الـقـواطـع

بالحقائق ناطقين

من نحب ونرضى

 

الـقـواطـع

النفس اللوامة

للناس بين تقارب وتنائى

 

من بعدها لوامة بدهائها

انتهينا فى عددنا السابق بالحديث عن النفس الأمارة وحديثنا اليوم عن النفس اللوامة، وصفات هذه النفس: اللوم والكبر والعجب والاعتراض على الخلق والرياء الخفى وحب الشهرة والرئاسة ولكن مع وجود هذه الصفات الذميمة إلا أنها ترى الحق حقا والباطل باطلا، وتعلم أن هذه الصفات مذمومة ولكنها لا تقدر على الخلاص منها، ولكن لها رغبة فى المجاهدة وموافقة الشرع، ولها أعمال صالحة من أفعال البر ولكن يدخلها العجب والرياء، فيحب صاحب هذه النفس أن يُطلع الناس على ما هو عليه من الخير مع أنه يخفيها عليهم ولا يظهرها لهم ولا يعمل لهم بل عمله لله تعالى إلا أنه يحب أن يشكره الناس ويثنى عليه من جهة أعماله وأفعاله ولا يمكنه الإقلاع عن هذه الخصلة ورفعها من قلبه، لأنه لو فعلها لكان مخلصا بلا خطر ولكن واقع الحال أن المخلصين على خطر عظيم كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم (الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم) لأن المخلص يحب أن يعرف أنه مخلص وهذا هو الرياء الخفى، وهذا العمل قد ذمه الشرع فإذا كنت متصفا بهذه الصفات فأنت فى المقام الثانى ويقال لنفسك النفس (اللوامة) وهو مقام لا يسلم صاحبه من الخطر ولو أخلص فى أعماله، فلابد من ترك هذا المقام والترحل إلى غيره لأجل الوصول الى المقام السابع والذى تسمى فيه النفس بالنفس (الكاملة) فهذا المقام هو مقام النفس اللوامة فيه من الخطر العظيم والتعب المقيم ما يخشى على السالك منه، ولك مثلا يوضح الخلاص من هذه النفس، فالشجرة الخبيثة عظيمة الجزع كثيرة الأغصان، وكل غصن منها يثمر نوعا من السم القاتل فإذا جاء أناس واشتغلوا فى قطع تلك الأغصان ولم يتعرضوا لقطع الشجرة من أصلها ولا لقطع الماء عنها حتى تجف ويتخلصوا منها ويريحوا أنفسهم عن الاشتغال بقطع الأغصان الكثيرة، لأنه كلما قطع غصن نبت غيره ويظل هكذا، فكذلك صاحب هذه النفس يظل على حاله إلى أن يلقى الله على جهل بربه، فالشجرة مثال لبطن الإنسان، والأغصان مثال للصفات الذميمة، والثمرة مثال لما يحصل من هذه الصفات الخارجة منها من الآثار أقصد الفعل وهو التكبر على الخلق والاعتراض عليهم والإيذاء باليد أو باللسان وغير ذلك من الأفعال الذميمة.

فاعلم يا أخى أن هناك من علم أن هذه الصفات مهلكة له فى الدنيا والآخرة فسعى فى إزالتها شيئا فشيئا فلم يستطع إزالتها بالكلية بل إذا خلص من صفة فى يوم اتصف بها فى يوم آخر والسبب فى ذلك أنهم يملأون بطونهم، فتقوى بشريتهم ويكثر دمهم ويتمكن الشيطان منهم كما قال صلوات ربى وسلامه عليه (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجرى من أحدكم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع) ولا يستطيع على إزالة أية صفة منها بالكلية، وإن زالت بعض الصفات فى وقت من الأوقات بسبب خوف لحقه أو سماع أى شئ من أحوال القبر والملكين والزبانية، فإذا ذهب عنه الخوف عاد كما كان قبل ذلك، وهناك من علم ذلك فقلل من طعامه فقل نومه وقل كلامه لأن الجوعان سهران لا يشتهى الكلام فإذا استمرعلى ذلك لم يبق عنده شئ من هذه الصفات الذميمة وذلك لأنهم محوها من أصلها حتى أنهم لم يخطر ببالهم شئ منها فتراهم خالين من الهم والغم لا يتأذون من أحد ولا يأذون أحد ولا يصدر منهم أى فعل قبيح، فالحق قد كفاهم هموم الدنيا والآخرة.

وقال السادة أهل الذكر يكون الذكر فى هذا المقام بالاسم (الله) مع تشديد اللام وإظهار الهاء فى الاسم حتى يكون ذكرك صحيحا، وإذا ذكرت بهمة قلت الخواطر الشيطانية لإن ذكرك بهذا الاسم يحرق جميع الخواطر والوساوس، واعلم أنك لا تستطيع ان تتخلص من الخواطر بالكلية إلا بمن تراقب، فاجمع همتك إليه لأن القلب متوجه إلى الخلق فإذا توجه القلب إلى الخلق نقشت عليه أفعال الخلق محاسنهم وقبائحهم وحركاتهم وسكناتهم وكلامهم، أما إذا وجهت القلب الى الحق انطبعت صورته فى قلبك وغاب عنك صور الخلق تدريجيا فلا ترى لهم صورة ولا تسمع لهم كلاما وكل ذلك لا يكون إلا بهمة عالية، فإذا أردت المقامات العالية فاشتغل بربك لكى تخرج منك آثار صفات هذه النفس، واعلم أن القلب محل نظر الحق وتصفية قلبك فرض عليك، وهذا الفرض قد غفل عنه الكثير، واعلم أن القلب متقلب لا يستقر أبدا ولهذا سمى (قلب) لكثرة  تقلبه ولذلك يقولون قبل تصفية القلب (يا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك) وبعد التصفية يقولون (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) ومعناها التقلب من الغفلة إلى الذكر ومن البكاء إلى الضحك ومن الخوف إلى الأمن ومن القبض إلى البسط وفى هذا يقول الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

قلوبكم فى السابقات مميطة

 

وذلك حتى تنهلوا وتقلبوا

محمد رشاد حسين

بالحقائق ناطقين

الشيخ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصرى، المعروف بابن الأعرابى، صحب الإمام الجنيد والشيخ النورى وغيرهما، وكتب وصنف فى التصوف وفى غيره، سكن مكة ومات بها سنة أربعين وثلاثمائة عن عمر يناهز ثلاث وستين سنة.

من كلامه رضى الله عنه: أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.

وسئل عن أخلاق الفقراء، فقال: أخلاقهم السكون عند الفقد، والاضطراب عند الوجود، والأنس بالهموم، والوحشة عند الأفراح.

وقال: خرجت فى بعض السنين من مكة أريد العراق، ومعى جماعة من الفقراء، فجئنا إلى بئر فى بعض المنازل، وليس معنا ما نستقى به، فقطعنا ما معنا من العباء، وشددناه فى ركوة، وسقيت أصحابى، ثم أدليته لأشرب فانقطعت الركوة والحبل، فارتفع الماء حتى شربت، فتعجب أصحابى، فقلت: مم تتعجبون؟!! هذا يسير فى القدرة.

ودخلنا الكوفة فاجتمع على طرف من الصوفية، فجلسوا يسيرا ثم قاموا لزيارة أخوين تحابا، أحدهما عليل، فقلت: أنا معكم، فدخلنا على رجل طريح، والآخر ينظر فى وجهه، فلما دخلنا قام وجلس فى ناحية، فجلس أصحابى عند العليل وأقبلت أنا على الآخر، وكلما تأوه العليل تأوه الآخر، فقال أصحابى: قد مات، فقال الآخر: آه، وفاضت روحه، فصلينا عليهما.

محمد العروسي   طنجه

من نحب ونرضى

كمال العطاء

إلى الحبيب ابن الحبيب أبو الحبيب إلى عطاء الله إلى المصطفى من السيد البرهانى إلى صاحب الحمى .. إلى الأب الذى تعجز أى كلمات عن ذكر خصائصه ومعانيه .. إلى الإمام ابن الإمام أبو الإمام .. إلى مولانا الشيخ إبراهيم الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى رضى الله عنهم أجمعين، يقول الإمام فخر الدين رضى الله عنه:

من كمال العطاء من فيض وهب

 

أيها الناس جاءكم إبراهيم

فهذا هو البيت الأول من القصيدة الثانية عشر من ديوان (شراب الوصل) للإمام فخر الدين رضى الله عنه، وفيه يضعنا رضى الله عنه أمام حقيقة غاية فى الأهمية وهى أن مولانا الشيخ إبراهيم جاءنا من فيض الوهاب سبحانه وتعالى، والفيض لغة من فاض الشئ أى كثر، وفاض الماء أى كثر حتى سال، وفاض الإناء أى امتلأ حتى طفح، وفاض الخبر أى ذاع وانتشر وذلك أن الوهاب وهو اسم من أسماء الله عز وجل يدل على الهبة وهى العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت العطايا بهذه الصفة يسمى صاحبها جوادا وهابا ولن يتصور الجود والعطاء والهبة حقيقة إلا من الله تعالى، فالوهاب هو الذى يعطى بلا أسباب وفى هذا البيت العطاء من الوهاب تعالى قد فاض وكثر وكمل، وبالتنسيب إلى القرآن يتضح لنا أن فعل الوهاب تعالى ذكر فى آيات كثيرة، وفى أكثر من سورة منها يحمل عطاء، ففى سورة (ص) الآية 30 {ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب} فهذا عطاء الله تعالى لسيدنا سليمان عليه السلام من اسمه تعالى الوهاب، وفى سورة مريم الآية 19 {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} من اسمه تعالى الوهاب أيضا، وفى سورة الأنبياء الآية 90 {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} وهذا العطاء أيضا من اسمه تعالى الوهاب لسيدنا زكريا عليه السلام.

ولكن فى هذا البيت وفى الشطر الأول المكون من 6 كلمات أراد شيخنا رضى الله عنه أن ينبهنا أن هذا العطاء الكامل الكبير آتٍ من فيض الوهاب عز وجل حيث الآيات الكريمة بالسورة رقم 6 (الأنعام) والتى فاض فيها الوهاب سبحانه بالعطاء الزائد فوق الحاجة حيث يقول تعالى {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} آية 83 والحجة هنا إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانية الله تعالى - وذلك فى الآيات السابقة لهذه الآية - وإتيانه إياها هو إرشاده وتعليمه الحجة حيث يرفع الله من يشاء من عباده بالعلم والحكمة أو اليقين والمعرفة والترقى فى شهود رب العالمين وذلك بالتبتل والانقطاع، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأنس وذلك كما ورد فى تفسير البحر المديد لابن عجيبة رضى الله عنه أ. هـ ثم قال تعالى {ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين(86) ومن أبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم(87) ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده..} فلم نر من الإسم الوهاب عطاءً كاملا مثلما فاض منه تعالى فى هذه السورة التى اشتملت الأباء والذرية والإخوان وأن المحسنين يجازيهم المولى تبارك وتعالى بأن يهب لهم الذرية الصالحة التى تكون أئمة يهدون الناس إلى التوحيد الحق ويرزقهم العلم والحكمة والأدلة والبراهين والبصائر حتى يكونوا صراطا مستقيما يرشدون الخلق إلى الله تعالى الواحد الأحد.

ولإحسان شيخنا فخر الدين رضى الله عنه أنه ذرية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية سيدنا إبراهيم عليه السلام والذى أخبر المولى تبارك وتعالى عنهم فى هذه الآيات الكريمة فقد وهبه مولانا الشيخ إبراهيم رضى الله عنه فكان من حظنا نفعنا الله به فى الدنيا والآخرة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

محمد مقبول