عهود الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم: الصلاة خير موضوع لأن فيها
عمل جميع البدن، فيكون معظم عملنا الصلاة والطواف ما عدا المناسك ومهمات الحوائج،
وهذا العهد يخل به كثير من التجار الذين يبيعون فى الموسم القماش فلا يهنأ أحدهم
بطواف بل ولا بصلاة الجماعة، فيصير فى النهار غافلا وبالليل نائما أو يحسب ما باع
به وما اشتراه حتى يرحل الحاج، وقد رأيت ذلك وقع لقاضى المحمل وكان من العلماء
لكونه سافر بأحمال قماش، فرأيته طائفا يوما واحدا ورأيته يصلى الصلاة منفردا ففاته
خير كثير، فمن أراد من التجار أن يتفرغ للعبادة فليوكل من يبيع له ذلك بشرط أن تكون
نفسه غافلة عن الحسابات والربح والخسارة فى الطواف وغيره، فإن من كانت الدنيا أكبر
همه هناك حرم الخير، لكون القلب ليس له اشتغال إلا بأمر واحد متى توجه إليه حجب عن
غيره، والحكم للأغلب من الأمرين ﴿الله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم﴾.
أن لا نمنع أحدا يستقى من بئرنا ولو عدوا لا
سيما إن كان عطشانا فى طريق الحج، ولا نمنع دوابه من الماء والكلأ رحمة
بعدونا وبالبهائم فنجئ نحن وبهائمنا مع عدونا لئلا يموت معهم عملا بأوامر الشارع
صلى الله عليه وسلم لنا، بأن نحب للمسلمين ما نحب لأنفسنا وخوفا من غضب الحق تعالى
علينا يوم القيامة، ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلكه ويخرج به من
حضرات رعونات النفس حتى يصير يحب الخير لكل مسلم ولو من أعدائه فضلا عن غيرهم،
ويصير يتأسف على كل خير فاته، وهذا العهد يقع فى خيانته كثير من أهل الرعونات، فأول
ما يقع بينه وبين أحد من جيرانه عداوة يحجز بينه وبين أن يستقى من بئره، ورأيت
بعضهم ردمها حتى لا يستقى ذلك الجار -والذى اعتبره عدو له- منها وهذا كله من بقايا
النفاق فى القلب ﴿والله غفور رحيم ﴾.
أن لا نتهاون بترك حج الفرض مع
الاستطاعة ولو خفنا أن أحدا يسعى فى إخراج أنظارنا عنا أو تدريسنا وخطابتنا أو غير
ذلك، بل نخرج إلى حجة الإسلام ولو فاتتنا الدنيا بحذافيرها، فإذا قضينا حجة الإسلام
فلنا ترك حج التطوع إذ خفنا ما ذكر، لأن تحصيل ما به قوام معايشنا من الوظائف
المذكورة أولى من حج التطوع مع الحاجة إذا رجعنا إلى أوطاننا، وهذا
العهد يخل به كثير من الناس مع القدرة، فيكون عنده من الأمتعة والكتب ما يفضل
على مؤونة حجه ذاهبا وراجعا بل يكفيه نفقة سنة أو سنتين بعد الحج ويترك حجة الإسلام
ويحتج بخوف السعى على وظائفه، والإنسان على نفسه بصيرة وقد قال تعالى ﴿وأذن فى
الناس بالحج يأتوك رجال﴾ يعنى أنهم يأتونك مشاة ولا ينتظرون حصول شئ يركبونه تعظيما
وخوفا من تأخير أمر الله عز وجل وقد بلغنا أن الخليل عليه السلام، لما أمره الله
تعالى بالختان لم ينتظر الموسى بل بادر بأذن القدوم يعنى الفأس فاختتن بها، فقيل له
يا خليل الله هلا طلبت الموسى، فقال إن تأخير أمر الله شديد.
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك
على يد شيخ صادق يرقيه فى درجات التعظيم لله تعالى حتى يصير فوات الدنيا فى جنب
طاعة الله كفوات ذرة من التراب، وفوات ذرة من طاعة الله تعالى أصعب عليه من فوات
الدنيا بحذافيرها لو كانت فى يده، ومن لم يسلك الطريق كما ذكرنا فمن لازمه غالبا
تقديم أهوية نفسه على مرضاة ربه ﴿والله غفور رحيم﴾.
أن لا نتهاون بترك وقوعنا فى الكلام اللغو
خوفا أن يجر إلى مكروه أو حرام، ونعود لساننا أن لا نجيب عن الكلام إلا بعد تأمل
وتثبت، وهذا العهد يقع فى خيانته كثير من الحجاج إذا رجعوا من الحج فيصير يحكى ما
وقع له من غير أن يسأله الناس عنه، فيصير الناس الذين يسلمون عليه متقلقلين لأجل
حوائجهم التى وراءهم من سلام على حجاج آخرين أو غير ذلك، وهو يهدر لهم كالشاعر،
وكذلك يقع فى خيانته كثير من الفقراء الذين تزورهم الأمراء فيفتحون على ذلك الأمير
باب الكلام الذى ليس لذلك الأمير به حاجة كقوله له: كان فلان الأمير عندنا البارحة
أو الباشا زارنا أمس أو قاضى العسكر أو أعطانى الباشا حصانا مليحا ونحو ذلك، وهذا
دليل على أن ذلك الشيخ دنياوى دق المطرقة لاستعزازه بالخلق، وربما طول الشيخ
الكلام على ذلك الأمير فيقول للشيخ وهو فى وسط الكلام اقرءوا الفاتحة يا سيدى الشيخ
فيكلح الشيخ فيصير دعاؤه خداجا من قلة اعتقاد الأمير فى الشيخ، ولكثرة ما وقع فيه
من اللغو والهذيانات، فاعلم أن من الأدب الكف عن مثل ذلك ﴿والله غفور رحيم﴾.
|