بـاب الـتـوبـة
عن الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال: حدثنى أبو بكر رضى
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن
الوضوء ويصلى ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له) ثم تلا هذه الآية ﴿ومن يعمل
سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيم﴾ وفى رواية تلا هذه الآية
﴿والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر
الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم
وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين﴾ وقال الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما طرد الله عز وجل إبليس عليه اللعنة قال بعزتك
وعظمتك إنى لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده، فقال الرب تعالى وعزتى وعظمتى لا
أحجب التوبة عن عبدى حتى يغرغر
بها.
وروى القاسم عن أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه
وسلم قال: صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد حسنة كتب له صاحب
اليمين عشرة، وإذا عمل سيئة فأراد أن يكتبها صاحب الشمال قال صاحب اليمين أمسك،
فيمسك ست ساعات من النهار أو سبع ساعات فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيئا وإن لم
يستغفر يكتب عليه سيئة واحدة، قال الفقيه رضى الله عنه: وهذا موافق لما روى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وروى فى رواية
أخرى أن العبد إذا أذنب لم يكتب عليه حتى يذنب ذنبا آخر، ثم إذا أذنب ذنبا آخر فلم
يكتب عليه حتى يذنب ذنبا آخر، فإذا اجتمعت عليه خمسة من الذنوب وعمل حسنة واحدة كتب
له خمس حسنات وجعل الخمس بإزاء خمس سيئات فيصيح عند ذلك إبليس عليه اللعنة ويقول
كيف أستطيع على ابن آدم وإنى وإن اجتهدت عليه يبطل بحسنة واحدة جميع جهدى، وروى
صفوان بن عسال المرادى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قبل
المغرب باب خلقه الله تعالى للتوبة عرضه مسيرة سبعين سنة أو أربعين سنة لا يزال
مفتوحا لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها)، وعن سعيد بن المسيب فى قوله عز وجل
﴿فإنه كان للأوابين غفور﴾ قال: هو الرجل يذنب ذنبا ثم يتوب ثم يذنب ذنبا ثم يتوب،
وقيل للحسن البصرى: إلى متى هذا؟ قال: لا أعرف هذا إلا من أخلاق المؤمنين، وقال بعض
الحكماء: حرفة العارف ستة أشياء: إذا ذكر الله افتخر، وإذا ذكر نفسه احتقر، وإذا
نظر فى آيات الله اعتبر، وإذا هم بمعصية أو شهوة انزجر، وإذا ذكر عفو الله استبشر،
وإذا ذكر ذنوبه استغفر.
قال الفقيه رحمه الله حدثنى أبى رحمه الله تعالى حدثنا أبو الحسن
الفراء حدثنا أبو بكر الجرجانى عن محمد بن اسحق عمن حدثه عن معمر عن الزهرى قال: دخل
عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر؟ فقال يا رسول الله بالباب شاب قد أحرق فؤادى وهو
يبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر أدخله على؟ قال: فدخل وهو يبكى
فقال له رسول الله ما يبكيك يا شاب؟ قال: يا رسول الله أبكتنى ذنوب كثيرة وخفت من
جبار غضبان على، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركت بالله شيئا يا شاب؟ قال
لا، قال أقتلت نفسا بغير حق؟ قال لا، قال فإن الله يغفر ذنبك، ولو كان مثل
السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسى، قال يا رسول الله ذنبى أعظم من
السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسى، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذنبك أعظم أم الكرسى؟ قال ذنبى أعظم، قال ذنبك أعظم أم العرش؟ قال ذنبى أعظم،
قال ذنبك أعظم أم إلهك؟ يعنى عفو الله، قال بل الله أعظم وأجل، قال فإنه لا يغفر
الذنب العظيم إلا الله العظيم، يعنى العظيم التجاوز، قال أخبرنى عن ذنبك؟ قال فإنى
أستحى منك يا رسول الله، قال أخبرنى عن ذنبك؟ قال يا رسول الله إنى كنت رجلا نباشا
أنبش القبور منذ سبع سنين حتى ماتت جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من
كفنها فمضيت غير بعيد إذ غلب الشيطان على نفسى، فرجعت فجامعتها فمضيت غير بعيد إذ
قامت الجارية وقالت: ويلك يا شاب أما تستحى من ديان يوم الدين يضع كرسيه للقضاء
ويأخذ للمظلوم من الظالم تركتنى عريانة فى عسكر الموتى وأوقفتنى جنبا بين يدى الله
عز وجل، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدفع فى قفاه وهو يقول: يا فاسق ما
أحوجك إلى النار أخرج عنى، فخرج الشاب تائبا إلى الله تعالى أربعين ليلة، فلما تم
له أربعون ليلة رفع رأسه إلى السماء فقال: يا إله محمد وآدم وحواء إن كنت غفرت لى
فأعلم محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإلا فأرسل نارا من السماء فأحرقنى بها
ونجنى من عذاب الآخرة، قال: فجاء جبريل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: السلام
عليك يا محمد ربك يقرئك السلام، فقال هو السلام ومنه السلام وإليه يرجع السلام،
قال: يقول الله تعالى: أنت خلقت الخلق؟ قال بل هو الذى خلقنى وخلقهم، قال يقول: أنت
ترزقهم؟ قال بل الله يرزقهم وإياى، قال يقول: أنت تتوب عليهم؟ قال بل الله يتوب
على وعليهم، قال يقول الله تعالى: تب على عبدى فإنى تبت عليه، فدعا النبى صلى الله
عليه وسلم الشاب وبشره بأن الله تعالى تاب عليه.. وللحديث بقية
عبد المجيد إبراهيم
ولي نظم
در
بيان فضل آل بيت النبى
وزيارة روضاتهم
من أجمل ما نظمه الإمام فخر الدين رضى الله عنه: فى بيان فضل آل بيت
النبى صلى الله عليه وسلم وزيارة روضاتهم، ولاسيما روضة الإمام الحسين رضى الله
عنه، ما ذكره فى قصيدته النونية:
دار بها المكلوم يجمع أمــره دار النسيب وساطع البرهـان
هم منة الله العلى لخـلـقـه هم عاقلى هم ناظرى ولسانى
أطفى بهم حر اللظى وسعيرها لولا محبتهم�يـقـال بـثـان
لولا هواهم فى القلوب والحشا ما ذاق قـلـب لذة الإيـمـان
فمن مظاهر جمال الألفاظ والعبارات:
n�تنكير كلمة (دار) ليفيد تعظيم تلك الدار وعلو
مكانتها واختصاصها بتلك النفحات.
n�واستعمل لفظة (المكلوم) بدلا من الحزين مثلا، لأن
لفظة (المكلوم) تجمع مع الحزن الشعور بألم الجرح والإنكسار الذى يصيب القلب والنفس.
n�والتعبير بالضمير (هم) وهو لجمع الغائبين، يعد
أبرز أنواع المعارف، والجمع يدل على الكثرة.
n�واسناد لفظة (المنة) إلى لفظ الجلالة (الله) يدل
على عظم تلك المنة.
n�كما
أن تكرار هذا الضمير يؤكد مدى حبه الشديد لهم والتغنى بأسمائهم، وتغلغل حبهم الشديد
فى قلبه وروحه.
n�وتنكير كلمة (قلب) بالشطر الثانى من البيت الرابع
يدل على العموم والشمول.
أما عن جمال الأسلوب:
ترى أن أسلوب الأبيات جاء خبريا، ليقرر المعنى فى النفوس، ويبرزه على
أنه حقيقة واضحة.
n�وقد
استهل البيت الأول بالخبر (دار) وحذف المبتدأ، وذلك للعلم بالمحذوف، وتقدير ذلك: هى
أو تلك الروضة أو الدار، وكذلك حذف الفاعل فى (يجمع) للدلالة على عظم أثر من
بالدار، وكذلك حذف الفاعل فى (يقال) دلالة على أن محبة آل البيت فرض عين، ومن يقل
غير ذلك فقد جعل لله تعالى ثاني.
n�واستخدام المضارع فى (يجمع) أطفى، يقال يفيد
التجدد والاستمرار.
n�وقد
قدم رضى الله عنه: الجار والمجرور (بها) لتخصيص تلك الدار بهذا الأثر دون سواه.
n�وكذلك تقدم كلمة (بهم) على المفعول (حر) للدلالة
على اختصاصهم وحدهم بهذا الأثر.
n�واستخدام أسلوبى الشرط بالأداة (لولا) وهى حرف
يفيد امتناع وقوع الجواب لوجود الشرط فى قوله (لولا) محبتهم يقال.. ولولا هواهم.. ما
ذاق قلب.. مما يفيد عظم مكانة آل البيت وعلو منزلتهم فى قلوب محبيهم، وهذا يتضح من
إرتباط الجواب بالشرط.
ومن مظاهر البديع فى الأبيات:
الجمع بين المتضادين كما فى (المكلوم) ويجمع أمره، وأطفى، وحر اللظى.
n�وحسن
التقسيم فى الشطر الثانى من البيت الأول والشطر الثانى من البيت الثانى، وهذا من
مظاهر الموسيقى الداخلية التى تطرب الأذان.
n�ومن
مظاهر الموسيقى الخارجية جاءت الأبيات على وزن بحر الكامل وقافيته التى ينتهى رويها
بحرف النون.
ومن مظاهر التصوير البيانى بالأبيات:
الكناية كما فى قوله زيجمع أمرهس والتشبيه كما فى قوله (دار النسيب)
والاستعارة كما فى قوله (ساطع البرهان) وكذلك التشبيهات البليغة فى قوله (هم عاقلى،
هم ناظرى، ولساني) وكذلك الاستعارة فى (أطفى بهم حر) والكناية فى قوله (يقال بثان)
وكذا التصوير البيانى المركب كما فى قوله (ذاق قلب لذة الإيمان) وفى ذلك كله توضيح
للمعنى وتجسيده، والاتيان به مصحوبا بالدليل عليه فى دقة وإيجاز، وأخيرا نجد بأننا
أمام لوحة فنية تماثلت جوانبها، واتضحت خطوطها فى ألفاظ تدل على الصوت واللون
والحركة والظلال.
سيد عبد اللطيف
الظلال (3)
﴿ولله يسجد من فى السموات ومن فى الأرض طوعا
أو كرها وظلالهم بالغدو والآصال﴾ قلنا سابقا أن�
الظلال ثلاثا، ظلال خلقها الحق سبحانه وتعالى وهى توجهات أسمائه الإلهية على
الأعيان، وظلال يخلقها الإنسان بنفسه وهو الأمد الذى يتوهمه أو تخيله بحيث يكون
مسيطرا عليه، وظلال يخلقها له شيطان- فهذه ظلال إفك ليس حق، فإما أن تؤثر فيه هموم
الدنيا كجمع المال واللهث وراء الشهوات، وإما أن يؤثر فيه إبليس، ولكن من الضرورى
أن تعلم أن كل إفك لا يطابق الحقيقة يكون إفكا، وهذه مسألة دقيقة، فربما يتوهم
الإنسان شيئا فيخبر به دون علم بل كذبا، ويكون فى الواقع مطابقا لما أرده الله
سبحانه وتعالى، فيقع الأمر كما أخبر به، كإخبار المنجم بشئ حسب ما يتوهمه، ولكن
وهمه طابق الحقيقة فيأتى خبره كما قال مع أنه كاذب، فكذبه كان فى توهمه الخبر لا فى
الخبر ذاته، فالخبر ذاته حقيقة وقعت كما قال أو كما أخبر، ولكى نفهم هذه الدقيقة
فلابد أن يكون هناك مقابل لها، فمثلا الرؤيا الصادقة قد لا تقع مع أنها حق كرؤيا
سيدنا إبراهيم ذبح ابنه، فهى رؤيا حق مع أنها لم تقع لأن الله سبحانه وتعالى كذب
مارآه الخليل وأراده سبحانه وتعالى، فتكون له ظلال، ولكن الله بعد ذلك محا هذا
الأمر وأثبت بدلا منه فى معنى قوله تعالى ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾.
فلو رأى شخصا رؤيا فيها مسجدا أو شخص، فما رأى ذات المسجد أو ذات الشخص
الذى رآه وإنما رأى ظله، وهذا أمر سائر فى الرؤيا سواء كانت رؤيا صادقة أو غير ذلك،
فالذى يرى فى المنام ظلال الأعيان لا عين الأشياء، ولذلك وجب تعبير الرؤيا، لأن
تعبير الرؤيا يتفق مع معرفة المرئيات لظلالها، والمعبر لابد أن يكون عنده وحى إلهام
ليكون عنده القدرة على التعبير، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(الرؤيا على جناح طائر إذا فسرت وقعت) وروى أن رجلا دخل على سيدنا عمر بن الخطاب
رضى الله عنه وهو فى مجلسه، وسأله عن رؤيا، أنه رأى أنه لبس ثوبا جديدا ثم خلعه،
فقال له سيدنا عمر لبسك الثوب دخولك فى الدين وخلعك الثوب خروجك منه، فقال الرجل
أنا لم أقصد بل لم أرى رؤيا، فقال له قضى الأمر، وكذلك كانا صاحبى السجن مع سيدنا
يوسف عليه السلام، فالتعبير علم ومعرفة فمن ليس عنده علم ومعرفة لا يجوز ولا يحق له
التعبير أو التفسير.
وأما ما يراه النائم من تلك الظلال، فما هى ظلال خلقها الله وإنما ما
توهمه هو أو خلقها له الشيطان، وهذه تسمى أضغاث أحلام.
�فكما
يتصور الإنسان فى نومه أشياء كذلك يتصور أيضا فى حال يقظته، ولكن اشتغاله فى اليقظة
بالمحسوسات المرئية يخلط عليه ما يراه بعينه فيما رآه بخياله فيكون ذلك عنده أضغاث
أحلام بل أشد اختلاطا، وكما يصور له شيطانه فى النوم، يصور له أيضا فى حال يقظته،
فيجعل الصور القبيحة صور حسنة أو العكس، أو يصور له الشئ الحسن قبيحا أو العكس،
فيجعله يكره الخير ويحبب إليه الشر، فالشيطان يزين لك فى الظاهر كما يزين لك فى
الباطن، وإلى لقاء آخر مع الظلال.
محمد رشاد
المـوت والحـيـاة
يعتقد كل ضال من الخوارج الوهابية وغيرهم بأن الموت عبارة عن العدم. ولا
قائل به غير الكافرين الذين هم على مبادئ الشيطان وحزبه، فهم على تلك المبادئ تبع
لذلك الحزب، لأن العقلاء يفهمون أن الخلق في كل شيء على حالتين إيمان وكفر، ضلال
وهدى، حتى في الحزبية حزب الشيطان وحزب الرحمن وهكذا كما لا يخفى على كل ذي بصيرة-
قال الله تعالى في عقيدة الكافرين ومن على مبادئهم ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتولو
قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور﴾ فكل
هؤلاء شركاء في العقيدة فيقولون: إن الموت عدم وفناء وعليه يبنون أن الذاهب للميت
ذاهب إلى عدم وفناء، وهو معارض لصريح القرآن والسنة، فعقلاء الأمة رضي الله عنهم
يقولون: إن الموت والحياة، وصفان يقومان بالموصوف في كل يشء بحسب قوله تعالى ﴿الذي
خلق الموت والحياة﴾ الآية فموت الأرض، عدم النبات، بها، وحياتها بالنبات فيها قال
تعالى ﴿والله أنزل من السماء ماءاً فأحيينا به الأرض بعد موته﴾ وموت الكافر وهو
حي يجري على الأرض بعدم الإيمان كما قال تعالى ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا
له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات﴾ الآية فلا يخفى أن الموت في
الحيوان وصفه بعدم الحركة، وفي النبات يبسه وفي الجماد تفرق أجزائه. والحياة في كل
ذلك بضده يعني في الحيوان بالحركة، وفي النبات بالخضرة، وفي الجماد بتماسك أجزائه.
ولما كانت الحياة منها ما هو معتبر الصنعة، ومنها ما هو غير معتبر فعد الله تعالى
المؤمن به وبأنبيائه وآياته حياة طيبة. ومن كان بخلاف ذلك فليس بذي حياة طيبة
فحياته كحياة غيره من غير الآدميين. ولما كان وصف الموت والحياة مشتبهان في حالة
النور واليقظة فرق الله تعالى بينهما بقوله تعالى ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها
والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى﴾ الآية.
فحال النائم كحال الميت سواء بسواء في عدم الحركة في كل فالفارق بينهما قيام الحي
يسعى في الأرض إلى أجل مسمى والميت عدم الحركة مطلق. ولما كان الموت والحياة
عنواناً لهاتين الصفتين. ذكر الله عز وجل الفارق بينهما بالنسبة للدنيا والآخرة إذ
قد سمي سبحانه وتعالى لكل منهما حياتاً وموتاً فبين عز من قائل أن حياة الآخرة
أرقى وأعلى وأرفع من حياة الدنيا فقال تعالى: ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا
متاع﴾ الآية وفي الآية الأخرى ﴿وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل﴾ وباعتبار ما
قدمنا من أن الموت عدم الحركة والحياة الحركة فهم الكافر قبل وجوده في الدنيا موت
وفي الدنيا حياة، وفي القبر موت وبعد قيامه ودخوله جهنم حياة أخرى فقال: ﴿ربنا
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل﴾ الآية. فتعرف
من هنا ومما قدمنا لك أن الله عز وجل ذكر أن للدنيا حياة وللآخرة حياة فكيف يقر
ويقول المخالف الملحد بحياة الدنيا وينكر حياة الآخرة التي هي أحيا من حياة الدنيا
بصريح كلام رب العالمين وبيان سنة سيد الأولين ولا فاصل ولا فارق ولو لحظة بين
الحياتين بل ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة أرقى منها متصلاً بها اتصال اليقظة
بالنوم والجوع بالشبع والألم بالصحة، والفقر بالغنى والكفر بالإيمان، والليل
بالنهار، فهل يا أخا العقل فاصل بينهما أو فتور؟ إن ربك القادر جل وعلا جعل
الموجودات متصلة لا انفصال بينهما إلا في عقل المخالف ونظر أعمى البصيرة والله يهدي
من يشاء إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
واعلم أن الموت والحياة ترق في الوجود بالدليل العقلي المستفاد من
الدليل النقلي: الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فالعقلي هو اعتقاد أنه ما تعلقت
قدرة الحق عز وجل بإيجاد موجود إلا ويترقى في الحياة أبداً لا يلحقه العدم
بالمشاهدة والعيان وذلك في كل شيء بحسبه بمعنى أن ترقيه في الوجود بالانتقال من
حالة إلى حالة أرقي منه. إذ الموجد جل وعلا ما أوجده إلا بمقتضى كماله، وكمالاته
سبحانه وتعالى لا تتناهى إذ ما من كمال إلا وعند الله أكمل منه. وأيضاً أنه تعلقت
صفته تعالي به وهي حي بالموجود ولو انعدم هذا الموجود لتعطلت الصفة التي هو أي
الموجود بها حي، وصفات الله تعالى لا تتعطل.
وأما النقلي فقد قال تعالى بعد أن سمي الحياتين الدنيا والآخرة ﴿وإن
الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ وقال صلى الله عليه وسلم مفصلاً لتلك
الحاتين بقوله الشريف (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ولما كان حال الدنيا مبنياً
على تفاوت ودرجات الموجودات فيها فقد قال تعالى في النبات ﴿يسقى بماء واحد ونفضل
بعضها على بعض في الأكل﴾.
وفي الجمادات قال تعالى ﴿ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها
وغرابيب سود﴾ الآية. وقال تعالى في الدواب والهوام والحشرات والطيور والوحوش
والأسماك أنهم كبني آدم في الأحوال الاجتماعية ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ وفي بني آدم الذي هو محل نظر الحق عز وجل من هذا الخلق
الذي خلق له تلك الأشياء جمعاء وغيرها لم يجعل واحداً منهم يماثل الآخر بل التفاوت
في جميع أفراده بل ما اشتمل عليه الفرد من الجزيئات في عموم مركباته جل الصانع
المبدع قال تعالى ﴿ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات﴾ وفيما فيه فخره في الدنيا وعزه
وشرفه فيما بينهم قال تعالى ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾
وفيما فيه جاههم من حيث الغنى بالمال قال تعالى ﴿ولقد فضلنا بعضكم على بعض في
الرزق﴾ وهذا في عموم أفراد بني آدم فقد جعل تعالى الفروق بينهم متباينة لا ينكرها
إلا كل مكابر من الذين يقولون اعمل وأنت تكون مثله.
|