قصص
قيل: ما استدعي شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي، والمكان
الخضر الخالي، وقيل: أمسك على النابغة الجعدي أربعين يوماً فلم ينطق بالشعر، ثم إن
بني جعدة غزوا، فظفروا، فاستخفه الطرب والفرح، فرام الشعر، فذل له ما استصعب عليه،
فقال له قومه: والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسر منا بالظفر بعدون. وقال أبو
نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال. وقال:
الرجال الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاؤوا، جائز لهم فيه ما لا يجوز
لغيرهم من إطلاف المعنى وتقييده، ومن تسهيل اللفظ وتعقيده، وقيل: وفد زياد بن عبد
الله على معاوية فقال له: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرضت القريض. قال: نعم. قال:
أرويت الشعر؟ قال: ل. فكتب إلى عبد الله أبا زياد بارك الله لك في ابنك فأروه
الشعر، فقد وجدته كاملاً، وإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ارووا الشعر
فإنه يدل على محاسن الأخلاق، ويقي مساويها، وتعلموا الأنساب فرب رحم مجهولة قد
وصفت بعريان النسب، وتعلموا من النجوم ما يدلكم على سبلكم في البر والبحر، ولقد
هممت بالهرب يوم صفين، فما ثبتني إلا قول القائل:
أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
*********
نبذة من سرقات الشعراء وسقطاتهم
�فمن ذلك قول قيس بن الخطيم وهو شاعر الأوس
وشجاعها:
وما المال والأخلاق إلا مـعـارة فما استطعت من معروفها فتزود
وكيف يخفى ما أخذه مع اشتهار قصيدة طرفة بن العبد وهي معلقة على
الكعبة يقول فيها:
لعمـرك مـا الأيام إلا مـعـارة فما استطعت من معروفها فتزود
�ومن فلك قول عبدة بن الطيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحـد ولكنه بنيان قـوم تـهــدمـا
�أخذه من قول امرىء القيس:
فلو أنها نفسي تموت شريتهـا ولكنها نفس تساقط أنفســـا
�ويقال من سرق شيئاً واسترقه، فقد استحقه، وهو أن
يسرق الشاعر المعنى دون اللفظ. فمن السرقة الفاحشة قول كثير في عبد الملك بن مروان:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه حصان عليها عقد در يزينها
�أخذه من قول الحطيئة ولم يغير سوى الروي:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه حصان عليها لؤلؤ وشنـوف
�وجرير على سعة تبحره وقدرته على غرر الشعر
وابتكار الكلام نقل قوله:
فلو كان الخلود بفضل قوم على قوم لكان لنا الخـلود
�
من قول زهير وهو شعر مشهور يحفظه الصبيان وترويه النسوان وهو:
فلو كان حمد يخلد المرء لم يمت ولكن حمد المرء غير مخـلـد
�
وقد قال الشماخ:
وأمر ترجي النفس ليس بنافـع وآخر تخشى ضيره لا يضيرها
�وهو مأخوذ من قول الآخر:
ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه وتخشى من الأشياء مالا يضيرها
�
وأبو تمام مع قوته وقدرته على الكلام يقول:
وأحسن من نور تفتحه الصـبـا بياض العطايا في سواد المطالب
�أخذه من قول الأخطل:
رأيت بياضاً في سـواد كـأنـه بياض العطايا في سواد المطالب
*********
خطب معاوية يوما فقال: إن الله تعالى يقول: ﴿وإن من شي إلا عندنا
خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾، الحجر21 :، فعلام تلوموني إذا قصرت في عطاياكم
فقال له الأحنف: وإنا واللـه لا نلومك على ما قي خزائن الله ولكن على ما أنزله الله
لنـا من خزائنه فجعلته في خزائـنـك وحلت بـيننا وبيـنه.
نفحات وعبر
قيل دخل مجنون الطاق يوماً إلى الحمام وكان بغير مئزر فرآه أبو حنيفة
رضي الله تعالى عنه وكان في الحمام فغمض عينيه فقال المجنون: متى أعماك الله؟ قال:
حين هتك سترك.
*********
حكي عن الحجاج أنه خرج يوماً متنزهاً فلما فرغ من نزهته صرف عنه
أصحابه، وانفرد بنفسه، فإذا هو بشيخ من بني عجل فقال له: من أين أيها الشيخ؟ قال: من
هذه القرية، قال: كيف ترون عمالكم؟ قال: شر عمال، يظلمون الناس، ويستحلون أموالهم،
قال: فكيف قولك في الحجاج؟ قال: ذاك ما ولي العراق شر منه قبحه الله، وقبح من
استعمله، قال: أتعرف من أنا؟ قال: لا، قال: أنا الحجاج، قال: جعلت فداك أو تعرف من
أنا؟ قال: ل. قال: فلان بن فلان مجنون بني عجل أصرع في كل يوم مرتين، قال: فضحك
الحجاج منه وأمر له بصلة.
*********
خطب علي رضي الله عنه فقال في خطبته: عباد الله الموت ليس منه فوت، إن
أقمتم أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، الموت معقود بنواصيكم، فالنجا النجا والوحا
الوحا، فإن وراءكم طالباً حثيثاً وهو القبر، ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة أو
حفرة من حفر النار، ألا لأنه يتكلم في كل يوم ثلاث كلمات فيقول: زأنا بيت الظلمة،
أنا بيت الوحشة، أنا بيت الديدان ألا وإن وراء ذلك اليوم يوماً أشد منه يوماً يشيب
فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير زتذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديدس الحج.2: ألا وإن وراء ذلك
اليوم يوماً أشد منه فيه نار تتسعر حرها شديد وقعرها بعيد، وحليها حديد، وماؤها
صديد، ليس لله فيها رحمة، قال: فبكى المسلمون بكاء شديداً، ثم قال: ألا وإن وراء
ذلك اليوم زجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقينس، آل عمران133 :، أدخلنا الله
وإياكم دار النعيم، وأجارنا وإياكم من العذاب الأليم.
*********
حكي أنه كان في زمن هارون الرشـيد قد حصل للناس غلاء سعر وضيق حال حتى
اشتد الكرب على الناس اشتداداً عظيماً، فأمر الخليفة هارون الرشيد الناس بكثرة
الدعاء والبكاء، وأمر بكسر آلات الطرب، ففي بعض الأيام رؤي عبـد يصفق ويرقـص ويغني،
فحمل إلى الخليفة هارون الرشيد، فسأله عن فعله ذلك من دون الناس، فقال: إن سيدي
عنده خزانة بر، وأنا متوكل عليه أن يطعـمني منها، فلهذا أنا إذاً لا أبالي فأتا
أرقص وأفرح، فعند ذلك قال الخليفة: إذا كان هذا قد توكـل على مخلوق مثله، فالتوكل
على الله أولى، فسلم للناس أحوالهم، وأمرهم بالتوكل على الله تعالى.
أمثال
وحكم
حكي أن حاتماً الأصم كان رجلاً كثير العيال، وكان له أولاد ذكور
وإناث، ولم يكن يملك حبة واحدة، وكان قدمه التوكل فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث
معهم، فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدثهم،
ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجاً، ويدعولكم ماذا
عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئاً ونحن على
ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة؟
وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك، دعوه
يذهب حيث شاء، فإنه مناول للرزق، وليس برزاق، فذكرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه
الصغيرة يا أبانا انطلق حيث حببت، فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج، وخرج مسافراً،
وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسف على فراقه
أصحابه وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة ويقولون: لو سكت ما تكلمنا، فرفعت
الصغيرة طرفها إلى السماء.
وقالت: إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم،
ولا تخجلني معهم، فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيداً، فانقطع عن
عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى
منهم ماء، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم، فرفعت زوجة
حاتم رأسها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعا.
واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزاً جديداً
وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه، فاستطاب
الشرب من ذلك الماء فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله بل لعبد من عباد الله
الصالحين يعرف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به، فقال الوزير: يا سيدي لقد
سمعت أنه البارحة أحرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئاً، وأخبرت أنهم البارحة
باتوا جياعاً، فقال الأمير: ونحن أيضاً قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن
يثـقل مثلنا على مثلهم، ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار.
ثم قال لأصحابه: من أحبني، فليلق منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم
ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا، وقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم
الساعة بثمن هذه المناطق، فلما أنزل الأمير رحع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن
المناطق مالاً جزيلاً واستردها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء
شديداً، فقالوا لها: ما هذا البكاء. إنما يجب أن تفرحي، فإن الله قد وسع
علينا.
�فقالت: يا أم. والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة
جياعاً، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر
إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا، ودبره بأحسن التدبير، هذا
ما كان من أمرهم.
|