يقول الحق سبحانه وتعالى: {قل لو كان للرحمن ولد
فأنا أول العابدين}..، وفي طبقات
الأصفهاني عن سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وله وسلم: (أوصى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومُر من
أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا
النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله
محمد رسول الله فسكن). أما بعد فيا أيها الأحباب نبدأ حديثنا عن
أولية النبي صلى الله عليه وله وسلم فنقول إن العوالم كثيرة وكل عالم
له أصل ينسب إليه: فعالم المُلك له أصل وهو عالم الأرواح، وعالم
النور له أصل. وكل أصل من الأصول السابقة له حقيقة، وحقيقة هذه
الحقائق هي النبي صلى الله عليه وله وسلم، فهو أصل الأصول. فمثلاً لو
قلنا إن (العقل الأول)أول
ما خلق الله، فليس لأولية خلقه فقط سُمي بذلك ولكن أيضاً لأنه أول
عقل فهم وعقل عن الله كنه حقيقة الحقائق الأولية ومبدؤها؛ فسماه
بالعقل الأول، فله الأولية على جميع عقول العالم عاليه وسافله. وفي
الحديث الصحيح: (لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له
أدبر فأبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت شيئاً أكرم عليَّ منك).
والإقبال في الحديث معناه قربه لتلقيه الفيض الإلهي، والإدبار عنه هو
توجهه بالإلقاء من من هذه الفيوضات للوجود. فهو حقيقة نبوية يطول
الكلام فيها. كذلك (القلم الأعلى)
الذي سطر في اللوح المحفوظ علم ما كان وما يكون وما هو كائن.
فكل حقيقة قال عنها النبي صلى الله عليه وله وسلم أنها (أول)
فهي أول باعتبار خاصية معينة تعود إلى كتاب الله؛ إذ يقول رضي الله
عنهما: نور يعني سيدنا رسول الله، فانظر لاطلاقه اسم النور عليه. وفي
تفسير الجلالين {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله} قال
سيدنا عبدالله بن العباس رضي الله عنهما: نور يعني سيدنا رسول الله،
فانظر لاطلاقه اسم النور عليه. وفي تفسير الجلالين { قد جاءكم من
الله نور} معناه: هو نور النبي صلى الله عليه وله وسلم، وفي تفسير
الألوسي: هو نور حضرته...، والدليل على ذلك هو أن ضمير الغائب في
(به) المتعلق بفعل (يهدي) جاء على صيغة المفرد وليس المثنى: فقال
تعالى (يهدي به) ولم يقل (يهدي بهما).
واسمع إلى قول المولى سبحانه وتعالى {هو الذي
يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} أي يرى تقلب نورك وتنقله في أصلاب
آبائك من الساجدين قال سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما موضحاً
لذلك: أي (من نبي إلى نبي حتى أخرجك الله
نبيا). واسمع إلى قوله تعالى {الله نور
السموات والأرض مثل نوره كمشكاة..} ذكر القاضي عياض في الشفاء {مثل
نوره} أي نور النبي صلى الله عليه وله وسلم، وذكره أيضاً كعب الأحبار
وابن جبير، وروى عبدالرزاق - وهو شيخ البخاري- عن سيدنا جابر بن
عبدالله الأنصاري. قال: (قال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن
أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء.
قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك؛ فجعل ذلك النور يدور
بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جن ولا
إنس، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة...) وهذا
الحديث موجود بحروفه في التحفة السنية بالأجوبة المرضية للشيخ أحمد
عبداللطيف البشبيش وموجود أيضاً في كتاب جمع القواعد وفي كتاب
الملتقى، واعتمده علماء أفاضل وأولياء محققون.
وقد ذكر الحافظ الرهوني المعروف بابن القطان في
كتابه البشائر والأعلام خبراً طويلاً عن كعب الأحبار في بدء خلق
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وله وسلم وحمل سيدنا آدم لنوره
والحديث طويل فمن أراد الزيادة فليراجع ما ذكرناه.
وقد جاء في إنجيل برنابا في الفصل التاسع
والثلاثين: (إن آدم لما انتصب على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق
في الشمس نصها (لا إله إلا الله محمد رسول
الله) فلما سأل عن محمد قال الله له:إنه
ابنك الذي سيأتي للعالم بعد الاف السنين والذي متى جاء سيعطي للعالم
الهدي والنور). وغير ذلك فقد بشرت به
الأديان من قبل ميلاده وظهور رسالته. وقد وضح الإمام فخر الدين الشيخ
محمد عثمان عبده البرهاني في دروسه كل ما سبق ذكره وزاد في
الاستدلال على أولية نور النبي صلى الله عليه وله وسلم فقال رضي الله
عنه في تفسير آية {والفجر وليال عشر...}:
الفجر هو بداية ترحل نور النبي صلى الله عليه وله وسلم واستفاض في
ذلك...، ثم أشار إلى آية: {أفعيينا بالخلق
الأول بل هم في لبسٍ من خلق جديد} والتي يظهر بها أن النبي هو
(أول). ثم قال رضي
الله عنه: إن الإنسان المقصود في قوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين
من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا}، و{إنا خلقنا الإنسان من نطفة..}
ليس هو سيدنا دم لأن سيدنا آدم لم يخلق من نطفة...
وكان قد قال بذلك بعض المفسرين- بل المقصود في الآية هو النبي صلى
الله عليه وله وسلم؛ فهو الإنسان المعرف بالألف واللام في قوله
تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة} لأن سيدنا دم لم يخلق من نطفة بل
خلق من تراب.
ثم أتى لنا بدليل آخر حين فسر قوله سبحانه وتعالى
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والذي حمل بعض المفسرين معناه
على أن المتقين هم أكرمكم عند الله من عامة المسلمين، إذ قال رضي
الله عنه رداً على ذلك: إن الأمر ليس كذلك لأن نص الآية يدل على أن
النبي صلى الله عليه وله وسلم هو المقصود. أما معنى: {قبائل
لتعارفوا} فهو أن الذي يعرف منكم عليه أن يُعرِّف غيره بأن المقصود
بـ {أكرمكم عند الله أتقاكم} هوالنبي صلى الله عليه وله وسلم..،
لأنه قال أتقاكم ولم يقل: أتقياؤكم.
وقال رضي الله عنه في أوليته :
أولٌ آخـرٌ ولكـن ببـدء أنـت للأوليـات ظل
وعـود
ثم قال رضي الله عنه: وفي حديث (أنا أعرفكم بالله
وأنا أخوفكم منه) دليل واضح على أولية خلقه صلى الله عليه وآله وسلم،.
ثم إذا أردنا المزيد من حقائق المصطفى والوقوف
عليها لا بد لنا من معرفة معنى الربوبية وصفات الإلوهية. وهما تشهدان
لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالحقائق المعتبرة. انظروا
واسمعوا قول الحق سبحانه وتعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
ولفظ العالمين يضم كل الخلائق من جن وإنس وملائكة كما قال الإمام فخر
الدين. ولا بد لتحقيق هذه الرحمة المشار إليها في الآية من وجود
العالمين. فوجود الخلق أو العالمين أثبت وجود الصفة، ولولا الخلق ما
تم الظهور للرحمة وتحقيقها، فالرحمة هي النبي، والمستحق لهذه الرحمة
هو الخلق. والصفة سابقة للعقل، وعلى هذا الاعتبار فهو (أول)
صلي الله عليه وآله وسلم. وقد روى بن عساكرعن سليمان رضي الله عنه:
هبط الأمين جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: إن ربك
يقول إن كنت اتخذت إبراهيم خليلاً فقد اتخذتك حبيباً، وما خلقت خلقاً
أكرم عليَّ منك ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي
ولولاك ما خلقت الدنيا.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله
ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله خاتم الأنبياء
والمرسلين. أيها الأحباب: علمنا مما سبق أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أول الخلق وهوالنور وهو السراج المنير صلى الله عليه وآله وسلم
وهو أول كل أولية، فقد روى أبونعيم وابن أبي حاتم والديلمي من حديث
سعيد بن بشير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث).
ونفس الرواية لابن سعد مرسلاً بإسناد صحيح (كنت أول الناس في الخلق
وآخرهم في البعث) وصلى الله عليك سيدي يا رسول الله.
الدعاء...
وأقم الصلاة
لجنة التأليف والترجمة
|