عاش رضي الله عنه حياته كلها متخلقاً بالصفات العالية والشمائل
النبوية المرتقية به في كل لحظة إلى مدارج الكمالات يجلس بين أصحابه
على بساط محبة دون تميز في المجلس أو الملبس إلا بوجه يتلألأ بهاءًا
ونوراً كالبدر بين الكواكب، أبا رؤوفا وأخا صدوقاً وقدوة� إذا أمر
كان أسبق إلى الامتثال� وإذا نهى كان أسبق إلى الترك� غنيا عما سوى
الله، يجود على أتباعه ويعطي دون امتنان بما أعطى:
سقيــت مريدي مـن شراب مـعتق
وكـفي كـأس والخفــاء مزيـــتي
وبعض
شرابي أغرق الكل في الهوى ومنهجــي القــرآن والله وجــهتي
شـرابي
عـذب سلسـبيل مذاقــه وعلمـي كــنز في قلـوب أحبــتي
قلوب
امتدت إليها روحانية العلم وسطرت بأقلامها آيات الفتح المبين وجواهر
المعرفة الرباني تتفجر منها ينابيع الحكمة تجري على الألسن في كلمات
حروفها أنوار تهدي العقول والأفكار إلى حقائق الإيمان ومراتب الإحسان
أفاض على النفوس من ماء قدسه طهورا يزكيها ونوراً يضيء بين يديها
طريق السير إلى ربها:
فسـارت
على تقوى وعلم مـيراث يقــود إلى المـولى بحلـم وحكـمة
وسر
اقتدار على إصلاح ما فسد من العقائد
وعلى رد الحائرين والضالين إلى
حظيرة الإيمان أنه كان متمكناً من علوم التوحيد والتأويل والمتشابه
والمحكم إلى جانب علوم الفلك والطب وعلوم الحرف والكيمياء يتحدث فيها
بإستفاضة يدني ما كان بعيداً عن الأذهان من معانيها المتصلة بما يقود
إليه الدرس من موضوعات عامة أو خاصة� يجري في المناقشة والجدال مع
السائل المجادل على نحو ما يختار من أساليب تبادل القول� قال محدثه:
أريد أن أسأل ولكنني لا أقبل في الإجابة آية ولا حديثا فهل لك أن
تجيبني بغير ذلك من الأدلة العقلية؟ قال: تفضل يا أخي لا مانع؟ قال:
قرأت في الكتب الصفراء أن الله لا في يمين ولا شمال ولا شرق ولاغرب
قال: ولا تحت ولا فوق.
قال: هل أنت معنا؟ قال: لا.
قال الشيخ: إنما
أردت أن أكمل معلومة ناقصة وهي أن الجهات ست وليست أربعة.
قال
السائل: حسنا هذا ما يدعم دعوتنا أنه غير موجود.
فقال رضي الله عنه:
الله له الوجود المطلق عنه: إنك تحكم بالوجود لأشياء غير مرئية ولا
مدركة ولا محددة بمكان وجود من غير حاجة إلى المنطق أو العقل مثل:
1- السمن يستخرج من اللبن ولا شك في وجود فيه دون
تحديد لمكانته منه.
2- الروح في الجسد وبها حياته وليس من الممكن
تحديد مكانها فيه أو رؤيتها عند خروجها منه بالوفاة أوذبح الشاة لأن
الروح لطيفة واللطيف لا يدرك بالبصر فكيف يدرك بالبصر خالق اللطف
الخفي وصانع ما هو أخفى من اللطف الخفي؟ ونحن قد اعترفنا بالوجود لكل
من السمن والروح دون تحديد؟ قال السائل: هذا الكلام وجيه يمكن قبوله
ولكن كيف نقيم عليه الدليل العقلي المنطقي؟ قال رضي الله عنه: في أي
مصلحة تعمل؟ قال: باش كاتب بالمديرية. فقال رضي الله عنه: لا بد أنك
ملم بالحساب. قال: نعم. قال رضي الله عنه: سندرك المطلوب من قريب إذا
لم يكن الواحد موجوداً فهل تستطيع أن تسوي أي مسألة حسابية؟ قال
السائل: زدني توضيحاً: فقال رضي الله عنه: لولا وجود الواحد لما قام
علم الحساب على قواعده واحد زائد واحد يساوي إثنين وإثنان زائد إثنين
يساوي أربعة وأربعة في أربعة وعلى إثنين تساوي ثمانية. فقال السائل:
منطق جميل والواحد يعني الإشارة إلى الله.
فقال رضي الله عنه: الواحد مرتبة نبوية ترمز إلى
وجود الواحد في الكثرة والكثرة في الواحد وأما الإشارة إلى ربنا فهي
النقطة لأنها لا تقبل قسمة ولا ضربا ولا تجزئة.
قال السائل: لو كنت وجدت هذا النوع من الإستدلال
لما ظللت أسيراً للحيرة وفريسة للأوهام معرضاً عن النصوص وقبول
الإيمان بالله وأنا إذ أحمد الله على هذه الفرصة أرجو أن تدلني على
العمل النافع المكفر لوزر الإنكار فقال: التوبة كفارة لمن ندم على ما
فات وأقلع عن السيئات وصح عزمه على ألا يعود إلى ذنبه {قل للذين
كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} قال السائل: أشعر بالخزي
والتقصير فما الذي أفعله ليكون سبباً للقبول وطمأنينة النفس إلى حسن
سيرها وسلامة عملها وسداد خطاها في طريق هداها؟ فقال رضي الله عنه:
الإجتهاد في العبادات المفروضة موصولة بالنوافل وكثرتها لأن كثرة
النوافل ترجح كفة الحسنات من ميزان الأعمال وإذا ثقلت كفة الحسنات
ابتعدت بصاحبها عن الموبقات وقربته من الطاعات {فأما من ثقلت موازينه
فهو في عيشة راضية}. قال: قد عزمت على ذلك
وعلى مداومة ما يرضي الله. فقال رضي الله عنه: أعانك الله وأعلم يا
أخي أن المعاصي ما هي إلا ثوب متسخ إذا خلعه العبد صار نقياً من
الأدران صافياً من الاكدار ولن يتوقف الأمر بك عند هذا بل لا بد أن
تستشرف إلى الكمالات الإلهية مترقيا في مراتب الذكر من اللسان إلى
القلب إلى الروح إلى الإصطلام إلى المشاهدة� فقال: وهل كل ذلك يحصل؟
فقال رضي الله عنه: نعم وما باب الهبات مسدود على أهل النهي. قال:
ليس لي ما أقول سوى طلب المزيد من هذا القول الجميل.
فضحك رضي الله عنه قائلاً: سئل سيدنا أبوبكر هل
أدرك التجلي فقال (العجز عن درك الادراك إدراك) وقال سيدنا عمر رداً
على ذلك (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله).
وقال سيدنا عثمان (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله عنده) وقال سيدنا
علي كرم الله وجهه (إن غبت بدا وإن بدا غيبني) وهذا يعني الفناء عن
ذاتك وفعلك وانعدام وجودك في شهودك.
قد لاح
وجــه المالك وكـل شـيء هـالك
يعرف هـذا
السـالك في طــرق الأسـرار
فمتى بقي فيك شيء فأنت لا تراه فقال: مولاي في
هذا القدر الكفاية فقد ضاق ذهني عن احتمال ما يحار فيه العقل ويصدقه
القلب وتسكن إليه النفس فقال رضي الله عنه: لك ما شئت.
وقد عاد في غده ملتزماً بما تعلم من أمر دينه
سَالكاً سبيل أهل الذكر المتعبدين يحاور في أدب الطالب لا المناظر قد
إهتدى وصلح حاله وسعي به عمله إلى مدخل أهل الذكر والصدق. وهذا قليل
من كثير قطره من محيط فقد أسعد الله به خلقاً لا نعلم لهم عددا في
بلاد بعيدة علي إختلاف ألسنتهم وألوانهم دخلوا الإسلام أفواجاً
ولقنوا عهد الطريقة البرهانية الدسوقية الشاذلية وتعبدوا وذكروا
بأذكارهم وأورادهم عن تصديق وإيمان وعقيدة ولأداء شعائرهم ومدارسة
عبادتهم أقامو الزوايا في الهند وألمانيا وأمريكا وفرنسا واستراليا
والنمسا وله رضي الله عنه: مع أهل كل بلد من هذه البلاد كرامات لا
تحصى عدداً لتركيز شواهد الحق على الأدلة المعاينة لأهلها لبناء
اليقين في نفوسهم على دعائم الإحساس الواقعي المتفاعل مع توجيه الهمة
وإفاضة النور وفتح البصائر (فمن أبصر فلنفسه) أتباعه في كل مكان موضع
العناية منه والإرشاد يكشف لهم الحقائق ويريهم الدقائق في مجالس
الدرس والأوراد لا يغادر خاطرة إلا بادر إلي الإجابة فتلعموا حفظ
الفؤاد وأعمال القلوب وربط الأرواح بما يعيدها إلى وطنها الحق إتباعا
له وهداية إليه ( لا يؤمن أحدهم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
حديث شريف.
ظهوره في
الخفاء
لقد إختار رضي الله عنه أن يكون بعيداً عن
الأضواء وأجهزة النشر والإعلام لا يميل إلى الإشادة به أو التحدث عن
خدمته وما يقدمه لأمته أمة الإسلام شأن الدعاة الصادقين الصادعين
بأمر الله الداعين إليه بإذنه لا يتعجلون في استفسارهم بل يتحرون
الدقة في اختيارهم ووسائل إعلامه ذوات أتباعه وصفاتهم وأخلاقهم
ومعاملاتهم وصفاء ما بينهم ومحبتهم لخير الناس كل الناس.
أخلاقهم
وصـفاتهم وعلومهم وهبت لهم من ذي الجلال القادر
نتائج درس
وثمرات غرس ومرائي صافية يظهر فيها نور الإسم الإلهي يأخذ بمجامع
القلوب ويستهوي الأفئدة فيجذبها إلى إتباع الحق والاقتداء بأهل
الحقيقة عقيدة وعملاً خالصاً لله {ألا لله الدين الخالص} وهذا دأبه
رضي الله عنه زهاء أربعين عاماً يستقبل في منزله أو في دار الطريقة
الطلاب والعلماء وذوي الرأي يتناول معهم الشرح والتحليل والأمثلة
آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله وإشارات الصوفية وشواهد
أحوالهم ومواجيدهم، من كتاب الله وسنة رسول الله حتى ليكاد يكون
معناها محسوساً أو جسداً ملموساً ويتطرق من خلال ذلك إلى الربط بين
جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله وهي حروف الهجاء الثمانية
والعشرون وبين مفاتيح الهداية المرموزة في أحزاب الأقطاب الأربعة
وأذكارهم وإلى ظهور الصفات والأسماء الإلهية منها وإلى اختصاص من
اصطفاهم الله لخدمته والدلالة عليه بالعلوم الإلهية والمعارف
الربانية، ليكشفوا أسرار النفس البشرية وما أودع فيها من صفات
التكريم لتكون الهداية إلى الله غاية وسيلتها معرفة النفس {من إهتدى
فإنما يهتدي لنفسه}. (من عرف نفسه فقد عرف
ربَّه)، بصفاته وتجليات أسمائه وما سخر له من عالم ملكه وعوالم
ملكوته يترحل بالدارسين في مراتب اليقين ومنازل المحسنين ليظهر فيهم
بكمالاته وجميل صفاته وصدق إيمانه وغلبة محبة الله ومحبة رسوله فهم
بما يجري على لسانه يدركون ما حارت فيه الفهوم من إشارات أهل العلوم
بما سقاهم من رحيقه المختوم (رحيقي مختوم بمسك الحقيقة) حبّب إليهم
الإيمان وزينه في قلوبهم فتذوقوا حلاوته وشهدوا ما غاب عن البصائر
وخفي علي العقول من حقائق:
ظهرت وما
ظهرت وقد خفيت وما خفـيت وقـام خفـاؤها بظهورهــا
ألزمهم
كلمةالتقوى ومناهج المجاهدين المقربين الهادين المهتدين {والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين} ولعل أُستاذنا رضي
الله عنه عاش حياته من أجلها وإنتقل إلى جوار ربه من أجلها في أداء
خاص بأهل العنايات وأداء عام لأمة خير البرية كما قال في قصيدته
التائية:
نصحـت
لوجــه الله أبغي رضاءه وحــب ذوي القـربى وبرأت ذمـتي
وبقصائده إتصل حبل الإرشاد وتوثقت عري المحبة
والوفاء بعهد الطريقة له ولخلفه المبارك الشيخ إبراهيم من بعده
لذريته وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين وجزاهم خير ما يجزي الصادقين
عن صدقهم وتفضل علينا برضاه ورضاهم عنا في جميع الأحوال إنه على ما
يشاء قدير وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير.
محمد
الكتيابي
|