ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت
ممن استبصر من أبناء الملوك ورأى عيب الدنيا وزوالها سيدنا إبراهيم بن
أدهم بن منصور رضى الله عنه، فكان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، لما زهد
الدنيا زهد فى ثمانين سريرا، فقال ابن بشار: سألت إبراهيم بن أدهم كيف كان أمرك حتى
صرت إلى هذا؟ فقال: كان أبى من ملوك خراسان وكان قد حبب إلى الصيد، فبينما أنا راكب
فرسى ومعى كلبى إذ رأيت ثعلبا أو أرنبا، فحركت فرسى نحوه، فسمعت نداء من ورائى (يا
إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت) فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت:
لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسى، فسمعت نداء أعلى من الأول (يا إبراهيم ما لهذا
خلقت ولا بهذا أمرت) فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله الشيطان،
ثم حركت فرسى، فسمعت النداء من قربوس سرجى (يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت)
فوقفت وقلت: هيهات جاءنى النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربى ما عصمنى بعد
يومى هذا، فتوجهت إلى أهلى وخلفت فرسى وجئت إلى بعض رعاة أبى، فأخذت جبته وكساءه
وألقيت إليه ثيابى، فلم أزل أرضا تقلنى وأرضا تضعنى حتى صرت إلى العراق، فعملت بها
أياما فلم يصف لى شئ من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال: عليك بالشام،
فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية، فعملت بها أياما، فلم يصف لى شئ من الحلال،
فسألت بعض المشايخ فقال: إن أردت الحلال فعليك بطرسوس فإن المباحات بها والعمل فيها
كثير، فانصرفت إليها، فبينما أنا على باب البحر إذ جاءنى رجل فاكترانى لأنظر له
بستانا، فتوجهت معه، فأقمت فى البستان أياما كثيرة، فإذا خادم له قد أقبل ومعه
أصحاب له ولو علمت أن البستان بخادم ما نظرته، فقعد فى مجلسه ثم قال: يا ناطورنا،
فأجبته، قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه، فأتيته برمان، فكسر الخادم
واحدة، فوجدها حامضة، فقال: يا ناطورنا أنت منذ كذا وكذا فى بستاننا تأكل من
فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟ فقلت والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا،
ولا أعرف الحلو من الحامض، قال: فغمز الخادم أصحابه، وقال: ألا تعجبون من هذا، ثم
قال لى: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة، قال: ثم تحدث الناس بذلك،
وجاءوا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون، وأنا هارب منهم.
ويقول سيدى فخر الدين رضى الله عنه أن سيدى ابراهيم بن أدهم كان فى
فترة السياحة وهو يمر ببلاد الله أمسى عليه الوقت فى قرية ما، وكان مسجد هذه
القرية على ربوة عالية له درج من الحجارة فصعد لصلاة المغرب والعشاء وطلب المبيت
وكان الوقت شتاء قارص البرودة، وبعد أن صلى الناس العشاء لم يضيفه أحد للطعام أو
المبيت فرضى بقسمته من الجوع والنوم بالمسجد يحتمى بجدرانه من ريح الشتاء، وحدث
مالم يكن بالحسبان، إذ جاءه خادم المسجد وقال له أيها الغريب أظنك تريد المبيت
بالمسجد؟ فقال سيدى إبراهيم نعم، فقال له الرجل هذا من ضروب الإستحالة أن تنام
بالمسجد وأنا سوف أغلق النوافذ وأريد أن لا أراك بعد إغلاق النوافذ لأننى إذ وجدك
فسوف أسحبك من قدمك لألقى بك على درج السلالم إلى الشارع أفهمت؟ فلم يعبأ سيدى
إبراهيم بالتهديد وقال لا يمكن لمسلم أن يفعل بالضيف كما وصف فهو ضرب من المحال،
ولكن الرجل عاد إليه بعد أن أغلق النوافذ وبالفعل قام بسحبه من قدمه ونزل به كل
الدرج الحجر إلى الشارع فدميت وجنتاه وأنفه وأصيبت يداه ثم وضعـه بجوار غرفة
أسفل الدرج، وقضى سيدى إبراهيم ليله حـائر فى تفسير ما قد حدث له، أهذه أخلاق
المسلمين أم أنه أذنب ذنبا يعاقبه الله عليـه، حتى حان وقت السحر قبل صلاة الصبح،
إذ أقبل شاب صبوح الوجه واتجه مباشرة إلى الغرفة التى بات إلى جوارها وأخرج إناء
ضخما وأوقد نارا وملأ الإناء بالماء ووضعه فوق النار ثم التفت إلى سيدى إبراهيم
وقال السلام عليكم ورحمة الله، فقال له سيدى إبراهيم لم تتذكر السلام إلا الآن ولك
ساعة من الزمان تعمل هنا ولم تقرأنيه، فاعتذر الشاب فى أدب وقال ولكنى كنت أعمل
وآخذ أجرا على عملى وما أحببت أن أنشغل أثناء عملى بالحديث إليك فيكون أجرى محرما
لأننى قد خلطت عملى بحديث معك، فقال سيدى إبراهيم وكم أجرك وكيف تنفقه يا من لا
يخلط حلاله بحرام؟ فقال الفتى ثلاث دنانير أعول أمى بواحد وأطعم نفسى بالثانى
وأتصدق بالثالث، فقال له سيدى إبراهيم وماذا تدخر لمستقبلك وأملك فى الغد مثل اتخاذ
زوجة أو غير ذلك من متطلبات الحياة؟ فقال له الشاب ليس لى طلب عند الله من هذه
الدنيا إلا شئ واحد، فقال له وما هو؟ فقال الفتى دائما أدعو الله بقولى (اللهم أرنى
وجه عبدك إبراهيم بن أدهم ثم اقبضنى إليك) فقال له سيدى إبراهيم إذاً لأجلك فعل
الله بى ما فعل البارحة وألقونى فى الشارع لكى ترانى؟ فقال الفتى هل أنت سيدى
إبراهيم بن أدهم ثم حملق فى وجهه مسرورا وقال اللهم إنك قد أنجزت لى طلبى فاقبضنى
إليك ثم شهق فمات.
محمد صفوت جعفر