ودمدني بلد العراقة والتصوف بلد القباب والعقائد
السليمة التي ما مسها الزمان بغبار الشرق يحوطها الأولياء من كل جهة
فكانوا حراسا للعقائد من غارات الخوارج أسود العركية والمكاشفية
والشيخ الجعلي وغيرهم ممن يسعهم القلب وتنسى الذاكرة كل هذا يدور
بالخلد وتزداد معالم المدينة في الوضوح كلما اقتربنا وانحرفت السيارة
إلى اليمين بجوار مبنى الإذاعة والتلفزيون في حي (بانت) حيث تتوسط
الزاوية البرهانية مفارق الطرق بأربع أبواب على أربع شوارع، وتذكرت
قصة قديمة قد رواها لي عم عبد الوهاب الذي عايش بدايات هذه الزاوية
وكان مقيما بها وفي الزيارات الأولى لمولانا سيدي فخر الدين رضى الله
عنه وقبيل صلاة الصبح قام عم عبد الوهاب من نومه ليستعد للأوراد
والصلاة وذهب يتفحص في خفة غرفة الشيخ ولكنه لم يجده فتلفت حوله
باحثا فإذا بالشيخ يجلس القرفصاء على الأرض تحت أنوار أحد أعمدة
الشارع الذي يلاصق جدار الزاوية ويلقي بأنواره في فناء الزاوية.
يا ترى
ماذا يصنع الشيخ في جلسته الغريبة، تسلل عم عبد الوهاب في خفة وهو لا
يدري كيف يتصرف وهو يرقب ما يصنع الشيخ، يا سبحان الله هذه الأرض
تكاد أن تكون مفروشة بالجنادب الصغيرة (نوع من الجراد أو الحشرات
الصغيرة) قد جذبها ضوء عمود الإنارة فاندفعت لترتطم بالمصباح وتسقط
على الأرض غير قادرة على الحراك، والشيخ في جلسته هذه يمسك بلطف
واحدة منها يصلح لها أجنحتها ويضعها برفق في كفه ويهيئها للطيران
فتطير وهكذا الواحدة تلو الأخرى، ماذا تفعل يا مولانا؟ سأل عم عبد
الوهاب، فأجاب الشيخ أصلح أجنحة هذه الجنادب لكي تستطيع الطيران
لتبحث عن رزقها،فقلت يا مولانا عنك هذا العمل أقوم به أنا، فأجاب رضي
الله عنه هل اشتكيت لك تعبي؟
وأفقت من
ذكرياتي على صوت أحد الأحباب من المنشدين يترنم ببعض أبيات قصائد
شراب الوصل ووافق اختياره خواطري وأشجاني وهو يردد:
أجود على
أم لترحــم طفلهــــا فرحمة من في الكون من بعض رحمتي
وفتح لي الباب لأدخل بعد السلامات والتحيات لأجد
أشجار الظل على الجانبين تتوسط حوضين كبيرين بهما بعض الورود
المتواضعة التناسق، وفي ظل إحدى الأشجار تقبع المزيرة ذات الأحواض
الحديدية لتحمل في عناء ستة من الأزيار التي تئن بأحمال من الماء
البارد وعلى الأغطية تتأرجح كاسات من ثمار القرع الجافة التي تستخدم
في ري الظمأ،ويواجهك صالون كبير لإقامة الحضرة في الشتاء تطل نوافذه
الواسعة المتعددة على جانب المبنى وعلى الواجهة الأخرى المقابلة،
وعلى يسارك بجوار الصالون تقع غرفتين للإعاشة واستقبال الضيوف، يليها
مباشرة الجناح القديم الذي كان مخصصا للشيخ رضي الله عنه ولكنه أضيف
لغرف الإعاشة وتم بناء جناح جديد،وكان لابد لي أن أستدير حول المبنى
مع امتداد الجدار الذي يقودك إلى الباب الذي يفتح على الفناء الكبير
من الشارع الرئيسي حيث موقع الاحتفالات في المناسبات وحين ينفتح
أمامك باب الجناح تجد صالة مكشوفة تقودك إلى باب صالون الاستقبال ثم
الغرفة والحمام المخصصين للإقامة وخلف تلك الغرفة من الصالون تجد
بابا يؤدى بك إلى خلف المبنى حيث تسير حذاء السور لتصل إلى الباب
الخلفي للزاوية وهو باب الخدمات لأنه يجاور المطبخ الفسيح وغرفة
المخزن التي تصطف مع أشجار كأنها الكافور على صف واحد مع الميضأة
التي يختبأ خلفها الحمامات ومن خلف شجر الكافور يوجد باب متواضع يفتح
على شارع صغير هادئ. وبالطبع فإن مسجد بانت على بعد أمتار من الزاوية
البرهانية فقد قرر الإخوان اختيار حي الزمالك لبناء المسجد وبعد أن
تم البناء الذي أعد لنشر دين صحيح خالي من الإرهاب والتطرف و
المغالاة قام البعض من الجيران بافتتاح المسجد بدون إكمال وبدون إذن
وأنا هنا لا أشتكى ولكن أذكر من لا ينسى أن هذا المسجد قد بني كي تعم
المشرقين طريقته.
محمد صفوت
جعفر
|