أبـو علـى الـروذبـاري
أبو على أحمد بن محمد الروذبارى البغدادى ثم المصرى، وروذبار تقال
لمواضع عند الأنهار الكبار، وهذا الموضع عند طوس كما قال السمعانى، وقال الطلحى:
قرية من بغداد، وقد صحب الجنيد والنورى وابن الجلاء وغيرهم، كان أظرف المشايخ
وأعلمهم بالطريقة، كبير الشأن.
من كلامه: من الاغترار أن تسىء فيحسن إليك، فتترك الإنابة والتوبة
توهما أنك تسامح فى الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق عليك، وقال: لو تكلم أهل
التوحيد بلسان التجريد ما بقى محب إلا مات، وقال: قدم علينا فقير فى يوم عيد فى
هيئة رثة، فقال: هل عندك مكان نظيف، يموت فيه فقير غريب؟ فقلت كالمتهاون به: ادخل
ومت حيث شئت فدخل فتوضأ وصلى ركعتين، ثم اضطجع ومات، فجهزته، فلما دفنته وكشفت عن
وجهه لأضعه فى التراب، ليرحم الله غربته، فتح عينيه وقال: يا أبا على أتدللنى بين
يدى من يدللنى؟ فقلت: يا سيدى أحياة بعد الموت؟ قال: نعم أنا حى، وكل محب لله حى،
لأنصرنك غدا بجاهى يا روذبارى.
وقالت فاطمة أخت الروذبارى: لما قربت وفاة أخى كانت رأسه فى حجرى،
ففتح عينيه وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت وهذه الجنان قد زينت وهذا قائل يقول: يا
أبا على قد بلغناك الرتبة القصوى وان لم تسألها، وأعطيناك درجة الأكابر وان لم
تردها، وأنشأ يقول:
وحقـك لا نظـرت إلى سـواكـا بعـين مـودة حـتـى أراكــا
أراك معـذبـى بفتـور لحــظ وبالخـد المـورد مـن جنـاكـا
وقال أيضا: من خدم الملوك بلا عقل أسلمه الجهل إلى القتل، وقال: إن
الخشوع فى الصلاة (علامة) فلاح المصلى، قال تعالى ﴿قد أفلح المؤمنون الذين هم فى
صلاتهم خاشعون﴾ وقال فى قوله تعالى ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقامو﴾ استقاموا
بالرضاء على مر القضاء والصبر على البلاء والشكر فى النعماء.
وقال أيضا: إذا انقطع العبد إلى الله تعالى بكليته، فأول ما يفيد
الاستغناء به عن الناس، وقال: صحبة الفساق داء والدواء مفارقتهم، وقال: إذا سكن
الخوف فى القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه، وقال: روائح نسيم المحبة تفوح من
المحبين وإن كتموها وتغلب عليهم دلائلها وإن أخفوها، وتدل عليهم وإن ستروها.
ومن أصحابه أبو على الحسن بن أحمد الكاتب أحد مشايخ وقته ومن كبار أهل
مصر.
توفى رضى الله عنهه سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وقال السمعانى سنة
ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
أبو الحسين النورى
أبو الحسين أحمد بن محمد النورى البغدادى، لم يكن فى وقته أحسن طريقة
منه، ولا ألطف كلاما، صحب السرى وابن أبى الحوارى، وكان من أقران الجنيد، كبير
الشأن، والنورى نسبة إلى نور، بليدة بين بخارى وسمرقند، ويقال النورى لنور كان
بوجهه فنسب إليه، وقيل: النورى لحسن وجهه، سئل عن أدب المعرفة فقال: لا تصل إلى أول
مبدأ حواشى المعرفة حتى تخوض إلى الله سبعة بحار من نيران، بحرا بعد بحر، فعسى بذلك
يقع لك أوائل بدو علم المعرفة، وقال: إذا امتزجت نار التعظيم مع نور الهيبة فى السر
هاجت ريح المحبة من حجب العطف على النار والنور، فيظهر فيه الاشتياق وتتلاشى
البشرية، فيتولد من ذلك المثابرة.
وقال فى قوله تعالى ﴿وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم﴾ أوفوا بعهدى فى دار
محبتى على بساط خدمتى بحفظ حرمتى، أوف بعهدكم فى دار نعمتى على بساط قربتى بسرور
رؤيتى، ومكث عشرين سنة يأخذ من بيته رغيفين، فيخرج إلى سوقه فيتصدق بهما، ويدخل إلى
مسجده، فلا يزال يركع حتى يحين وقت سوقه، فيذهب إليه، فيظن أهل سوقه أنه تغدى فى
منزله، وأهل بيته أنه أخذ معه غداءه -وهو صائم- وذات مرة دخل الماء ليغتسل، فجاء لص
فأخذ ثيابه، فخرج فلم يجدها، فرجع إلى الماء، فلم يكن إلا قليلا حتى جاء اللص بها
وقد جفت يده، فقال رضى الله عنه: يا سيدى قد رد ثيابى فرُد عليه يده فردت ومضى،
ولما سعى بالصوفية إلى الخليفة، وأمر بضرب أعناقهم، تقدمهم النورى وقد بُسط النطع،
فقال له السياف: لا أدرى لماذا تبادر؟ وما الذى يعجلك؟ قال: أوثر أصحابى علىّ بحياة
ساعة، فتحير السياف، وأنهى خبرهم إلى الخليفة، فرد أمرهم إلى القاضى، فألقى القاضى
على أبى الحسين مسائل فقهية، فأجاب عنها، ثم قال: وبعد فإن لله عبادا إذا قاموا
قاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله، وسرد ألفاظا حتى أبكى القاضى، فأرسل القاضى
إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض موحد، فخلى سبيلهم، وقال:
حيل بينى وبين قلبى أربعين سنة، ما اشتهيت شيئا، ولا تمنيت شيئا، ولا استحسنت شيئا
منذ عرفت ربى.
واعتل النورى، فبعث الجنيد بصرة فيها دراهم وعاده، فردها النورى، ثم
اعتل الجنيد، فدخل عليه النورى عائدا، فقعد عند رأسه ووضع يده على جبهته فعوفى فى
ساعته، فقال النورى للجنيد: إذا زرت إخوانك فأرفقهم بهذا البر، وروى أنه أصابته علة
وأصابت الجنيد علة، فالجنيد أخبر عن حاله، والنورى كتم، فقيل له: لما لم تخبر كما
أخبر صاحبك؟ فقال: ما كنا لنبتلى ببلوى فنوقع عليها اسم الشكوى، فأعيد ذلك على
الجنيد، فقال: ما كنا شاكين، ولكنا أردنا أن نكشف عن عين القدر
فينا.
وروى أنه اجتمع الجنيد والنورى ورويم وابن وهب وغيرهم فى سماع، فمضى
بعض الليل وأكثره، فلم يتحرك أحد منهم، ولا أثر فيه القول، فقال النورى للجنيد: يا
أبا القاسم هذا السماع يمر مراً ولا أرى وجدا يظهر، فقال الجنيد: يا أبا الحسين ﴿وترى
الجبال تحسبها� جامدة وهى تمر مر السحاب﴾
فأنت يا أبا الحسين، ما أثر عليك؟ قال النورى: ما بلغت مقامى فى السماع، فقال له
الجنيد: وما مقامك فيه؟ فقال: الرمز بالإشارة دون الإفصاح والكناية دون الإيضاح.
وقال الحسين بن الفضيل: حضرت النورى وهو فى الموت، فقلت: ألك حاجة؟ أو
فى نفسك شهوة؟ فرفع رأسه وقد انكسر لسانه، وقال: أى والله أشتهى شهوة كبيرة، قلت: وما
هى؟ قال: أشتهى أن أرى الله، ثم تنفس ثلاثا عاليا كالواجد بحاله وفارق الدنيا،
وأنشد النورى:
كـم حسـرة لى قـد غصـت مرارتها جعـلت قلـبى لهـا وقـفـا لبـلواكـا
وحـق مـا مـنـك يبـلينى ويتلـفنى لأبـكـيـك أو أحـظـى بـلـقيـاكـا
وتوفى رضى الله عنه قبل الإمام الجنيد فى سنة خمس وتسعين ومائتين.
من التراث الصوفى
كتـاب اللـه وعتـرتى
تفرق الناس واختلفت طوائفهم مع أن المعلم الهادى واحد وأصبحوا حيارى
تائهين بين مدع للعلم وغيره، والكل يدلى بدلوه ولكن الإختلاف قائم وظاهر للعيان لا
ينكره أحد تحت شعار حديث شريف ألا وهو (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى
أبدا كتاب الله وسنتى) مرددين أنه صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء
ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.� نعم
هذا كله صحيح ولكن لماذا اختلفنا مادام الأمر هكذا؟
ذلك لأن كلٌ منهم يفسر الكتاب والسنة على هواه معتقدا أنه على حق،
وواقع الحال أن المصطفى الهادى صلوات ربى وسلامه عليه ذكر هذا الحديث فى حال حياته
بين الصحابة حتى إذا استشكل عليهم أمر من الأمور ذهبوا إليه ليصححه لهم، وهذا
الحديث الذى رواه الحاكم فى المستدرك صالح فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم لأنه
لا أحد يدانيه صلى الله عليه وسلم فى فهم الكتاب والسنة، وبعد انتقاله صلوات ربى
وسلامه عليه إلى من يلجأ الناس والقرآن (حمال ذو أوجه) كما قال الإمام على كرم
الله وجهه، وفيه المحكم والمتشابه، وإن من الآيات ما تؤول ولا تفسر والقرآن عطّاء
إلى يوم القيامة، فأين السبيل وقد احتار الناس بالفعل واختلفوا وتباينوا وضعفوا
وأصبحوا مطمعا للأعداء من كل جانب، لذلك لم يخف هذا الأمر على الحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم الذى يقول رب العزة عنه ﴿وما هو على الغيب بضنين﴾ فقد أخبره بهذا
علام الغيوب فأورد لنا الأحاديث التى تنجى الأمة من الفتن والإختلاف والتناحر
والتى تكون كقطع الليل المظلم يهتدى بها من أراد الله هدايته فى هذا الظلام الحالك
من الجهل والضلال وتكون له نورا كنور الشمس فى وضح النهار، تظهر له كل شئ على
حقيقته فتنشله من الشكوك والأوهام إلى بر الأمان، ولذلك حينما قرب موعد انتقاله
صلى الله عليه وسلم أورد لنا عدة أحاديث منها (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدى أبدا كتاب الله وعترتى أهل بيتى) الذى أورده الإمام مسلم فى صحيحه والإمام
الترمذى فى السنن والإمام أحمد فى المسند حتى أن محمد بن عبد الوهاب جعله من أهم
الأحاديث بل اعتبره أصل من أصول التوحيد فى كتابه (أصول الإيمان) المطبوع بالرياض،
ولكن المتحدثون بلسان الإسلام آثروا الحديث الأول عليه، اتباعا للهوى وإضلالا
للناس عن مكانة أهل البيت وضرورة الإقتداء بهم وحبهم والولاء لهم، فكان الحديث
كلمة حق أريد بها باطل، ونجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رواية الإمام
أحمد يقول (إنى أوشك أن أدعى فأجيب وإنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من
السماء إلى الأرض وعترتى أهل بيتى وإن اللطيف الخبير أخبرنى أنهما لن يفترقا حتى
يردا على الحوض يوم القيامة فانظروا فيما تخلفونى فيهما) فمن أراد أن ينجو من
الإختلاف والفرقة والضلال فعليه بالتمسك بأهل البيت سفينة النجاة القائل عنهم جدهم
صلى الله عليه وسلم (مثل أهل بيتى فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)
وفى رواية (غرق) وفى رواية (زج فى النار) رواه جماعة من أصحاب السنن عن عدة من
الصحابة وذكره الإمام يوسف إسماعيل النبهانى فى كتابه الشرف المؤبد لآل محمد صلى
الله عليه وسلم ومن المستدرك للحاكم حديث رقم 4720 عن أبى اسحق عن حنسن الكنانى
قال سمعت أبا ذر رضى الله عنه يقول وهو آخذ بباب الكعبة ثم قال من عرفنى فأنا من
عرفنى ومن أنكرنى فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ألا إن مثل
أهل بيتى مثل سفينة نوح من قومه من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) وعن أبى ذر سمعته
صلى الله عليه وسلم يقول (اجعلوا أهل بيتى منكم مكان الرأس من الجسد ومكان العينين
من الرأس ولا يهتدى الرأس إلا بالعينين) وروى الحاكم وصححه على شرط الشيخين أنه
صلى الله عليه وسلم قال (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمتى من
الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس) ومن هذا كله
يتضح لنا أهمية أهل البيت الكرام وفى هذا الشأن يقول واحد من أعلام أهل البيت، ألا
وهو الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى:
ونلنا كل نيل من سخاء وصرنا بعده سفن النجاة
محمد مقبول
التهنئة بالعيد
أخرج الطبرانى فى الكبير وزاهر بن طاهر فى تحفة عيد الأضحى عن حبيب بن
عمر الأنصارى قال حدثنى أبى قال لقيت واثلة رضى الله عنه يوم عيد فقلت: تقبل الله
منا ومنك، فقال تقبل الله منا ومنك، وأخرج الأصبهانى فى الترغيب عن صفوان بن عمرو
السكسكى قال سمعت عبد الله بن بسر وعبد الرحمن بن عائذ وجبير بن نفير وخالد بن
معدان يقال لهم فى أيام العيد: تقبل الله منا ومنكم ويقولون ذلك لغيرهم، وأخرج
الطبرانى فى الدعاء والبيهقى عن راشد بن سعد أن أبا أمامة وواثلة لقياه فى يوم عيد
فقالا تقبل الله منا ومنك، وأخرج زاهر بن طاهر فى كتاب تحفة عيد الفطر وأبو أحمد
الفرضى فى مشيخته بسند حسن عن جبير بن نفير قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنكم، وأخرج البيهقى من
طريق أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال كنا نقول لعمر بن عبد العزيز فى العيدين تقبل
الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا مثله ولا ينكر ذلك، وأخرج الطبرانى فى
الدعاء من طريق حوشب بن عقيل قال لقيت الحسن البصرى فى يوم عيد فقلت تقبل الله منا
ومنك، وأخرج ابن حبان فى الثقات عن على بن ثابت قال سألت مالكا عن قول الناس فى
العيد تقبل الله منا ومنك فقال مازال الأمر عندنا كذلك.
وعن أنس رضى الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
ولهم يومان يلعبون فيهما فقال (قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم
الفطر) أخرجه أبو داود والنسائى بإسناد صحيح، الحديث يدل على أنه قال صلى الله عليه
وسلم ذلك عقيب قدومه المدينة، وقد أوردت كتب السير أن أول عيد شرع فى الإسلام عيد
الفطر وكان ذلك فى السنة الثانية من الهجرة، وفيه دليل على اظهار السرور فى الأعياد
وأن ذلك من الشريعة التى شرعها الله لعباده، إذ فى إبدال عيد الجاهلية بالعيدين
دلالة على أنه يفعل فى العيدين ما تفعله الجاهلية فى أعيادها، وإنما خالفهم فى
تعيين الوقتين، والمراده من أفعال الجاهلية ما ليس بمحظور ولا شاغل عن الطاعة بل
بالتوسعة على العيال فى الأعياد بما حصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس من كلف
العبادة فهو مشروع، وقد استنبط بعضهم كراهية الفرح فى أعياد المشركين والتشبه بهم،
وبالغ فى ذلك الشيخ الكبير أبو حفص البستى من الحنفية وقال زمن أهدى فيه بيضة إلى
مشرك تعظيما لليوم فقد كفر باللهس وعن الإمام على رضى الله عنه قال (من السنة أن
تخرج إلى العيد ماشيا) رواه الترمذى وحسنه، وكذلك أن تأكل شيئا قبل أن تخرج، قال
أبو عيسى: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، فيستحبون أن يخرج الرجل إلى
العيد ماشيا وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج، قال أبو عيسى: ويستحب أن لا يركب إلا من
عذر.
إبراهيم عبد المجيد
|