إن
الإمام
الشافعي
كالشمس للناس
والعافية
للبدن
(الإمام
أحمد بن حنبل)
من أين
قلت اتفاق
الأمة
قال الربيع بن سليمان: كنا يوما عند الشافعى
إذ جاء شيخ عليه ثياب صوف وفى يده عكازه، فقام الشافعى وسوى عليه ثيابه، وسلم على
الشيخ، وجلس، وأخذ الشافعى ينظر إلى الشيخ هيبة له إذ قال الشيخ:أسأل فقال الشافعى:
سل.
فقال
الشيخ: ما
الحجة فى دين
الله
قال الشافعى: كتاب الله.
قال
الشيخ: وماذا
قال الشافعى: سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال
الشيخ: وماذا
قال
الشافعى: اتفاق
الأمة
قال
الشيخ: من أين
قلت اتفاق
الأمة
فتدبر
الشافعى
ساعة، فقال الشيخ:
قد أجلتك
ثلاثا، فإن
جئت بحجة من
كتاب الله، وإلا
تب إلى الله
تعالى، فتغير
لون الشافعى،
ثم ذهب وفلم
يخرج إلى
اليوم الثالث
بين الظهر والعصر،
وقد انتفخ
وجهه ويداه
ورجلاه،
فجلس، فلم يكن
بأسرع من أن
جاء الشيخ
فسلم وجلس
فقال: حاجتى
فقال الشافعى: نعم، قال تعالى أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولى﴾ فلا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض.
قال الشيخ: صدقت وقام فذهب، ثم قال الشافعى
لجلسائه: قرأت القرآن فى كل يوم وليلة ثلاث مرات، حتى وقفت عليه.
فن
التورية
فى عصر
الخليفة
العباسى
هارون الرشيد
لم يزل مذهب
الاعتزال
ينمو، فظهر
بشر المريسي،
وأحضر الإمام
الشافعى
مكبلا فى
الحديد،
فسأله بشر: ما
تقول يا قرشى
فى القرآن
فقال
الشافعى: إياى
تعنى
فقال بشر: نعم.
فقال الشافعى: مخلوق فخلى الرشيد عنه، وأحس
الشافعى رضى الله عنه بالشر وأن الفتنة تشتد فى إظهار القول بخلق القرآن، فهرب من
بغداد إلى مصر.
رحلة
الإمام
الشافعى رضى
الله عنه
قال الربيع بن سليمان سمعت الإمام الشافعى رضى
الله عنه يقول: فارقت مكة وأنا ابن أربعة عشرة سنة، لا نبات يعارضى من الأبطح إلا
ذى طوى وعلىّ بردتان يمنيتان فرأيت ركبا، فسلمت عليهم، فردوا السلام، ووثب إلىّ شيخ
كان فيهم وقال: سألتك الله إلا ما حضرت طعامن.
قال
الشافعى رضى
الله عنه: وما
كنت أعلم أنهم
أحضروا طعاما
فأجبت مسرعا غير
محتشم فرأيت
القوم يأخذون
الطعام بالخمس
ويدفعون
بالراحة،
فأخذت كأخذهم
كى لا يستبشع
عليهم مأكلى،
والشيخ ينظر
إلىّ، ثم أخذت
السقاء فشربت
وحمدت الله وأثنيت
عليه، فأقبل
علىّ الشيخ
وقال: أمكى
أنت
فقال الشافعى: مكى.
قال
الشيخ: أقرشى
أنت
قال الشافعى: قرشى.
ثم أقبل
الشافعى على
الشيخ وقال له
الشافعى: يا
عم بم استدللت
على
قال الشيخ: أما فى الحضر فبالزى، وأما فى
النسب فبأكل الطعام، لأنه من أحب أن يأكل طعام الناس أحب أن يأكلوا طعامه، وذلك فى
قريش خصوص.
فقال
الشافعى: من
أين أنت
قال الشيخ: من يثرب مدينة النبى صلى الله عليه
وسلم.
فقال
الشافعى: من
العالم بها،
والمتكلم فى
نص كتاب الله
تعالى
والمفتى
بأخبار رسول
الله صلى الله
عليه وسلم
قال الشيخ: سيد بنى أصبح مالك بن أنس رضى الله
تعالى عنه.
فقال الشافعى: واشوقاه إلى مالك.
قال الشيخ: قد بل الله شوقك، انظر إلى هذا
البعير الأورق فإنه أحسن جمالنا، ونحن على رحيل، ولك منا حسن الصحبة حتى تصل إلى
مالك.
فما كان
غير بعيد حتى
قطروا بعضها،
وأركبونى البعير
الأورق، وأخذ
القوم فى
السير، وأخذ الشافعى
فى الدرس،
فختم من مكة
إلى المدينة
ستة عشر ختمة،
بالليل ختمة
وبالنهار
ختمة، ودخل
المدينة فى
اليوم الثامن
بعد صلاة
العصر، فصلى
العصر فى مسجد
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم ودنا من
القبر، وسلم
على النبى صلى
الله عليه
وسلم، ولاذ
بقبره، فرأى
مالك بن أنس
متزرا ببردة
متوشحا
بأخرى، فقال: حدثنى
نافع عن ابن
عمر عن صاحب
هذا القبر،
وضرب بيده إلى
قبر رسول الله
صلى الله عليه
وسلم، فلما
رأى الشافعى
ذلك هابه
مهابة عظيمة،
وجلس حيث
انتهى به
المجلس، فأخذ
عودا من
الأرض، فجعل
كلما أملى
حديثا كتبه
بريقه على
يديه والإمام
مالك رضى الله
عنه ينظر إليه
من حيث لا يعلم،
حتى انقضى
المجلس،
وانتظر
الإمام مالك أن
ينصرف
الشافعى فلم
يره ينصرف،
فأشار إليه، فدنا
الشافعى منه،
فنظر إليه
ساعة ثم قال مالك:
أحرمى أنت
قال الشافعى: حرمى.
قال
مالك: أمكى
أنت
قال الشافعى: مكى.
قال
مالك: أقرشى
أنت
قال الشافعى: قرشى.
قال مالك: كملت أوصافك، لكن فيك إساءة.
قال
الشافعى: وما
الذى رأيت من
سوء أدبى
قال مالك: رأيتك وأنا أملى ألفاظ الرسول صلى
الله عليه وسلم، تلعب بريقك على يدك.
قال الشافعى: عدمت البياض فكنت أكتب ما تقول.
فجذب مالك يده إليه وقال: ما أرى عليها شيئ.
قال الشافعى: إن الريق لا يثبت على اليد، ولكن
فهمت جميع ما حدثت به منذ جلست، وحفظته إلى حين قطعت.
فتعجب الإمام مالك من ذلك وقال: أعد علىّ ولو
حديثا واحد.
قال الشافعى: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر،
وأشار الشافعى بيده إلى القبر كإشارة مالك حتى أعاد عليه خمسة وعشرين حديثا حدث بها
من حين جلس إلى وقت قطع المجلس وسقط القرص، فصلى مالك المغرب، وأقبل على عبده وقال:
خذ بيد سيدك إليك.
وسأل مالك الشافعى النهوض معه، فقام الشافعى
غير ممتنع إلى ما دعا من كرمه، فلما أتى الدار أدخله الغلام إلى خلوة الدار وقال له
الغلام: القبلة فى البيت هكذا وهذا إناء فيه ماء وهذا بيت الخلاء.
فما لبث مالك رضى الله عنه حتى أقبل فسلم على
الشافعى، ثم قال الإمام مالك للعبد: اغسل علينا، فوثب الغلام إلى الإناء، وأراد أن
يغسل على الشافعى أولا فصاح عليه الإمام مالك: الغسل فى أول الطعام لرب البيت وفى
آخر الطعام للضيف.
فاستحسن
الشافعى ذلك
من الإمام
مالك وسأله عن
شرحه، فقال
الإمام مالك: إنه
يدعو الناس
إلى كرمه،
فحكمه أن
يبتدئ بالغسل،
وفى آخر
الطعام ينتظر
من يدخل فيأكل
معه
فكشف الإمام مالك رضى الله عنه طبق به طعام،
فكان فيه صحفتان فى أحدهما لبن والأخرى تمر، فسمى الله تعالى، وسمى الشافعى فأتيا
على جميع الطعام، وعلم مالك أنهما لم يأخذا من الطعام الكفاية فقال للشافعى: يا أبا
عبد الله هذا جهد من مقل إلى فقير معدم.
فقال الشافعى: لا عذر على من أحسن، إنما العذر
على من أساء.
فأقبل مالك يسأل الشافعى عن أهل مكة، حتى دنت
العشاء الآخرة، ثم قام عنه وقال: حكم المسافر أن يقل تعبه بالاضطجاع.
فنام الشافعى ليلته، فلما كان فى الثلث الأخير
من الليل قرع عليه مالك الباب، وقال له: الصلاة يرحمك الله، فرآه الشافعى حاملا
إناء فيه ماء، فتبشع عليه ذلك وقال له الإمام مالك: لا يرعك ما رأيته، فخدمة الضيف
فرض.
فتجهز الشافعى للصلاة، وصلى الفجر مع الإمام
مالك فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس كل واحد منهم فى مصلاه يسبحون
الله تعالى إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال، فجلس مالك فى مجلسه وناول الشافعى
(الموطأ) ليمليه ويقرأه على الناس وهم يكتبونه.
ثم أتى الشافعى على حفظ الموطأ من أوله إلى
آخره، وأقام ضيف الإمام مالك ثمانية أشهر، فما علم أحد من الأنس الذى كان بينهما
أيهما الضيف.
ثم قدم
على الإمام
مالك
المصريون بعد
قضاء حجتهم
للزيارة
واستماع
الموطأ،
فأملى عليهم
الإمام الشافعى
حفظا، منهم.. عبد الله بن
عبد الحكم وأشهب والليث بن سعد، ثم قدم بعد ذلك أهل العراق لزيارة النبى صلى الله
عليه وسلم، فرأى الشافعى بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه، نظيف الثوب، حسن
الصلاة، فتوسم الشافعى فيه خيرا، فسأله عن اسمه فأخبره، وسأله عن بلده، فقال:
العراق.
فقال
الشافعى: أى
العراق
فقال الفتى: الكوفة.
فقال
الشافعى: من
العالم بها،
والمتكلم فى
نص الكتاب،
والمفتى
بأخبار رسول
الله صلى الله
عليه وسلم
فقال الفتى: أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا
أبى حنيفة رضى الله عنه.
فقال
الشافعى: ومتى
عزمتم تظعنون
فقال الفتى: فى غداة غد، وقت الفجر.
فعاد
الشافعى إلى
مالك فقال له: خرجت
من مكة فى طلب
العلم بغير
استئذان
العجوز،
أفأعود
إليها، أو
أرحل فى طلب
العلم
فقال
مالك: العلم
فائدة يرجع
منها إلى
فائدة، ألم
تعلم أن
الملائكة تضع
أجنحتها لطالب
العلم رضاء
بما يطلبه
فلما
أزمع الشافعى
رضى الله عنه
على السفر، زوده
الإمام مالك
رضى الله عنه،
فلما كان فى
السحر، سار
معه مشيعا إلى
البقيع، ثم
صاح بعلو صوته:
من يكرى
راحلته إلى
الكوفة
فأقبل
الشافعى إلى
مالك وقال: بم
تكترى وليس
معك ولا معى
شئ
فقال الإمام مالك: انصرفت البارحة بعد صلاة
العشاء الآخرة، إذ قرع على قارع، فخرجت إليه، فأصبت ابن القاسم، فسألنى قبول هديته،
فقبلتها، فدفع لى صرة فيها مائة دينار، وقد أتيتك بنصفها، وجعلت النصف لعيالى.
فاكترى له بأربعة دنانير ودفع إليه باقى
الدنانير، وودعه وانصرف، وسار الشافعى فى جملة الحاج حتى وصل إلى الكوفة، فدخل
المسجد بعد صلاة العصر وصلى، فبينما هو كذلك إذ رأى غلاما قد دخل المسجد وصلى
العصر، فما أحسن الصلاة، فقام الشافعى إليه ناصحا، وقال له: أحسن صلاتك لئلا يعذب
الله هذا الوجه الجميل بالنار.
فقال
الفتى: أنا
أظن أنك من
أهل الحجاز
لأن فيكم
الغلظة والجفاء،
وليس فيكم رقة
أهل العراق،
وأنا أصلى هذه
الصلاة خمسة
عشر سنة بين
يدى محمد بن
الحسن وأبى
يوسف فما عابا
على صلاتى قط،
وخرج الفتى
معجبا، ينفض
رداءه فى وجه
الإمام
الشافعى، فلقى
محمد بن الحسن
وأبا يوسف
بباب المسجد
فقال: أعلمتما
فى صلاتى عيب
فقال محمد بن الحسن محمد: اللهم ل.
فقال الفتى: فى مسجدنا هذا من عاب صلاتى.
فقال
محمد: اذهب
فقل له بم
تدخل فى
الصلاة
فذهب
الفتى إلى
الشافعى وقال:
يا من عاب
صلاتى بم تدخل
فى الصلاة
فقال
الشافعى: بفرضين
وسنة
فعاد
الفتى إليهما
وأعلمهما
الجواب،
فعلما أنه
جواب من نظر
فى العلم،
فقال محمد بن
الحسن للفتى: اذهب
إليه فقل له: ما
الفرضان وما
السنة
فأتى
الفتى إلى
الإمام
الشافعى وقال
له: ما
الفرضان وما
السنة
فقال الشافعى: أما الفرض الأول فالنية والثانى
تكبيرة الإحرام، والسنة رفع اليدين.
فعاد الفتى إليهما، فأعلمهما بذلك، فدخلا إلى
المسجد، فلما نظرا إلى الإمام الشافعى ازدرياه، فجلسا ناحية، وقال الإمام محمد بن
الحسن للفتى: اذهب وقل له: أجب الشيخين.
فلما أتى الفتى للشافعى وقال له: أجب الشيخين.
قال الشافعى: من حكم العلم أن يؤتى إليه، وما
علمت لى إليهما حاجة.
فقام
محمد بن الحسن
وأبو يوسف من
مجلسهما إلى الشافعى
وسلما عليه،
فقام الشافعى
إليهما، وأظهر
البشاشة
لهما، وجلس
بين أيديهما
فأقبل عليه
محمد بن الحسن
وقال له: أحرمى
أنت
قال الشافعى: نعم.
فقال
محمد: أعربى
أم مولى
قال الشافعى: عربى.
فقال
محمد: من أى
العرب
قال الشافعى: من ولد المطلب.
فقال
محمد: رأيت
مالكا
قال الشافعى: من عنده أتيت.
فقال
محمد: نظرت فى
الموطأ
قال الشافعى: أتيت على حفظه.
فعظم ذلك عليه، ودعا بدواة وبياض، وكتب مسألة
فى الطهارة ومسألة فى الزكاة ومسألة فى البيوع والفرائض والرهان والحج والإيلاء ومن
كل باب فى الفقه مسألة وجعل بين كل مسألتين بياضا، ودفع إلى الدرج، وقال: أجب عن
هذه المسائل كلها من الموط.
فأجاب الشافعى بنص كتاب الله، وبسنة نبيه صلى
الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين فى المسائل كلها، ثم دفع إليه الدرج، فتأمله، ونظر
فيه، ثم قال لعبده: خذ سيدك إليك.
ثم سأله النهوض مع العبد، فنهض غير ممتنع،
فلما صار إلى الباب قال له العبد: إن سيدى أمرنى أن لا تسير إلى المنزل إلا راكب.
فقال الشافعى للعبد: قدم.
فقدم العبد للشافعى بغلة بسرج محلى، فلما علا
على ظهرها رأى نفسه بأطمار رثة، فطاف به أزقة الكوفة إلى منزل محمد بن الحسن، فرأى
أبوابا ودهاليز منقوشة بالذهب والفضة، فتذكر ضيق أهل الحجاز، يأكلون القديد ويمصون
النوى، ثم أقبل عليه محمد بن الحسن، وهو فى بكائه فقال: لا يروعك يا عبد الله ما
رأيت، فما هو إلا من حقيقة حلال ومكتسب ما يطالبنى الله فيها بفرض، وإنى أخرج
زكاتها فى كل عام، فأسر بها الصديق وأكبت بها العدو.
فما بات الشافعى حتى كساه محمد بن الحسن خلعة
بألف درهم، ثم دخل خزانته، فأخرج إليه (الكتاب الأوسط) للإمام أبى حنيفة، فنظر
الشافعى فى أوله وفى آخره، ثم ابتدأ بالكتاب فى ليلته يتحفظه، فما أصبح إلا وقد
حفظه، ومحمد بن الحسن لا يعلم بشئ من ذلك، وكان المشهور بالكوفة بالفتوى والمجيب فى
النوازل، فبينما الشافعى قاعد عن يمينه فى بعض الأيام، إذ سُئل عن مسألة أجاب فيها
وقال: هكذا قال أبو حنيفة فقال الشافعى: قد وهمت فى الجواب فى هذه المسألة، والجواب
عن قول الرجل كذا وكذا، وهذه المسألة تحتها المسألة الفلانية، وفوقها المسألة
الفلانية فى الكتاب.
فأمر محمد بن الحسن بالكتاب فأحضر، فتصفحه،
ونظر فيه، فوجد القول كما قال الشافعى، فرجع عن جوابه إلى ما قال الشافعى، ولم يخرج
إليه كتابا بعد هذ.
واستأذن
الشافعى فى
الرحيل، فقال
محمد بن الحسن:
ما كنت لآذن
لضيف بالرحيل
علىّ وبذل
للشافعى فى
مشاطرة نعمته
فقال الشافعى:
ما لذا قصدت،
ولا لذا أردت،
ولا رغبتى إلا
فى السفر،
فأمر غلامه أن
يأتى بكل ما
فى خزانته من
بيضاء
وحمراء، فدفع
إليه ما كان
فيها وهو ثلاثة
آلاف درهم،
وأقبل
الشافعى يطوف
العراق، وأرض
فارس، وبلاد
الأعاجم،
ويلقى
الرجال، حتى
صار ابن إحدى
وعشرين سنة،
ثم دخل العراق
فى خلافة هارون
الرشيد وعند
دخوله الباب
تعلق به غلام،
فلاطفه وقال
له: ما اسمك
فقال الشافعى: محمد.
قال
الغلام: ابن
من
فقال الشافعى: ابن إدريس الشافعى.
قال
الغلام: مطلبى
فقال الشافعى: أجل.
فكتب ذلك فى لوح كان فى كمه، وخلى سبيله، فآوى
الشافعى إلى بعض المساجد، يفكر فى عاقبة ما فعل، حتى إذا ذهب من الليل النصف أقبل
الجند يتأملون وجه كل رجل حتى أتوا إليه، فقالوا للناس: لا بأس عليكم هذا هو الحاجة
والغاية المطلوبة، ثم أقبلوا على الشافعى، وقالوا: أجب أمير المؤمنين.
فقام
الشافعى غير
ممتنع، فلما
بصر بأمير المؤمنين
سلم عليه
سلاما بينا،
فاستحسن
الألفاظ، ورد
عليه الجواب،
ثم قال الرشيد
للشافعى: تزعم
أنك من بنى
هاشم
فقال الشافعى: يا أمير المؤمنين كل زعم فى
كتاب الله باطل.
قال الرشيد: أبن لى عن نسبك.
فانتسب الشافعى حتى لحق آدم عليه السلام فقال
له الرشيد: ما تكون هذه الفصاحة ولا هذه البلاغة إلا فى رجل من ولد المطلب، هل لك
أن أوليك قضاء المسلمين، وأشاطرك ما أنا فيه، وتنفذ حكمك وحكمى على ما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمعت عليه الأمة.
فقال الشافعى: يا أمير المؤمنين لو سألتنى أن
أفتح باب القضاء بالغداة وأغلقه بالعشى ما فعلت أبد.
فبكى
الرشيد وقال: تقبل
من عرض الدنيا
شئ
فقال الشافعى: يكون معجل.
فأمر الرشيد له بألف دينار، فما برح من مقامه
حتى قبضها، ثم سأله بعض الغلمان والحشم، أن يصلهم من صلته، فلم تسع المروءة غير
المقاسمة فيما أنعم الله به عليه، فأخرج له قسم كأقسامهم ثم عاد إلى المسجد الذى
كان فيه ليلته، فتقدم غلام يصلى بهم صلاة الفجر فى جماعة، فأجاد القراءة، ولحقه
سهو، ولم يدر كيف الدخول ولا كيف الخروج، فقال الشافعى بعد السلام: أفسدت علينا
وعلى نفسك، أعد، فأعاد مسرعا، وأعد الشافعى باب السهو فى الصلاة والخروج منها، وفتح
الله عز وجل على الشافعى، فألف لصلاة السهو كتابا من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم وإجماع المسلمين، وولاه الرشيد الصدقات بنجران.
ولما قدم
الحجيج خرج
الشافعى
يسألهم عن
الإمام مالك،
فرأى فتى فى
قبته فسأله عن
الإمام مالك
وعن الحجاز،
فأجاب بخير،
ثم عاوده
السؤال عن الإمام
مالك فأجابه
القائد بأنه
فى صحة جيدة
وميسور
الحال،
فاشتهى
الشافعى أن
يرى مالكا فى
حال غناه كما
رآه فى حال
فقره، فقال
الشافعى للقائد:
أما عندك من
المال ما يصلح
للسفر
فقال القائد: إنك لتوحشنى خاصة، وأهل العراق
عامة، وجميع مالى لك.
فقال
الشافعى: فيم
تعيش
فنظر
القائد إليه
وحكّمه فى
ماله، فأخذ
الشافعى منه
حسب الكفاية
وسار على ديار
ربيعة ومضر،
فأتى حران
ودخلها يوم
الجمعة وذكر
فضل الغسل وما
جاء فيه، ثم
قصد الحمام،
فلما خرج وقد
خرج معه بعض
من كان فى
الحمام من
الأعيان
وقدمت له بغلة
ليركبها،
فسمع صوت
الشافعى
فانحدر عن
البغلة بعد أن
استوى عليها
وقال: أنت
الشافعى
قال: نعم، فمد الرجل الركاب ممن يلى الشافعى
وقال: بحق الله اركب، ومضى به الغلام مطرقا بين يديه حتى أتى منزل الرجل، وقد حصلت
فى منزله البشاشة، ثم دعا بالغسل، فغسل عليه، ثم حضرت المائدة، فسمى وحبس الشافعى
يده.
فقال
الرجل: ما لك
يا عبد الله
فقال
الشافعى: طعامك
حرام علىّ حتى
أعرف من أين
هذه المعرفة
فقال الرجل: أنا ممن سمع منك الكتاب الذى
وضعته ببغداد، وأنت لى أستاذ.
فقال الشافعى: العلم بين أهل العقل رحم متصلة،
ثم أكل الشافعى بفرحة، وأقام ضيفه ثلاثا، فلما كان بعد ثلاث قال الرجل: إن لى حول
حران أربع ضيع ما بحران أحسن منها، أشهد الله إن اخترت المقام، فإنها هدية منى
إليك.
فقال
الشافعى: فيم
تعيش
قال الرجل: بما فى صناديقى تلك، وأشار إليها
وهى أربعون ألف درهم وقال الرجل: أتاجر به.
فقال الشافعى: ليس إلى هذا قصدت، ولا خرجت من
بلدى لغير طلب العلم.
فقال الرجل: فالمال إذاً من نصيب المسافر.
فقبض
الإمام
الشافعى
الأربعين ألف
درهم وودع
الرجل وخرج من
مدينة حران،
ثم تلقاه
الرجال
وأصحاب
الحديث منهم أحمد
بن حنبل
وسفيان بن
عيينه
والأوزاعى،
فأجاز كل واحد
منهم على قدر
ما قسم له حتى
دخل مدينة
الرملة وليس
معه إلا عشرة
دنانير،
فاشترى بها
راحلة، وقصد
الحجاز،
فمازال من
منهل إلى منهل
حتى وصل مدينة
النبى صلى
الله عليه وسلم،
بعد سبعة
وعشرين يوما
بعد العصر،
فصلى العصر
ورأى كرسيا من
الحديد عليه
مخدة مكتوب عليها:
لا إله إلا
الله محمد
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم، وحول
الكرسى
أربعمائة
دفتر أو يزدن،
وبينما
الشافعى كذلك
إذ رأى الإمام
مالك قد دخل
من باب النبى
صلى الله عليه
وسلم وقد فاح
عطره فى
المسجد، فلما
وصل قام إليه
من كان قاعدا
وجلس على
الكرسى،
فألقى مسألة،
فقصد الشافعى
رجلا وقال له
جواب هذه
المسألة كذا
وكذا، فبادر
الرجل
بالجواب قبل
فراغ الإمام
مالك من
السؤال،
فأضرب عنه
الإمام مالك،
وأقبل على
أصحابه،
فسألهم عن
الجواب،
فخالفوه،
فقال لهم: الإمام
مالك: أخطأتم،
وأصاب الرجل،
ففرح الرجل
بإصابته، فلما
ألقى الإمام
مالك السؤال
الثانى أقبل الرجل
على الشافعى
يطلب منه
الجواب، فقال
له الجواب كذا
وكذا، فبادر
بالجواب، فلم
يلتفت إليه
الإمام مالك،
فأقبل على
أصحابه
واستخبرهم عن
الجواب،
فخالفوه،
فقال مالك
أخطأتم وأصاب
الرجل، فلما
ألقى الإمام
مالك السؤال
الثالث، قال
الشافعى قل الجواب
كذا وكذا،
فبادر الرجل
بالجواب،
فأعرض الإمام
مالك عنه،
وأقبل على
أصحابه،
فخالفوه فقال
الإمام مالك
أخطأتم وأصاب
الرجل، ثم قال
الإمام مالك
للرجل: ادخل،
ذلك ليس
موضعك، فدخل
الرجل طاعة
منه للإمام
مالك، وجلس
بين يديه،
فقال له مالك
فراسة: أقرأت
الموطأ
فقال الرجل: ل.
فقال
الإمام مالك: فنظرت
ابن جريج
فقال الرجل: ل.
فقال الإمام مالك: فلقيت جعفر بن محمد الصادق.
فقال الرجل: ل.
فقال
الإمام مالك: فهذا
العلم من أين
فقال الرجل: إلى جانبى غلام شاب يقول لى: قل
الجواب كذا وكذا، فكنت أقول، فقال الإمام مالك للرجل قم فأمر صاحبك بالدخول إلين.
فدخل
الإمام
الشافعى،
فقال له
الإمام مالك: أنت
الشافعى
فقال: نعم، فضمه إلى صدره، ونزل عن كرسيه وقال
له الإمام مالك أتمم هذا الباب الذى نحن فيه حتى ننصرف إلى المنزل الذى هو لك،
المنسوب إلى.
فألقى
الشافعى
أربعمائة
مسألة فى جراح
العمد، فما
أجابه أحد
بجواب،
واحتاج أن
يأتى بأربعمائة
جواب فقال
الشافعى: الأول
كذا وكذا
والثانى كذا
وكذا، فلما
سقط القرص،
وصلوا
المغرب، فضرب
مالك بيده
إليه فلما
وصلا المنزل
رأى الشافعى
بناء غير
الأول، فبكى،
وقال الإمام
مالك مم
بكاؤك، كأنك
يا أبا عبد
الله خفت أن
قد بعت الآخرة
بالدنيا
فقال الشافعى: هو والله ذلك.
فقال الإمام مالك: طب نفسا وقر عينا، هذه
هدايا خراسان وهدايا مصر، والهدايا تجئ من أقاصى الدنيا، وقد كان النبى صلى الله
عليه وسلم يقبل الهدية ويرد الصدقة، وإن لى ثلاثمائة خلعة من زى خراسان وقباطى مصر،
وعندى عبيد بمثلها، لم تستكمل الحلم، فهم هدية منى إليك، وفى صناديقى تلك خمسة آلاف
دينار أخرج زكاتها عند كل حول، فلك منى نصفه.
فقال
الشافعى: إنك
موروث، وأنا
موروث، فلا
يبيت جميع ما
وعدتنى به إلا
تحت خاتمى
ليجرى ملكى
عليه، فإن حضرنى
أجلى كان
لورثتى دون
ورثتك، وإن
حضر أجلك كان
لى دون ورثتك
فتبسم الإمام مالك فى وجه الشافعى وقال: أبيت
إلا العلم.
فقال الإمام الشافعى: لا يستعمل أحسن منه، وما
بات الشافعى إلا وجميع ما وعده الإمام مالك به تحت خاتمه، فلما كان غداة غد، صلى
الفجر فى جماعة وانصرف إلى المنزل هو والإمام مالك وكل واحد منهما يده فى يد صاحبه،
إذ رأى كراعا على بابه من جياد خراسان، وبغالا من مصر، فقال الشافعى لمالك: ما رأيت
أحسن من هذ.
فقال مالك: هو هدية منى إليك يا أبا عبد الله.
فقال الشافعى: دع لك منها دابة.
فقال مالك: إنى أستحى من الله أن أطأ قرية
فيها نبى الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة، فعلم الإمام الشافعى أن ورع الإمام
مالك باق على حاله، فأقام عنده ثلاثا، ثم ارتحل إلى مكة وهو يسوق خير الله ونعمه.
فلما
وصل إلى
الحرم، خرجت
العجوز ونسوة
معها فضمته
إلى صدرها،
وضمته بعدها
عجوز كانت
تألفه
ويألفها
يدعوها
خالته، وقالت:
إلى أين عزمت
قال الشافعى: إلى المنزل.
فقالت العجوز: هيهات تخرج من مكة بالأمس فقيرا
وتعود إليها مترفا تفخر على بنى عمك بذلك.
فقال
الشافعى: فما
أصنع
فقالت العجوز: ناد بالأبطح فى العرب بإشباع
الجائع وحمل المنقطع وكسوة العراة فتربح ثناء الدنيا وثواب الآخرة.
ففعل
الإمام
الشافعى ما
أمرت به
العجوز وبلغ ذلك
الإمام مالك
فبعث إليه
يستحثه على
الفعل ويعده
أنه يحمل إليه
فى كل عام مثل
ما صار إليه
منه، وما دخل
الإمام
الشافعى مكة
ولا يملك إلا
بغلة واحدة
وخمسين
دينارا،
فوقعت المقرعة،
فناولته
إياها امة على
كتفها قربة،
فأخرج لها
خمسة دنانير،
فقالت العجوز:
ما أنت صانع
فقال الشافعى: أجيزها على فعله.
فقالت العجوز: ادفع إليها جميع ما تأخر معك.
فدفع الشافعى ما معه، ودخل إلى مكة، فما بات
تلك الليلة إلا مديونا وأقام مالك رضى الله عنه يحمل إليه فى كل عام مثل ما كان دفع
إليه أولا إحدى عشرة سنة، فلما مات مالك رحمه الله تعالى، ضاق الحجاز به، وخرج إلى
مصر.
هذا ما لقيه الشافعى رضى الله عنه فى سفره.
قالوا
فى الشافعى
جاء
يحيى بن معين
إلى أحمد بن
حنبل، فبينا هو
عنده، إذ مر
الشافعى على
بغلته، فوثب
أحمد يسلم
عليه، وتبعه
فأبطأ، ويحيى
جالس، فلما جاء،
قال يحيى: يا
أبا عبد الله،
لم هذا
فقال الإمام أحمد: دع عنك هذا إن أردت الفقه،
فالزم ذنب البغلة.
ومما
قاله الإمام
أحمد بن حنبل:
۞ كان الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة، فجاء
محمد بن إدريس طبيبا صيدلاني.
۞ إن الله يقيض للناس فى رأس كل مائة سنة
يعلمهم السنن، وينفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، قال: فنظرنا، فإذا فى
رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفى رأس المئتين الشافعى.
۞ صاحب حديث لا يشبع من كتب الشافعى.
۞ كان الشافعى إذا ثبت عنده الخبر قلده، وخير
خصلة كانت فيه لم يكن يشتهى الكلام، إنما همته الفقه.
۞ كان الشافعى من أفصح الناس.
۞ ما أحد مس محبرة ولا قلما إلا وللشافعى فى
عنقه منة.
۞ ستة أدعو لهم سحرا، أحدهم الشافعى.
۞ قال أحمد بن العباس النسائى فى سير أعلام
النبلاء: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعى.
۞ قال إبراهيم بن أبى طالب الحافظ فى سير أعلام
النبلاء: سألت أبا قدامة السرخسى عن الشافعى وأحمد وأبى عبيد وابن راهويه، فقال:
الشافعى أفقههم.
۞ قال إبراهيم بن محمد الشافعى فى سير أعلام
النبلاء: ما رأيت أحسن صلاة من الشافعى، وذاك أنه أخذ من مسلم بن خالد، وأخذ مسلم
من ابن جريح، وأخذ ابن جريح من عطاء، وأخذ عطاء من ابن الزبير، وأخذ ابن الزبير من
أبى بكر الصديق، وأخذ أبو بكر من النبى صلى الله عليه وسلم.
۞ قال ابن راهويه فى مناقب الشافعى للبيهقي
وسير أعلام النبلاء: ما كنت أعلم أن الشافعى فى هذا المحل، ولو علمت لم أفارقه.
۞ قال ابن عبد الحكم فى تاريخ ابن عساكر وسير
أعلام النبلاء: ما رأيت الشافعى يناظر أحدا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعى يناظرك
لظننت أنه سبع يأكلك وهو الذى علم الناس الحجج.
۞ قال أبو ثور الكلبى فى تاريخ ابن عساكر وسير
أعلام النبلاء: ما رأيت مثل الشافعى ولا رأى هو مثل نفسه.
۞ قال أبو زرعة الرازى فى تاريخ ابن عساكر وسير
أعلام النبلاء: ما عند الشافعى حديث فيه خط.
۞ قال أيوب بن سويد فى آداب الشافعى ومناقب
الشافعى للبيهقى وحلية الأولياء وسير أعلام النبلاء: ما ظننت أنى أعيش حتى أرى مثل
الشافعى.
۞ قال أحمد ابن أبى سريج الرازى فى آداب
الشافعى وسير أعلام النبلاء: أخذت شعر هذيل من الشافعى ما رأيت أحدا أفوه ولا أنطق
من الشافعى.
۞ قال محمد بن إدريس صدوق: كان الشافعى ممن تؤخذ عنه اللغة.
جمع
وتحقيق
هاديه
الشلالى
غادة
سليمان الزين
|